إيران بين روحاني ورئيسي.. هل من جديد؟

https://rasanah-iiis.org/?p=25527

مقدمة

غادرت حكومة الرئيس حسن روحاني السلطة، وتستعدّ حكومة إبراهيم رئيسي لتولِّي المسؤولية، فيما تسود أجواء سياسية متباينة حول مدى قدرة الحكومة الجديدة على مواجهة التحديات الراهنة. فقُبَيل رحيله لم يشأ روحاني أن يترك الساحة دون أن يلقي كلمة أخيرة في الثاني من أغسطس 2021م، بهدف تبرئة حكومته من المسؤولية عن الأوضاع التي آلت إليها البلاد، والكشف عن بعض نجاحاته التي تَعمَّد النظام إخفاءها، في الوقت نفسه ألقى فيه الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي كلمة في مجمع الهيئات المرتبطة بمكتب المرشد وسط طهران، في أثناء مراسم تنصيبه في الثالث من أغسطس 2021م، عكست السجالات والجدل الذي تشهده الساحة الإيرانية بشأن التحديات الأساسية التي تشغل الرأي العامّ الداخلي والخارجي، وأبرزها الأزمة الاقتصادية والموقف من المفاوضات النووية، كما اتضح من الخطابين وجود خلاف جوهري في المنطلقات وبرنامج العمل الذي يتبناه كل فريق لمواجهة هذه التحديات.

يحاول هذا التقرير أن يقدّم قراءة في خطابَي إبراهيم رئيسي وحسن روحاني، وذلك على ضوء التطورات الداخلية والخارجية، لاستكشاف حدود الخلاف بين نهجيهما، وأهمّ ما يقدمانه من معالجات وبرامج، وفرص نجاح تصورات رئيسي على ضوء خبرة تعامل حكومة روحاني مع الأزمات نفسها.

أولاً: إرث معقَّد من الأزمات

يبدأ الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي مهامّ منصه في مواجهة أزمات حادة، اعترف بها خلال مراسم تسليم السلطة، إذ أشار إلى بعض ملامح الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وأبرز مظاهرها عجز الموازنة، وسيادة حالة من عدم الاستقرار في البورصة والأسواق المالية، مع عدم القدرة على السيطرة على معدَّل التضخم الذي زاد بنسبة 44%، والغلاء ونموّ السيولة التي زادت بنسبة 680%.

كما تشهد إيران موجة واسعة من الاحتجاجات الإقليمية والفئوية نتيجة تردِّي الأوضاع المعيشية ونقص شديد في الخدمات الأساسية، كان أبرزها في إقليم الأحواز الذي انتفض على أثر عوامل مباشرة مرتبطة بشُحّ المياه، وعوامل غير مباشرة اقتصادية وسياسية وثقافية ارتبطت بسياسات ممنهجة ضدّ سكان الإقليم، وقد تزامنت هذه الانتفاضة مع موجة من الاحتجاجات على خلفية انقطاع الكهرباء في عدد من المدن الإيرانية، واحتجاجات فئوية لعديد من العمال والمهنيين للمطالبة بتحسين أوضاعهم ودخولهم.

ويعود بعض من جوانب هذه الأزمات إلى انهيار الاتفاق النووي، الذي أدى الانسحاب الأمريكي منه إلى تفريغه من مضمونه، وحرمان إيران جَنْيَ ثماره، خصوصًا على الجانب الاقتصادي، بل ووضع إيران تحت نير العقوبات والعزلة، وهو ما حرمها منذ 2018م من قرابة 100 مليار دولار هي مقدار التراجع في الصادرات النفطية، فضلاً عن تجميد أموال إيران في الخارج ووضع قيود صارمة على الاستفادة منها أو تحويلها إلى البنوك الإيرانية، وكان روحاني أشار في آخر حوار له في 3 أغسطس 2021م إلى أن «أهمّ قضايا الحكومة الثالثة عشرة التفاوُض والتفاعُل مع العالَم، ولا خِيار سواه، والملفّ الثاني هو القضايا الاقتصادية».

ثانيًا: وصيَّة روحاني الأخيرة

أكَّد روحاني في آخر اجتماع له قُبيل مغادرته موقعه في الثاني من أغسطس 2021م، أن «الاعتدال والتفاعل البَنَّاء» هو الطريق الأنسب لإنقاذ إيران من أزماتها، وهو بذلك يحاول أن يمايز بين توجهاته «المعتدلة» المدعومة من «الإصلاحيين»، وتوجهات رئيسي «المتشددة»، وقد أنهى روحاني ولايتيه ولا يزال يؤمن بهذا المنهج باعتباره الطريق الأكثر فاعلية لتحقيق مصالح إيران.

يقصد روحاني بالاعتدال والتفاعل على مستوى الداخل هو الابتعاد عن التشدد وتخفيف القيود والوصاية عن المجتمع، وذلك بعكس ما ذهب إليه رئيسي بتأكيده الحفاظ على قيم الثورة ومحاولة استعادة زخْمها في وقت تشهد فيه البلاد حالة من الغضب الواسع ضدّ النظام، بل طال الغضب هيكل النظام نفسه، وخرجت الصراعات الداخلية بين أجنحته إلى العلن، الأمر الذي بات يهدّد تماسك واستقرار هذا النظام.

ويقصد بالاعتدال والتفاعل البَنَّاء على مستوى الخارج الحفاظ على الحوار والدبلوماسية في التعاطي مع الغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا، إذ يؤمن روحاني بالبراغماتية في علاقات إيران الخارجية، مع تأكيده أن ذلك يكون في إطار المصالح الوطنية، وأن التفاوض والحوار لا يعني الثقة بقدر ما يعني المصلحة باعتبارها المبدأ الأساسي في العلاقات بين الدول، التي تقتضي بالضرورة عدم تحقيق مكاسب كاملة، لأن الأطراف الأخرى لديها مصالحها، وهو بهذا يردّ على الاتهامات التي وجَّهها المرشد علي خامنئي إلى حكومته في نهاية يوليو 2021م بقوله: «أينما ربطتم الأعمال بالغرب والتفاوض معه ومع الولايات المتحدة، فشلتم، وحيثما تحركتم بلا ثقة بالغرب وتخليتم عنه، فقد نجحتم ومضيتم قدما».

فروحانييصرّ على أن هذا النهج قد أنقذ البلاد من الحرب التي كان الغرب ينوي أن يشنّها على إيران، ونجح في إبرام الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1، وقد أسفر ذلك عن وقف العمل بسبعة قرارات دولية ضدّ إيران صادرة عن مجلس الأمن، وإعطاء الاقتصاد الإيراني دفعة كبيرة أسهمت في عديد من المشروعات التنموية خلال ولايتيه، وانعكس هذا في وجود دعم شعبي كبير للتحرك في هذا المسار، ويرى روحاني أنه لا خيار سوى التفاوض والتفاعل البنَّاء.

يرى روحاني كذلك أن حكومته قد ظُلمت، لأسباب داخلية وخارجية، إذ وُوجِهَت سياساتها وغُطِّيَ على إنجازاتها الداخلية، كما عادت العقوبات الدولية، فضلًا عن تفشِّي جائحة كورونا، ويرى أن حكومته تعرضت للهجوم بغرض التشويه لا النقد، وأنه شخصيًّا تَعرَّض لهجوم غير مبرَّر، ويقول روحاني إن كل الموضوعات سارت في أُطُر وافق عليها المرشد، لكن حكومته لم تجد دعمًا داخليًّا كافيًا، كما يقول إن «المرشد قال لي (إنك قائد الحرب الاقتصادية)، ولكنني كنت قائدًا بلا جنود ولا عتاد!»، وهنا يحاول روحاني أن يحمِّل المرشد جزءًا من المسؤولية عمَّا آلت إليه الأوضاع، وأن يؤكِّد أنه لم يكن يملك كل الصلاحيات التي تمكِّنه من اتخاذ القرارات.

ثالثًا: خيارات رئيسي وبرنامجه الغامض

على خلاف براغماتية روحاني، ينطلق رئيسي مع مبدأ أيديولوجي يرتكز على الهوية في تحديد مصالح إيران الداخلية والخارجية، إذ أكَّد داخليًّا أن برنامج حكومته هو التغيير، المنبثق عن بيان الخطوة الثانية للثورة، الذي سيكون بمثابة برنامج الحكومة خلال المرحلة المقبلة، أما أهم ملامح حكومته فقد حدَّدها خلال كلمته التي ألقاها عقب مراسم أدائه القسم أمام نواب البرلمان الإيراني، بمناسبة تنصيبه، إذ تَطرَّق إلى معالَم سياسته، التي تضمنت الإشارة إلى أن سياسة الضغط والمقاطعة لن تمنع إيران من المطالبة بحقوقها، وأنه يجب وقف المقاطعة ضد إيران فورًا، وأنه يرحِّب بأي مشروع دبلوماسي يحقِّق هذا الأمر، مشيرًا إلى أن أعداء إيران يشنُّون حربًا ضدَّها، كما حاول إرسال رسائل تطمينية إلى العالَم حول المشروع النووي الإيراني، أشار فيها إلى أن برنامج إيران النووي «سلميّ بالكامل»، وردّد الرواية السابقة بأن الأسلحة النووية محرَّمة شرعًا بفتوى من المرشد.  وفي حضور لرموز ما يُسَمَّى «المقاومة» التي تدعمها إيران، شدَّد رئيسي على أن حكومته ستعمل على التصدي للقوى الاستخبارية والظالمة، وستعمل على دعم الشعب الفلسطيني وستكون صوتًا للمستضعَفين. هذا الجانب من التصريحات يحمل دلالة واضحة على أن النظام الإيراني سوف يواصل مشروعه التوسعي وفكره القائم على تصدير الثورة الإيرانية، إذ وُضعَت رموز «المقاومة» في الصف الأول في دلالة على استمرار النهج الصدامي والتحشيد، وتعزيز دعم الميليشيات والتنظيمات المنتشرة في المنطقة.

ولكي يداعب المتلقِّي الغربي، وقد يبرِّئ نفسه من التهمة التي تُنسَب إليه في ما يتعلق بانتهاك حقوق الإنسان إبان تولِّيه السلطة القضائية، أشار إلى أن حكومته ستسعى للتعامل البَنَّاء مع دول العالَم والدفاع عن حقوق الإنسان.

في ما يتعلق بحل الأزمات الإقليمية، أشار رئيسي إلى أن الحلّ يكمن في وقف التدخل الأجنبي، لأن هذا التدخل هو المشكلة بعينها، كما عبَّر عن مد يد الصداقة إلى دول المنطقة و«مصافحتهم بحرارة»، وردّد الشعارات الإيرانية السابقة التي كانت تتحدث عن أن القوة الإيرانية لن تكون خصمًا لدول المنطقة، بقوله: «قوة إيران في المنطقة هي التي ستوفر الأمن وتشكِّل سدًّا منيعًا في وجه الاستكبار»، منتقصًا دور الدول الإقليمية في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، وربما كان ينظر إليها على أنها تدخل في مَن وصفهم بالاستكبار، كما أن ذلك يتعارض مع ما أوضحه سابقًا من مدّ يد الصداقة إلى دول المنطقة.

وفي إشارة لا تخلو من التناقض، أشار إلى أن العالَم يتغيَّر، وتأمين مصالح الشعوب يعتمد على فهم العالَم الجديد والتعامل الاستراتيجي مع القوى الناشئة، وأن السياسة الخارجية الناجحة هي السياسة المتوازنة. فيما يشدِّد على ترديد النظرة التقليدية الإيرانية بأن العالَم مستمرّ في شنّ هجمات معادية لإيران. وهذه المقولة هي إدانة بحد ذاتها، فالعالَم يتغير كما أشار، إلا أن ذلك لا يشمل إيران! فلم يُشِرْ إلى انتهاج مقاربات دبلوماسية تصالحية مع العالَم.

وللداخل امتدح إنجازات إيران في ما سمَّاه «انتهاج الديمقراطية الدينية»، وكرَّر نسب الخلل في أداء الحكومة إلى الدعاية الشرسة للعدو، وتفشِّي مرض كورونا، معلنًا اعتزامه تشكيل حكومة تحقق الشفافية والعدالة، قائمة على التخطيط، إلا أن ما يدعو إليه قد لا يلقى قبولًا لدى الشعب الذي يعاني تدهوُرًا جميع مناحي الحياة نتيجة الفساد وسوء التخطيط، والسياسة الإيرانية التي توجِّه جُلَّ اهتمامها إلى مشاريعها التوسعية على حساب الداخل.

وفي ما يتعلق بالاقتصاد، وعد رئيسي -كما هو متوقَّع- بتحقيق أقصى قدر من الشفافية، وجعل الاقتصاد مقاومًا ضد الصدمات، والعمل على كبح جماح التضخم والغلاء، وتعزيز قيمة العملة الوطنية. إلا أن الظروف المحيطة بفترة رئاسته تنبئ بأن هذه الوعود ليس لها ما يدعم نجاحها على أرض الواقع، في ظل اعتزامه انتهاج المقاربات القائمة تجاه المنظومة الدولية.

ورغم هذه الملامح التي تبدو تكرارية، فإنه يمكن القول إن الغموض لا يزال يكتنف برنامج رئيسي، فطَوال حملته الانتخابية تَجنَّب قطع وعود محددة في المجالات الاقتصادية والدبلوماسية والاجتماعية، باستثناء بعض المشروعات الاجتماعية، واشتملت تصريحاته وخطاباته على وعود فضفاضة غير قابلة للتقييم والقياس، وركز بالأساس على انتقاد الواقع الراهن دون أن يتبنَّى برامج بعينها للتعامل معه، بهذا سار رئيسي على نفس خطى «التيار المتشدد» الذي كال الاتهامات لحكومة روحاني، وذلك في إطار الرغبة في إزاحتهم بعيدًا عن السلطة ومراكز صنع القرار.

والمعروف أن رئيسي جاء من أجل استعادة روح وزخم الثورة، وتأكيد خطابها الأساسي ومبادئها الراسخة، وإعادة تمكين «التيار المتشدد» من السلطة، والحفاظ على القيم الثقافية للمجتمع، ومشروع إيران العابر للحدود، كما يشير كثير من التقديرات إلى إنه جاء في إطار التجهيز لعملية أكثر حساسية تتعلق بتأمين عملية انتقال آمن لمنصب القيادة في مرحلة ما بعد خامنئي تضمن استمرارية ولاية الفقيه مرجعيةً للحكم في إيران.

وعلى مستوى الخارج يؤكد رئيسي خطاب الهُوِيَّة في تعاطي إيران مع الغرب والولايات المتحدة، وقد انعكس ذلك في موقف رئيسي المتشدد من المفاوضات، وموقفه من التفاهم حول بعض القضايا الخلافية، كالسلوك الإقليمي لإيران وبرنامج الصواريخ الباليستية، ومن ثم فهو يتبنى مبدأ العداء/عدم الثقة في الغرب والولايات المتحدة، وفي هذا الصدد يؤكّد رئيسي عدم ربط الأزمة في الداخل بإرداة الغرب والولايات المتحدة، والسعي لإلغاء العقوبات من خلال إحباطها، لا عبر التفاهم والدبلوماسية.

ويستنتج من ذلك أن رئيسي يلتزم موقف المرشد كليًّا، بل يدافع عنه في مواجهة تلميحات روحاني في خطابه الأخير، إذ وضع المرشد الخطوط العريضة لسياسة النظام بشأن المفاوضات بتأكيده «ضرورة الاستفادة من تجربة حكومة روحاني، التي أكدت ضرورة عدم الثقة بالغرب»، وفي سياق رسم ملامح تَحرُّك الحكومة القادمة، قال المرشد: «ينبغي أن لا تكون البرامج الداخلية مشروطة بمواكبة الغرب، لأنها ستفشل بالتأكيد»، وهذا ما أكده رئيسي، إذ تَضمَّن خطابه في مجمع الهيئات المرتبطة بمكتب المرشد وسط طهران، حيث تُقام مراسم التنصيب، تأكيد رئيسي أن تحسين الظروف الاقتصادية لبلاده لن يرتبط بـ«إرادة الأجانب». وقال: «نسعى بالطبع إلى رفع الحظر (العقوبات) الجائر، لكننا لن نربط ظروف حياة الأمة بإرادة الأجانب». وقد أثار نشر الموقع الرسمي للمرشد الإيراني والإذاعة والتلفزيون جدالًا سابقًا بين خامنئي وهاشمي رفسنجاني حول المفاوضات النووية السابقة قبل عام 2015م بالتزامن مع نهاية ولاية روحاني، التكهنات بشأن تمهيد خامنئي الطريق لإنهاء المفاوضات بشكل غير مباشر مع الولايات المتحدة في فيينا، لا سيما وأن خامنئي صرَّح في أثناء تنصيب رئيسي بأن المشكلات الإيرانية المختلفة ستستغرق وقتًا لحلِّها، ويعطي هذا مؤشرًا على أن خامنئي يرى أنه لن يُحَلَّ موضوع التفاوض من أجل إحياء الاتفاق النووي عمَّا قريب.

رابعًا: فرص نجاح حكومة رئيسي

بينما كانت حكومة روحاني تواجه قيودًا كبيرة على تنفيذ برنامجها كما أشار في خطابه الأخير إلى أنه كان قائدًا بلا جنود أو عتاد، وأن الإعلام كان لا يقف في صفّ حكومته، وأن المرشد كان مطّلعًا على ما يتخذه من قرارات، بما يشير إلى أنه كان قيدًا أكثر منه داعمًا، يتمتع رئيسي بتأييد كامل من المرشد ومن السلطات والمؤسسات كافَّةً، وكذلك من الإعلام، ودافع عنه المرشد خلال مراسم تنصيبه بالقول إن إبراهيم رئيسي يتمتع بالتأييد الشعبي والخبرة الطويلة، وأعرب عن ارتياحه لأداء رئيسي في القضاء بالقول إن «لدى رئيسي سجلًّا حافلًا في الإدارة»، كما حاول خامنئي تبرير تدنِّي نسبة الإقبال في الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها رئيسي بانتقاد الأطراف التي قاطعت الانتخابات والادعاء أنّ مقاطعة الانتخابات كانت مصمَّمة في الدوائر السياسية لأعداء إيران، وقال إن الشعب ردّ بحزم على هذه المؤامرة، كما اتهم مَن وصفهم بـ«الأعداء» بالسعي لإعادة تشكيل الرأي العامّ الإيراني.

هذا الدعم الذي أظهره خامنئي لرئيسي يؤكّد أن الأخير لن يجد معارضة داخلية لسياساته، وأنه ستكون الفرصة أكبر لرسم سياسة النظام من خلال الإجماع بين مؤسساته ومكوناته المنتخَبة وغير المنتخَبة، إذ يهيمن «المتشددون» على مؤسسات الحكم كافَّة.

لكنّ الواقع أن توجهات رئيسي التي تبدو رجعية لن تلقى قَبُولًا داخليًّا، إذ طرأت تغيُّرات جوهرية على المجتمع الإيراني الذي يتطلع إلى التحديث، فيما تتجه سياسات رئيسي نحو التغيير، لكنه تغيير بدفع العجلة نحو الماضي لا نحو المستقبل، وقد سبق لرئيسي أن أعلن أن حكومته ستكون ذات طابع شعبيّ، تقوم على مبادئ الثورة الإسلامية ونهج مؤسسها روح الله الخميني، وهذا يؤكّد بوضوح أنه لن يحدث أي تغيير جذري في السياسة الداخلية الإيرانية، وأن رئيسي سيكون منقادًا ومطيعًا للمرشد، ولن يخرج من عباءته كما كان يفعل أسلافه.

فالبرلمان الإيراني يناقش قانونًا لفرض مزيد من القيود على الإنترنت، ولن تجد هذه السياسة ومثيلاتها أدنى معارضة من رئيسي الذي يريد أن يضبط المجتمع وقيمه من منظور ثوري، كما أن السياسات الاقتصادية الشعبوية في مواجهة الأزمات الاقتصادية الراهنة التي تستند إلى اقتصاد المقاومة، لن تسعف النظام أمام حالة التدهور الكبيرة التي تشهدها البلاد، وحاجتها المتزايدة إلى مزيد من الموارد والسيولة المادية من أجل معالجة المشكلات الحياتية والأساسية التي لا يمكن مساومة الناس عليها أو قمعها بأي صورة.

وعلى المستوى الدولي فإن التحرك بمنظور أيديولوجي قد يوقف عجلة المفاوضات في فيينا، وقد يؤدِّي إلى الصدام مع الغرب والولايات المتحدة، فمسار العودة المجانية إلى الاتفاق النووي، والحصول على ذات المكاسب التي حصلت عليها حكومة روحاني، أمر بعيد المنال، فلإحياء الاتفاق شروط أمريكية صارمة، قد تكون لحكومة رئيسي بمثابة تَجرُّع السُّمّ، وستكون عودة إلى الاتفاق بطعم الهزيمة، خصوصًا أن البرلمان بلور سياسية متطرفة بشأن الإجراءات النووية، ووضع سقفًا أمام تحركات حكومة روحاني، وقد يؤثّر التراجع عنه لمنح رئيسي امتياز توقيع الاتفاق، على مصداقية البرلمان، ومصداقية رئيسي نفسه.

وبناءً على توجُّهات النظام الإيراني ومواقفه المتشددة في تنفيذ بعض أهدافه وسياساته، فإن موقف إبراهيم رئيسي من الملفَّين اللذين تحاول الإدارة الأمريكية إلحاقهما بالملفّ النووي، وهما ملف تحجيم الدور الإقليمي الإيراني والملف الصاروخي، سيكون مصيرهما الرفض، لأنهما يمثِّلان أهمّ هدفين للنظام الإيراني عمومًا وللحرس الثوري خصوصًا. ولعل ما يزيد قوة فرضية استمرار سياسة التدخُّل الإيراني في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، هو ما ذهب إليه رئيسي في أول مؤتمر له بعد فوزه بالانتخابات، عندما قال إن الانتخابات هي استمرار لنهج الخميني، والمضيّ على درب قاسم سليماني، وتأكيده الصريح أن القضايا الإقليمية والصاروخية التي تتبناها بلاده «غير قابلة للتفاوض»، بما يتنافى ويتناقض مع حديثه عن رغبة بلاده في تحسين علاقاتها مع دول الجوار.

وتأتي المغامرة في الهجوم على سفينة إسرائيلية في بحر عمان في 03 أغسطس 2021م، وما صاحب ذلك من ردود فعل دولية، لتضيف تعقيدًا على التعاطي الدولي مع إيران من ناحية، كما تُظهِر الأدوار المتشددة للحرس الثوري التي تسعى لخلق ظروف وقدرة تفاوضية لإيران أمام المجتمَع الدولي، وهو ما سيزيد تعقيدات التوصل إلى حلول في الاتفاق النووي في المدى القريب.

إذا أصرَّ رئيسي على خطاب التشدُّد وسار خلف طموحات الحرس الثوري ومغامراته وانهارت المفاوضات، فعليه أن يستعدّ لحالة من عدم الاستقرار الداخلي قد تؤثِّر في عملية الانتقال السلس للقيادة، وكذلك في عملية إحياء إرث الثورة الموكول إلى حكومته، وعلى خامنئي نفسه أن يستعدّ لتحمُّل تكلفة خياراته وتصدُّره المشهد خلال هذه المرحلة، سواء في حال قبول الشروط الأمريكية لإحياء الاتفاق النووي وبالتالي ضرب مصداقيته، أو في حال التصلُّب والعودة إلى خيار المقاومة والمواجهة، ومن ثم تحمُّل التكلفة الاقتصادية والاجتماعية والاضطرابات الداخلية المحتمَلة.

على الرغم من أن إيران سوف تبدو كأنها لا تقبل الإملاءات في ما يتعلق بالمفاوضات مع دول 5+1، فإنها لن تعدم الحيلة إذا اضطُرّت إلى إيجاد مبررات للقَبُول بما تتبناه الدول العظمى، إذ تبدو الحلول أمامها مغلقة النهاية، ولن تستطيع روسيا أو الصين التماشي مع نزعة إيران المتصلبة. إلا أن من المتوقع أن يكون للمفاوضات مدى طويل، أملًا من طهران في حصول ما يمكِّنها من بعثرة الجهد الدولي لإضعاف الموقف الأمريكي.

لا بد من ممارسة ضغوط إعلامية ودبلوماسية على ما يشكِّله برنامج إيران النووي، وسلوكها الإقليمي، وصواريخها طويلة المدى، على الأمن الإقليمي والدولي، استشهادًا بالهجوم على السفن في عُرض البحر، الأمر الذي يعوق الملاحة الدولية، واستخدام الصواريخ والمسيَّرات لتهديد دول الجوار وأمن الطاقة العالَمي.

وعلى الرغم من أن ملف التفاوض يسير وَفْق توجهات ومقاربات يقرِّرها المرشد الأعلى ومجلس الأمن القومي، فإن من المتوقع أن تستمرَّ السياسة الإيرانية الجديدة على نهج مقارب لسابقتها في تعاطيها مع الشأن الدولي، وربما أكثر تشدُّدًا، إذ تتطابق رؤى الحكومة مع توجهات المرشد، ما لم يحدث عامل ضغط مؤثر يجعل إيران تتجنب تصعيدات قد تُشعِل مزيدًا من السخط الداخلي الذي يخشاه النظام.

خاتمة

يمكن القول إن خِطابَي روحاني ورئيسي، على الرغم من أنهما يأتيان من قلب النظام، ومن جناحَيه وتياريه اللذين يتبادلان الأدوار تحت قيادة المرشد، الموجِّه الفعليّ لسياسات البلاد، فإنهما يعبِّران عن اتجاهَين بينهما تبايُن فى الرؤى، وبينما نجح المرشد وعزل إحدى الرؤيتين التي يُنظر إليها على أنها أكثر اعتدالًا وتفاعلًا، فإن الداخل والخارج بانتظار المسار الذي ستتخذه الرؤية الثانية الأكثر تشدُّدًا التي يمثِّلها رئيسي، في حين أن رئيسي نفسه أمام خيارين يبدو كلاهما أصعب من الآخر، فإما التنازل والرضوخ لمطالب الغرب، وإما تحمُّل حملة قاسية من العقوبات والعزلة، وفي النهاية مواجهة مصير حكومة روحاني.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير