تجدد الاشتباكات المسلحة الأذربيجانية-الأرمينية والحسابات الإيرانية

https://rasanah-iiis.org/?p=31117

لم يحُلْ اتفاق سلام إقليم ناغورنو قره باغ أو كاراباخ الموقَّع بين الجارين السوفييتيين السابقين المتصارعين في القوقاز، أذربيجان وأرمينا، في عام 2020م، دون تجدد الاشتباكات المسلحة على الإقليم الذي تقطنه غالبية أرمينية مسيحية، والمتنازع عليه بينهما منذ أكثر من قرن من الزمان، ففي ثاني تصعيد جديد ينذر بإمكانية اشتعال الصراع مجددًا منذ توقيع الاتفاق، أعلن الطرفان في 12 أبريل 2023م مقتل 7 من جنودهما في تبادل لإطلاق النار، وسبق ذلك توتر شديد في العلاقات بعد مقتل أحد أعضاء البرلمان الأذري رميًا بالرصاص بالقرب من منزله في باكو، إذ تشير وسائل الاعلام الأذرية بأصابع الاتهام إلى أنّ إيران تقف وراء الحادث.

تلعب الأطراف الإقليمية والدولية، صاحبة المصالح من اشتعال الصراع بين باكو ويريفان، دورًا بارزًا في تأجيجه وتحويل مساراته. وإيران واحدة من هذه الأطراف، فهي داعمة لأرمينيا ذات الأغلبية المسيحية ضد أذربيجان ذات الأغلبية الشيعية المدعومة من تركيا المنافس الأقوى لإيران في القوقاز لاعتبارات جيوسياسية وأمنية واقتصادية، كما أنها مساندة للموقف الأرميني حكومةً وشعبًا وانفصاليين أرمن قاطنين للإقليم ضد مخرجات اتفاق كاراباخ.

بالتزامن مع تجدد الاشتباكات بين باكو ويريفان، وبعد أيام قليلة من تأجيج التوتر المتصاعد بين باكو وطهران على خلفية افتتاح باكو سفارة في تل أبيب مقابل اندلاع أزمة دبلوماسية مع طهران، طردت خلالها باكو 4 دبلوماسيين إيرانيين بتهمة التدبير لمحاولة انقلابية.. التقى أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني في 12 أبريل 2023م نظيره الأرميني أرمين غريغوريان، مؤكدًا له معارضة بلاده لأي تغييرات على الحدود في منطقة جنوبي القوقاز، وأبدى تخوف طهران من أن يقطع ممر زانجيزور -الذي تسعى باكو لتنفيذهـ حدودها البرية مع أرمينيا.

تطرح تطورات الصراع بين باكو ويريفان من ناحية، وتدهور العلاقات بين طهران وباكو من ناحية ثانية، تساؤلات حول الأسباب الحقيقية لسرعة اشتعال الصراع بينهما رغم توقيعهما عديدًا من التسويات لإنهائه، وطبيعة قضايا التعاون بين طهران ويريفان مقابل قضايا الخلاف بين طهران وباكو، والأهداف الإيرانية من استمرارية دعم أرمينيا، لا سيما على ضوء توقيع إيران مع السعودية اتفاقًا لعودة العلاقات الدبلوماسية وتخفيف حدة التوترات الإقليمية، ثم أبرز الإشكاليات أمام إيران حال رغبتها إيلاء القوقاز الأولوية خلال المرحلة المقبلة لتعزيز نفوذها وأوراق ضغطها في هذه المنطقة الحيوية.

أولًا: الأسباب الحقيقية لتجدد المواجهات المسلحة باستمرار بين الطرفين

باتت مسألة سرعة اشتعال الصراع من جديد بين باكو ويريفان على تبعية إقليم كاراباخ المتنازع عليه بينهما منذ أكثر من قرن من الزمان السمة الرئيسية للصراع، رغم توقيع عديد من التسويات لإنهائه، على نحو يثير مخاوف من اشتعال حرب ثالثة جديدة بينهما بعد حربين ماضيتين خلّفتا آلاف القتلى والجرحى والمشردين والنازحين، الأولى في 1992م، والثانية في 2020م، ولذلك سوف نستعرض في ما يلي أبرز الأسباب الحقيقية لتجدد الاشتباكات المسلحة بشكل مستمر بين باكو ويريفان:

1. تمسك طرفي الصراع بمبدأ اللعبة الصفرية: تشير المعطيات التاريخية إلى وجود إرث عدائي طويل ومعقد للغاية بين طرفي الصراع على خلفية تبنّيهم بشكل ثابت ومستمر مبدأ اللعبة الصفرية غير القابل للمساومة لحسم الصراع الممتد منذ عقود طويلة، فكل طرف من طرفي الصراع يتمسك بتبعية الإقليم له علاوة على صراعات عرقية ودينية وسياسية، ما يفسر ديمومة الصراع وتجدده بشكل مستمرّ بنفس الحدة التاريخية، رغم مرور عديد من الحقب الزمنية وبظروف محلية وإقليمية ودولية مغايرة، وانتقاله في بعض الحالات إلى مواجهات حروب منهكة بسبب إيمان كل طرف بمبدأ اللعبة الصفرية، وكذلك يقطن الإقليم غالبية أرمينية رافضة بشدةٍ الانضمامَ إلى أذربيجان.

خريطة (1): جغرافيا إقليم ناغورنو قره باغ

المصدر: https://bit.ly/3GTjZvq

2. التسويات الأذرية-الأرمينية غير مُرضية: تفتقد كل الاتفاقيات التي وقعها الطرفان على مدى سنوات الصراع الممتد، بما فيها اتفاق كاراباخ لعام 2020م، لإنهاء الصراع والأعمال العدائية واسعة النطاق في الإقليم الأكثر التهابًا بين الصراعات العرقية في العالم، عامل الرضا (تسويات غير مُرضية للطرفين) من قِبل طرفي الصراع أو أحد أطرافه المباشرين أو حتى أطرافه غير المباشرين الداعمين للأطراف المباشرين، ومن ثم يكون عمرها قصيرًا ليعود الصراع من جديد مقارنة بالتسويات المُرضية التي يطول أمدها وفي الغالب تحُول دون تجدد الصراع في حالات دولية عديدة.

وارتباطًا بما سبق، تتسم كل التسويات بين الطرفين بالهشاشة، فسرعان ما يجري القفز عليها ونقضها من قِبلهما أو من أحدهما، لأن التسويات تأتي عادة لتكرس نفوذ وقوة الطرف الأقوى، ما يسهل مسألة نقضها من قِبل الطرف الخاسر في أي وقت مُواتٍ يمكّنه من إعادة تصحيح الوضع وتعويض خسارته التي اضطر إلى قبولها رغم عدم رضاه، ما يجعل الموقف ملتهبًا وقابلًا للاشتعال من جديد في أي وقت. وعند النظر إلى اتفاق كاراباخ 2020م، على سبيل المثال، نجده غير مُرضٍ لأرمينيا، كما كان اتفاق وقف إطلاق النار في 1994م أيضًا غير مُرضٍ لأذربيجان وبالتالي عودة تجدد الصراع.

تزداد حالة عدم الرضا الأرميني خطورة باستمرار مع عدم رضا الشعب ذاته والانفصاليين الأرمن القاطنين بالإقليم، إذ يرى الانفصاليون أنهم أصحاب حق في الإقليم الخاضع لسيطرتهم منذ عام 1994م، وأن الاتفاق أجبر أرمينيا على التخلي عن أجزاء واسعة من الإقليم، كما تسود حالة احتقان وغليان شعبي عارمة في أرمينيا منذ توقيع الاتفاق قبل نحو ثلاث سنوات اعتراضًا على بنوده، معتبرين أنه يمثل إذلالًا لأرمينا بإجبارها على تقديم كثير من التنازلات لصالح أذربيجان بشكل ليس من حقها.

3. اتفاقيات السلام بين الطرفين مليئة بالثغرات: ليس فقط اتفاق كاراباخ الموقع بين الطرفين عام 2020م، وإنما غالبية الاتفاقيات السابقة الموقعة بينهما مليئة بالثغرات، ما يشكل وقودًا لاشتعال الصراعات في كل مرة، فعلى سبيل المثال رغم أن اتفاق سلام 2020م ألزم أرمينا الانسحاب من المقاطعات الأذربيجانية المحيطة بكاراباخ والخاضعة لسيطرتها، فإنه لم ينصّ على وضع خطة واضحة يلتزمها الطرفان للمضيّ في حسم مسألة تبعية الإقليم المعترف به دوليًّا ضمن الأراضي الأذربيجانية والخاضع فعليًّا لسيطرة الانفصاليين الأرمن، وهي أهم ثغرة، لكونها تشكل وقودًا مستمرًّا لاشتعال الحرب من جديد، وهو ما يجري على أرض الواقع بعد اتفاق كاراباخ 2020م.

وكذلك يحتوي الاتفاق على مقترح من شأنه إضفاء مزيد من تعقيد الأمور بين الطرفين، وهو مقترح ممر زانجيزور أو ممر نخجوان للربط بين أذربيجان وإقليم نخجوان -جمهورية حكم ذاتي تتبع أذربيجان- المنفصل عن بقية الأراضي الأذربيجانية بمنطقة أرمينية تسمى زانجيزور، وهو ما لا ترتضيه أرمينيا وحليفتها إيران الداعمة لاعتبارات اقتصادية وتجارية وجيوسياسية -لأن الممر من شأنه قطع الحدود البرية الأرمينية مع إيران مقابل أتاحته فرصة لتركيا الحليف الإستراتيجي لأذربيجان لتكوين اتصال جغرافي واسع نحو أوروبا- واقتصادية وأمنية، وذلك ضد المصالح الأرمينية.

خريطة (2): موقع ممر زاانجيزو أو نخجوان

المصدر: https://bit.ly/3Ldsfcy

4. حسابات الأطراف الإقليمية والدولية في الصراع: تلعب حسابات الأطراف الإقليمية والدولية في الصراع الأذري-الأرميني دورًا بارزًا في رسم مسارات الصراع وتعقيده وإطالة أمده وتجدده باستمرار، والأبرز أن هذه الأطراف تمتلك النسبة الأكبر من خيوط الصراع بين باكو ويريفان لاعتبارات براغماتية وجيوسياسية وإستراتيجية وأمنية واقتصادية وتجارية كبيرة في القوقاز مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل.

تتباين مصالح هذه الأطراف وتتعارض حساباتها تجاه طرفي الصراع خاصة والقوقاز عامة، وكل طرف متنافس يدعم أحد أطراف الصراع ضد خصمه في التوقيت المناسب باعتباره ملفًّا للمساومة والتسويات الإقليمية لتحقيق مصالحة الخاصة بغض النظر عن مصالح طرفي الصراع، إذ تلجأ هذه الأطراف الإقليمية أو الدولية لتغذية استمرارية الصراع بما يخدم مصالحها أو الحد من مصالح الأطراف المنافسة عندما تدرك أن مصالحها، سواء في الوقت الراهن أو في المستقبل، قد تتضرر. ولذلك تشكل حسابات الأطراف الخارجية، لا سيما الأطراف غير الراضية عن مخرجات اتفاق كاراباخ لعام 2020م، أحد أبرز أسباب تجدد الصراع بين باكو ويريفان.

ثانيًا: إيران وقضايا الصراع الأذربيجاني-الأرمينـي

تنظر إيران بقلق إزاء تجدد الاشتباكات المسلحة بين أذربيجان وأرمينا باعتبار أن مواقع الدولتين الجغرافية تشكل امتدادًا جيوسياسيًّا لإيران في منطقة «أوراسيا المركزية»، أي آسيا الوسطى والقوقاز، وما يشكله هذا الصراع من تحديات وفرص تجمع إيران بأحد أطراف النزاع (أرمينيا) دون الثاني (أذربيجان) الذي يجمعه بإيران علاقة متوترة لاعتبارات تتعلق بعلاقاته وتحالفاته مع إسرائيل -العدوّ اللدود لإيران- والغرب الأوروبي والأمريكي، وتتعلق كذلك بنموذج الحكم العلماني المنفتح على الغرب في أذربيجان، الذي يشكل تهديدًا للنموذج الإيراني المتشدد.

1. إيران وقضايا التعاون مع أرمينيا:

هناك مجموعة من العوامل الداخلية والدولية شبه الثابتة، التي تحكم مسار العلاقات الإيرانية-الأرمينية. لعل من أبرزها ما يلي:

أ. إدراك الاحتياج الإستراتيجي المتبادل لكليهما: في حين تنظر إيران إلى أذربيجان باعتبارها مصدرَ تهديد قائمًا لمصالحها الجيوإستراتيجية في منطقة حيوية من العالم، فإنها تنظر إلى أرمينيا على أنها بوابة التعاون الشمالية لها جيوإستراتيجيًّا، باعتبارها سوقًا لتصريف منتجاتها وبخاصة النفطية، وأداة لمواجهة النفوذ التركي المتنامي في القوقاز، ووسيلةً لإبقاء أذربيجان تحت الضغط الدائم وتوجيه اهتمامها بعيدًا عن إيران وأوضاع الأقلية الأذرية بها.

ب. مناهضة توجهات باكو تجاه تل أبيب وأنقرة: يُعَدّ احتواء أذربيجان مصلحة مشتركة بين طهران ويريفان، إذ تتوافق طهران مع الموقف الأرميني المناهض للدعم التركي والإسرائيلي لباكو، لذلك تسعى إيران لمواجهة أذربيجان وتركيا وإسرائيل من خلال تحالف وثيق مع يريفان، وبتوسيع باكو علاقتها مع تركيا وإسرائيل، وبحكم الخلاف التاريخي والتوتر الجيوإستراتيجي بين أرمينيا وكلتا الأخيرتين -أذربيجان وتركيا- تجد أرمينيا نفسها أمام خيارات محدودة دافعة نحو تعزيز تعاونها مع إيران لجهة إضعاف أذربيجان وحرمانها من مزايا التفوق عليها.

ج. التعاون بين طهران ويريفان ضمن الاتحاد الأوراسي: وقَّعت إيران اتفاقية تجارية مع الاتحاد الأوراسي الذي يضم خمس دول بينها أرمينيا، وبموجبها سيجري تبادل 860 سلعة بين إيران ودول الاتحاد، كما بدأت مفاوضات التجارة الحرة مع الاتحاد. ويضم الاتحاد الأوراسي خمس دول: روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا وقرغيزيا وأرمينيا، وهذه الدول أعضاء رئيسية منذ 2015م. وتُعتبر أرمينيا المفاوض الرئيسي لانضمام إيران إلى الاتحاد الأوراسي بصفة عضو كامل.

د. المصالح الاقتصادية المحتملة للدولتين: تمثل أرمينيا أهمية جيواقتصادية مستقبلية بالنسبة إلى إيران باعتبارها ممرًّا أساسيًّا للتجارة ومدّ خطوط الطاقة شمالًا، وفق المستهدفات الإيرانية بعيدة المدى، بجانب الرغبة الإيرانية في منافسة النفوذ الاقتصادي التركي وسط آسيا عبر التقارب مع أذربيجان، وقد ارتفع إجمالي حجم التبادل التجاري بين إيران وأرمينيا خلال العامين الأخيرين من 400 مليون دولار في عام 2020م إلى 700 مليون دولار عام 2022م وفق بيانات البنك الدولي، لكنه مع هذا لا يزال معدل تبادل ضعيفًا ويميل بقوة لصالح إيران.

تصنف أرمينيا من البلاد المستوردة للغذاء والطاقة وبخاصة الغاز الطبيعي من الخارج، في مقابل تصدير المعادن والذهب والألماس والتبغ، كما تحصل يريفان على الغاز من تركمانستان عبر إيران. وشكلت وارداتها من إيران 6.6% من إجمالي وارداتها العالمية خلال 2020م، في مقابل 33% من روسيا، و17% من الاتحاد الأوروبي، ثم ارتفعت نسبة وارداتها من إيران إلى 9% في عام 2022م، أي يزداد إقبالها على المنتجات الإيرانية فيما لم تتجاوز صادرات أرمينيا إلى إيران نسبة 2.5% من إجمالي صادراتها إلى العالم خلال عام 2019م، وتراجعت النسبة إلى 2% في عام 2022م.

2.إيران وقضايا الخلاف مع أذربيجان:

في مقابل علاقات إيران الطيبة والمتنامية مع أرمينيا، تزداد العلاقات توترًا بين إيران وجارتها أذربيجان، ورغم وجود مشتركات كان يمكن لها أن تحدّ من نقاط الخلاف، فإنّ تراكمات خلافية أدت إلى فرقة في العلاقات وتوتر أفضى إلى ارتفاع في احتمالية نشوب صراع بين الجانبين. ومن أهم أسباب توتر العلاقة بين الجانبين، ما يلي:

أ. قضايا الشعب الأذري في الداخل الإيراني: يُعتبر عامل الجوار الجغرافي أحد أهم العوامل المؤثرة في مسار العلاقات بين طهران وباكو، التي تربطهما حدود مشتركة طولها 700 كيلومتر، ووجود أقلية أذرية داخل إيران، وتراقب إيران بحذر تصاعد النزعة القومية لدى الأذريين على أراضيها، ونظرتهم المتنامية إلى أذربيجان بنموذجها العلماني القومي المزدهر الذي يتناقض والنموذج الإيراني المتشدد، وما يشكله من حافز محتمل، ليس فقط للإيرانيين من القومية الأذرية وإنما للإيرانيين بشكل عام، على تبني النهج العلماني الذي تخشى طهران تأثيره في مستقبل نظام الولي الفقيه.

وقد مثلت التوترات الداخلية في إيران، التي اشتدت خلال الأشهر القليلة الماضية مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية الحاشدة على خلفية مقتل مهسا أميني، ودخول الحكومة الأذرية على خط الاحتجاجات الشعبية في إيران، بتوجيهها انتقادات مبطنة لتعاطي إيران مع الأذريين في إيران، فضلًا عن تنامي الحديث عن ارتفاع نبرة مقاطعة أذربيجان الإيرانية بالانفصال عن إيران وتحكمها باكو بدلًا من ذلك، مثّلت بمجملها بالنسبة إلى طهران الأزمة الأخطر على تركيبة نظامها السياسي الإيراني مع المكونات والأقليات العرقية المتوزعة على خريطتها الجغرافية.

ب. قضايا العلاقات الأذربيجانية-الخارجية: تطور العلاقة بين باكو وتل أبيب تحوّل خلال الأعوام الماضية إلى أحد أسباب توتر العلاقات الأذربيجانية-الإيرانية، واتهامات الأخيرة لتل أبيب بإقامة موطئ قدم لها على حدودها المشتركة مع باكو، ما يثير قلقًا إيرانيًّا متزايدًا بشأن تأثير إسرائيل في سياسة أذربيجان تجاه إيران. ولطالما حذّرت طهران باكو بشكل متزايد من الاحتماء بتل أبيب، لكن الخطاب الإيراني التهديدي لأذربيجان بلغ مستويات تصاعدية جديدة بعد زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي السابق بيني غانتس لأذربيجان في أكتوبر 2022م، وتوقيع الطرفين عدة اتفاقات عسكرية وأمنية، فضلًا عن زيارة وزير الخارجية الأذربيجاني جيهون بيرموف لتل أبيب في نهاية مارس 2023م لافتتاح سفارة بلاده في إسرائيل بعد أن عينت باكو أول سفير لها في إسرائيل، لتغير سياستها التي امتدت لعقود بعدم وجود بعثة دبلوماسية في إسرائيل، وتعتبر إيران أن هذا النهج يشكل تهديدًا للأمن القومي لإيران لا يمكن تجاهله.

وكذلك تتمتع باكو بعلاقة وثيقة مع تركيا، ما يمثل مصدر قلق لإيران التي تتخوف من الطموحات التركية لبناء منظومة مصالح تمتد من القوقاز إلى آسيا الوسطى، إضافة إلى الدور التركي في الصراع بين باكو ويريفان الذي يدفع باتجاه إحداث تغييرات في التقسيمات الجيوسياسية في هذه المنطقة، وهي تهديدات إذا اجتمعت مع المصالح والتهديدات الإسرائيلية فإنها ستشكل أزمة حقيقية ومعقدة لطهران التي تتخوف من أن تتحول هذه المنطقة إلى ورقة ضغط إضافية في سياسة محاصرتها وتطويقها وفرض العقوبات الاقتصادية عليها من كل الجهات، بالإضافة إلى طوق الأزمات الذي يطوق إيران في العراق وسوريا وأفغانستان وباكستان.

ثالثًا: الأهداف الإيرانية من تقديم الدعم المستمر لأرمينيا

على الرغم من المحددات العرقية والمذهبية والثقافية المشتركة بين كل من إيران وأذربيجان، فإن إيران ظلت على مدى سنوات تدعم أرمينيا ذات الغالبية المسيحية، هذه العلاقة المتناقضة التي تتنافى والعقلية الإيرانية يمكن اعتبارها أبرز تعريف لقاعدة المصالح الإيرانية. وفي ما يلي أهم الحسابات الإيرانية من دعم يريفان:

1. الحسابات الأمنية: يرتبط الدعم الإيراني لأرمينيا بالحسابات الأمنية، لأن أذربيجان علمانية -قومية- قوية ومزدهرة تشكل حافزًا، ليس فقط للشيعة الإيرانيين بشكل عام وإنما للشيعة الإيرانيين من القومية الأذرية في شمال إيران، التي تشكل من 16 إلى 20% من تعداد سكان إيران، ويسكنون مساحات شاسعة في الشمال وعددهم هناك يفوق عدد سكان جمهورية أذربيجان نفسها، لذلك تخشى إيران تجدد مطالبات القوميين الأذريين بالحكم الذاتي، وبالتالي فإن دعم أرمينيا ضد أذربيجان يحول دول تواصل الأذريين الإيرانيين بأقرانهم بأذربيجان ويحول دون إحياء تطلعاتهم الاستقلالية. وسبق للأذريين شمال إيران إعلان استقلالهم في 1945م بدعم من الاتحاد السوفييتي السابق، واتخذوا من مدينة تبريز عاصمة لهم، لكن الجيش الإيراني تدخَّل بقوة وأجهض هذه المحاولة الانفصالية.

وبسبب العداء بين أذربيجان وإيران فإن إيران تخشى استخدام أراضي أذربيجان قاعدةً متقدمة لشن أي هجوم بري أو جوي مستقبلي عليها. لذلك فمن مصلحة إيران أن تبقى تلك المناطق المتنازع عليها تحت السيطرة الأرمينية.

2. الحسابات الاقتصادية: تتمتع إيران بعلاقات قوية مع أرمينيا من الناحية الاقتصادية، كما تعتبر أرمينيا من أكبر مستوردي الطاقة الإيرانية لا سيما في ما يتعلق بالنفط والغاز الطبيعي، فضلًا عن توسيع الدولتين الإطار التعاوني في ما بينهما ليشمل بعض القطاعات الأخرى مثل الصناعات الصلبة والأدوية والتعدين والبتروكيماويات.

3. الحسابات الأيديولوجية: ترى إيران في أرمينيا حليفًا لا خطورة منه، لأنها دولة مسيحية لا تشكل أي خطورة عليها، لا من حيث إلهام النموذج ولا من حيث الاشتباك التاريخي الطائفي السنّي-الشيعي، وبالتالي لا يرى الإيرانيون أي خطورة من أرمينيا، بل يرونها حليفًا يمكن الضغط من خلاله على أذربيجان الشيعية العلمانية، وتركيا السنّية العلمانية.

كما يرى الإيرانيون أنهم مركز الإسلام الشيعي، ويعتقدون ولاية الولي الفقيه على عموم الجماعة الشيعية في الداخل والخارج، وبالتالي فإنّ بقاء أذربيجان خارج نطاق هيمنة القراءة الإيرانية الولائية أمر بالغ الحساسية لدى النخب الدينية الإيرانية، ولذلك يأتي التحالف الإستراتيجي بين طهران ويريفان ليشكل حلقة ضغط على باكو، حتى يكاد يكون نكاية ورد فعل على سياسة أذربيجان المتجاهلة لإيران.

4.الحسابات البراغماتية: تسمح نظرية ولاية الفقيه للقائد بقدر كبير من المرونة في التعاطي مع العالم الخارجي ما دامت سياساته تعود بالمصلحة على الجماعة الشيعية حتى ولو كان ذلك مخالفًا لضروريات المذهب، فمن حقه أن يعطل الحج أو الزكاة أو الصلاة إذا ارتأى ضررًا يهدد مصلحة المذهب. وهذه البراغماتية انسحبت لا شك على مسألة العلاقات الدولية، ومن هنا نفهم هذه العلاقة الإستراتيجية بين إيران الشيعية وأرمينيا المسيحية على حساب العلاقة بين الأخوين، إيران الشيعية وأذربيجان الشيعية.

رابعًا: إشكاليات تنامي الحضور الإيراني جنوب القوقاز

رغم المحفزات الإيرانية للحضور بقوة على الساحة القوقازية فإن عدة إشكاليات تواجه الحضور الإيراني في القوقاز عامة وفي أذربيجان خاصة على النحو التالي:

1. إشكالية التوجهات الأذربيجانية ذاتها تجاه إيران: رغم أن الدولتين مسلمتان شيعيتان تربطهما حدود جغرافية مشتركة، فإنّ بنية نظاميهما وتوجهاتهما متناقضة للغاية. أذربيجان دولة تعرف نفسها بأنها دولة علمانية بعكس النظام في إيران دولة دينية مذهبية، كما أن أذربيجان تشدد على هويتها القومية والإثنية التركية والميل إلى تركيا ومنفتحة بعلاقاتها مع الغرب الأوروبي والأمريكي وتجمعها مع معظم الدول الغربية علاقات قوية، في حين أن إيران ترى الدول الغربية مصدرَ تهديد مباشرًا لمصالحها، فضلًا عن الانسجام بين أذربيجان والأذربيين الإيرانيين، ما يمثل تحديًا لإيران، خصوصًا أنهم يرون النموذج الأذري عنصرَ جذب بدلًا من أوضاعهم الاقتصادية الصعبة داخل إيران، كما تُعَدّ باكو منافسًا إستراتيجيًّا قويًّا لإيران على أسواق النفط العالمية.

2. إشكالية مخاطر الحضور الإسرائيلي في أذربيجان: يمثل تنامي الحضور الإسرائيلي في أذربيجان تحديًا وتهديدًا مباشرًا للأمن الإيراني، وتعتبر إيران أن وجود دولة خصم لها في الشرق الأوسط على حدودها مع أذربيجان هو تحدٍّ أمني ومساعٍ حقيقية لتطويقها في محيطها عبر استغلال العلاقات مع الدول الحدودية الحليفة، لا سيما أن إسرائيل هي المهدد الرئيسي للنفوذ الإيراني الإقليمي وتلعب دورًا بارزًا في الحشد الدولي لمنع حصول إيران على السلاح النووي أو تطوير القدرات الصاروخية الباليستية، وقد تنامى الحضور الإسرائيلي في الساحة الأذربيجانية بشكل كبير لتطويق إيران منذ حرب كاراباخ 2020م، إذ لعبت إسرائيل دورًا كبيرًا في تقديم الدعم لباكو ضد يريفان في الحرب.

3. إشكالية مخاطر اتساع نطاق النفوذ التركي في القوقاز: اتساع نطاق النفوذ التركي في أذربيجان يشكل تحديًا لإيران من جانبين، الأول الخوف من لعبهما على أوتار دعم وتأجيج النزعة الانفصالية للأذريين الإيرانيين، والثاني هو التوجس من تنامي الحضور التركي في منطقة القوقاز، والجانبان من شأنهما تعزيز النفوذ التركي -المنافس الإقليمي لإيران- على حساب المصالح الإيرانية، كما أن الروابط العرقية التي تجمع تركيا بأذربيجان أقوى من الروابط المذهبية التي تجمع إيران بأذربيجان حسب الموقف الأذربيجاني القومي، مما يفرض على الإيرانيين تغيير خطابهم تجاه أذربيجان لاحتوائها.

وهناك بُعد آخر قد يحدّ من الدور الإيراني ويزيد النفوذ التركي في القوقاز -حال تنفيذهـ يتمثل في الرغبة الأذربيجانية-التركية في إنشاء ممر زانجيزو، ما يفقد إيران عديدًا من المميزات الجمركية التي كانت تحصل عليها في السابق، المفروضة على الشحنات التركية التي تحط في تركمانستان وأذربيجان، ومع ذلك فإن الضربة الأكبر لإيران في المنطقة حينما ينفذ خط سكة حديد ضمن الممر بين تركيا وأذربيجان عبر أرمينيا حينها سيزداد النفوذ التركي جنوبي القوقاز على حساب إيران.

الخاتمة

تكشف المعطيات السابقة عن الأهمية التي تقرؤها إيران بشأن التطورات على حدودها الشمالية، إذ تتعاظم التحديات وتتوافر فرص قد تمكّنها من تعزيز نفوذها جنوب القوقاز حال جرى توظيفها في ظل انشغال الفاعلين الدوليين الأكثر تأثيرًا في آسيا الوسطى والقوقاز بالحرب في أوكرانيا ومعركة القيادة الدولية، الولايات المتحدة وروسيا والصين، عن هذه المنطقة الحيوية، التي يتوقع كثير من المتابعين أنها ستكون منطقة التهاب محتملة. المخاطر تتمثل في إدراك إيران تنامي الدورين الإسرائيلي والتركي في أذربيجان، وانعكاس ذلك المحتمل على مشاريعها الطموحة في هذا المجال الحيوي لها، وفي المقابل تظهر فرص مواتية لإيران لتعزيز نفوذها جنوب القوقاز وتعزيز تنافسها أمام الدورين الإسرائيلي والتركي المتصاعدين فيها على خلفية الانشغال الدولي عن هذه الساحة مع مكاسب إيران المحتملة من تخفيف حدة الصراع الإقليمي في الشرق الأوسط بتوقيعها اتفاق عودة العلاقات الدبلوماسية مع السعودية، وبالتالي ستكون إيران قد تحللت من عبء كبير كانت تكرسه في الشرق الأوسط، ومع تخفيف هذا العبء يمكنها توظيفه لصالح دور أكبر في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز بشكل عام. لذلك يحتمل أن تكون هذه الدائرة (منطقة القوقاز ووسط آسيا) أولوية إيرانية خلال المرحلة المقبلة لحين حدوث تحولات تؤثر في الأولويات الإيرانية من جديد.

من ناحية أخرى، تكشف المعطيات السابقة أن التعاطي الإيراني في القوقاز يمثل مثالًا واقعيًّا وحيًّا لإيلاء إيران الأولوية أيًّا من ثنائية البراغماتية والأيديولوجية على حسب من يحقق لها القوة والمصلحة المرجوة، فإن حققت لها البراغماتية المصلحة أولتها الأولوية، وإن جرى ذلك على ثوابت ومتغيرات الاعتبارات الأيديولوجية، كما في حالة مساعيها لتعزيز حضورها ووجودها في القوقاز، فأرمينيا دولة مسيحية وتقيم معها العلاقات القوية فيما أذربيجان الشيعية تقف معها على طرفي نقيض.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير