الطائرات المسيَّرة في الحرب الأوكرانية.. سلاح فعّال في مستقبل الحروب

https://rasanah-iiis.org/?p=28787

مقدّمة

انتشرت تكنولوجيا المركبات الجوية بلا طيار (UAVs) -أو «الدرونز»- واستخدامها، وأصبحت عنصرًا أساسيًّا في النزاعات المسلحة في جميع أنحاء العالم. بدايةً كان استخدام الطائرة بلا طيار في الحروب منذ نحو 20 عامًا. كان ذلك عندما أطلقت المسيَّرات الأمريكية النار على قادة «طالبان» في أفغانستان. أصبحت اليوم الطائرات بلا طيار تُستخدَم في ساحات القتال التقليدية وغير التقليدية، من قِبَل الجهات الحكومية، والجماعات المتمردة غير الحكومية، والجماعات الإرهابية، والعصابات الإجرامية، والأفراد.

يبدو أن الطائرات المسيَّرة باتت جزءًا من العتاد العسكري في الحروب الحديثة، وأصبحت تشغل فكر الدول في أيّ صراع عسكريّ في العالم، نتيجة لتطوّرها والتوسُّع في استخدامها. يومًا بعد يوم يتزايد اهتمام الدول المنتجة للسلاح بإنتاج الطائرات المسيَّرة، لاستخدامها في تنفيذ عديد من المهامّ، كالإنذار المبكّر، والاستطلاع، والتجسس، وتدمير بعض الأهداف الأرضية والجوية، وجمع المعلومات، حتى إنها أصبحت تُستخدَم من قِبَل الهواة والإعلاميين في التصوير الجوي لأرض المعركة، ونشر الصور ومقاطع الفيديو، للترويج للانتصارات العسكرية، بما يسهم في رفع الروح الوطنية، كما يحصل في أوكرانيا.

في خمس حروب كبرى وقعت بين الدول في السنوات الخمس الماضية (في سوريا وليبيا وناغورنو كارباخ وفي الحرب اليمنية وفي أوكرانيا)، قامت هذه المسيَّرات بأدوار هامة وحاسمة. عزَّز من نجاح مهامّ هذه الطائرات إفلاتها من أنظمة الدفاع الجوي التقليدية، التي لم تستطِع -في كثير من الأحوال- رصدها وتدميرها، كون الأنظمة الدفاعية مصمَّمة في الغالب على كشف واعتراض الطائرات والصواريخ الباليستية ذات المقطع الراداري الكبير.

في الحرب بين روسيا وأوكرانيا، حضرت الطائرات بلا طيار أكثر من أي صراع عسكري آخر، بما يعني أن الدولة التي تمتلك أقوى طائرات بلا طيار ستكون في وضع جيد على الأرجح. في هذا الصراع المستمرّ شهدنا استخدامًا كبيرًا للطائرات بلا طيار من كلا الجانبين، خصوصًا من جانب أوكرانيا، التي استخدمت طراز «بيرقدار» (Bayraktar TB-2) التركية الصنع، ولاحقًا الأمريكية والألمانية والمحلية الصنع، وحتى طائرات الهواة وذات الاستخدام التجاري. جرى استخدام هذه الطائرات في مجموعة متنوعة من الأدوار، مثل تنفيذ الضربات ضد أهداف أرضية روسية، وتوجيه القصف المدفعي، ومهامّ استطلاع ومراقبة واستهداف وقصف المواقع، وحتى تسجيلات الفيديو التي تغذِّي مباشرةً عمليات المعلومات. هذه الآثار الإستراتيجية والتكتيكية لهذه الأنظمة الطائرة تفرض على الخبراء العسكريين دراستها واستشراف مستقبلها. لهذا فمن الضروري البحث عن أجوبة مقنعة ومنطقية لأسئلة من قَبيل، ما الدور الذي لعبته وتلعبه الطائرة بلا طيار في حرب أوكرانيا؟ وما قدراتها؟ وهل يمكن أن تكون عاملًا مؤثرًا في ميزان القوى العسكري بين الطرفين؟ وما تأثير هذه الطائرات في مستقبل الحرب؟

أولًا: تطوُّر في المفهوم وفي الأداء

من المهمّ بدايةً معرفة أن الطائرات المسيَّرة وبكل بساطة هي طائرات موجَّهة لاسلكيًّا، ويمكنها أن تطير في أي اتجاه أو ارتفاع، ويجري تشغيلها والتحكُّم بها عن بُعد، ويمكن إطلاقها من قاذف أرضي، أو من فوق أسطح السفن، أو إسقاطها من طائرات أخرى، ويمكن استعادة بعضها مرةً أخرى إلى مكان الإطلاق، أو إلى أي مكان آخر بعد الانتهاء من مهمّتها[1]، وبعضها يجري تفجيره في الموقع المستهدف.

كان أداء الطائرة المسيرة التركية «بيرقدار» (Bayraktar TB-2) لافتًا في سوريا، بوصفها بداية قوية لفتت الأنظار إليها. فبعد أن تسبَّبت غارة جوية سورية في مقتل 36 جنديًّا تركيًّا يعملون بالقرب من محافظة إدلب شمال سوريا في فبراير 2021م، ردّت أنقرة باستخدام «بيرقدار» لتدمير عشرات الدبابات والدفاعات الجوية والمدرعات، ما أسفر عن مقتل المئات من الجنود السوريين. كانت طائرات «TB-2» التركية حاسمة أيضًا في كسر الجمود العسكري في ليبيا، خلال عملية ما سُمِّيت بـ«عاصفة السلام». ضربت هذه الطائرات المسيَّرة مواقع قوّات الجيش الوطني الليبي بقيادة الجنرال خليفة حفتر، ومساندة تقدُّم القوّات البرية لحكومة فايز السراج، ما أسهم في دحر قوّات حفتر إلى خارج طرابلس، تاركين معقلهم في ترهونة[2].

كذلك، في حرب عام 2020م بين أرمينيا وأذربيجان حول منطقة ناغورنو كاراباخ المُتنازع عليها، وعلى الرغم من أن الصراع كان قصيرًا، فقد أثبتت الطائرات بلا طيار دورها المحوري، إذ أظهرت كيف يمكن إدماج الأنظمة الطائرة غير المأهولة في عمليات الأسلحة المشتركة الأكثر تقدُّمًا. في الواقع، كانت ترسانة أذربيجان الكبيرة والأكثر تقدُّمًا من الطائرات المسلحة بلا طيار حجرَ الزاوية لنجاحها في الصراع، وتحوَّلت إلى حالة دراسية بين خبراء ومجتمع الدفاع، بما في ذلك «البنتاغون»، لكيفية تغيير الطائرات بلا طيار لطبيعة الصراعات في العصر الحديث.

من خلال عدد من التقارير العسكرية فإن «TB-2»، التي زوَّدت بها تركيا أذربيجان، دمّرَت 120 دبابة، و53 عربة قتال مصفَّحة، و143 قطعة مدفعية، وعديدًا من الأهداف الأخرى لأرمينيا في النزاع الأخير بينهما[3]. أثبتت هذه الطائرة أنها ذات فاعلية وعملية في الاستخدام. سجَّلَت «بيرقدار» أكثر من 420 ألف ساعة طيران ومهمات في العراق وسوريا، وفي ناغورنو كاراباخ ضد ميليشيات أرمنية، وفي ليبيا ضد جيش خليفة حفتر، وحتى في إثيوبيا تسبَّبت في يناير 2022م في مقتل 58 مدنيًّا[4].

المثير أنه في كل هذه المواجهات العسكرية تفوَّقت «بيرقدار» التركية على الأسلحة والمنظومات الدفاعية الروسية، وبشكل خاص منظومة «بانتسير» الدفاعية، التي تُوصَف بأنها فخر المنظومات الدفاعية المتنقلة من الصناعات الروسية. نشرت تركيا مقاطع فيديو لتدمير عدد كبير من تلك المنظومات في سوريا، التي ظهرت عاجزة تمامًا عن مواجهة «بيرقدار»، وهو ما اعتُبِر «إهانة» للمنظومة والصناعات الدفاعية الروسية بشكل عامّ، وادَّعت موسكو حينها بأنَّ وحدات «بانتسير» لم تكُن في وضع عملياتي وإنما تدريبيّ فقط، وأن وحدات «بانتسير» يمكنها رصد وتتبُّع طائرات «بيرقدار» التركية وإسقاطها[5].

يُستثنى من الإخفاق الذي تعاملت به أنظمة الدفاع الجوي مع «الدرونز» بوجه عامّ، النجاح الذي حقَّقته أنظمة الدفاع الجوي السعودية، التي تعاملت بكفاءة عالية مع المسيَّرات التي زوّدت بها إيران جماعة الحوثيين في اليمن. أطلق الحوثيون على المملكة العربية السعودية منذ بدء الصراع في اليمن في سبتمبر 2015م أكثر من 430 صاروخًا باليستيًّا، وأطلقوا أيضًا أكثر من 851 طائرة «درونز». تصدَّت قوّات الدفاع الجوي الملكي السعودي لما يقارب 95% من هذه الصواريخ و«الدرونز»[6]. يُعتبر هذا الإحباط المضادّ هو الأضخم في تاريخ الحروب الحديثة لمضادات دفاع جوي ضد الصواريخ الباليستية و«الدرونز». يُسجَّل هذا الانتصار لأنظمة الباترويت الأمريكية، ولمدفع الليزر الصيني الخطير «الصياد الصامت» (Silent Hunter)، الذي اشترته المملكة من شركة «POLY-TECH» الصينية خلال «عاصفة الحزم»، والذي يبلغ مداه 4 كم، كما أن المملكة استخدمت وسائل أخرى لتعزيز شبكة دفاعية متكاملة، للتصدَّي لتهديدات الطائرات بلا طيار.

خلال الحرب الأمريكية على الإرهاب، اكتسبت الطائرات بلا طيار صورة كأداة للحرب غير المتكافئة وغير النظامية. تمكَّن الجيش الأمريكي من القضاء على عديد من قيادات «القاعدة» و«داعش» في سوريا والعراق واليمن وأفغانستان، من مسافات بعيدة، كما حصل مؤخَّرًا في استهداف زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري في كابول.

لم تعُد الولايات المتحدة والقوى الكبرى الأخرى تنفرد بميزة ساحقة في تكنولوجيا الطائرات بلا طيار. الطائرات الصغيرة بلا طيار، بما في ذلك النماذج التجارية، يمكن تكييفها بسهولة وبتكلفة منخفضة للاستخدام العسكري. هذا ما ساعد البلْدان الأصغر والجماعات المتمردة والمنظمات الإرهابية في تكافؤ الفرص. 38 دولة على الأقل -بما في ذلك إيران والعراق ونيجيريا وباكستان- لديها الآن طائرات بلا طيار في ترساناتها العسكرية.

يبقى أن الحرب في أوكرانيا -أول صراع عسكري كبير بين دولتين- قدَّمَت للعالم عرضًا دراماتيكيًّا لكلِّ من قدرات وحدود تكنولوجيا الطائرات بلا طيار، لدرجة تجعلنا تؤكد أنها لن تكون الحرب الأخيرة التي ستقوم فيها المسيَّرات بدور جوهري.

ثانيًا: طائرات «بيرقدار» تحقِّق فاعلية قتالية في الحرب الأوكرانية

قدَّمت أوكرانيا خلال حربها ضد روسيا مفاهيم جديدة حول استخدام الطائرات بلا طيار في النزاعات الحديثة بين دولتين، ما يجعلنا نستنتج بأن الدولة التي تمتلك أقوى طائرات بلا طيار ستزيد قدراتها في استنزاف الخصم. في الأيام الأولى للحرب في أوكرانيا، ظهرت الطائرات بلا طيار «بيرقدار» التركية مصدرًا غير متوقع لتحقيق بعض الانتصارات والتدمير للوحدات والدبابات الروسية. لعبت هذه المسيَّرات التركية الصنع دورًا هامًّا في الحرب الأوكرانية، ذلك النجاح أثار فضول عديد من الخبراء في الحروب الجوية. اشترت أوكرانيا منذ عام 2019م ما يقارب 50 طائرة «بيرقدار»، لكن من غير الواضح عدد الطائرات بلا طيار التي تمتلكها أوكرانيا فعليًّا من هذا الطراز، وما إذا كانت تركيا قد سلَّمت كل الطلبيات الأخيرة. لكن إذا كانت أوكرانيا تمتلك جميع الطائرات بلا طيار التي طلبتها، فهل يمكن أن يغيِّر ذلك نتيجة حرب البلاد مع روسيا؟

من المعلومات حول طائرة «بيرقدار» (TB-2) المقاتلة أن مداها يصل إلى 190 ميلًا، وتحلِّق على ارتفاعات متوسطة بحمولة صاروخين مضادين للدبابات وذخيرة موجَّهة بأشعة الليزر، ولا تتجاوز تكلفتها مليون دولار. أنتجتها شركة «بايكار» التركية. زادت هذه الشركة صادراتها سبعة أضعاف من عام 2006م إلى عام 2021، وجرى تسليمها إلى 16 بلدًا، على سبيل المثال: أوكرانيا وأذربيجان والمغرب وتونس وقطر وقيرغيزستان وتركمانستان. وفى عام 2021م كانت بولندا أيضًا أول عضو في «الناتو» يعلن عن اقتناء 24 طائرة من هذا النوع. نفَّذت «TB-2» عديدًا من الهجمات الناجحة ضد القوّات الروسية. وكانت مسؤولة وحتى نهاية أبريل 2020م عن تدمير ما يقرُب من نصف صواريخ أرض-جو الروسية التي جرى تدميرها. دمَّرت كذلك 6 مركبات قتالية مدرعة، و5 قطع مدفعية مقطوعة. أيضًا أسهمت 3 من هذه الطائرات المسيَّرة في الدعم الإلكتروني لتدمير الطراد الروسي «موسكفا»، عندما شوَّشَت وألْهَت أجهزة الرصد بالطراد، وشغلت منظومة الدفاع الذاتي له، ثم باغتته بصاروخين من طراز «نيبيتون» الأوكراني فأصابته مباشرة[7].

حققت هذه الطائرات أيضًا فوزًا دعائيًّا كبيرًا لأوكرانيا، إذ ساعدت في توفير ونشر صور ومقاطع فيديو للضربات الأوكرانية. يُنظَر إلى الطائرات بلا طيار على أنها جزء مهمّ من النجاح الأوكراني ومن الدعاية المؤثرة لأوكرانيا، حتى إنه جرت كتابة أغنية للاحتفال بـ«TB-2».

مع كل ذلك، لا يمكن لطائرة مسيَّرة من نوع واحد أن تغِّير من مسار الحرب، خصوصًا إذا اكتشف الخصم طرقًا وتكتيكات وأسلحة جديدة للتعامل معها. وهذا ما يبدو أن الجيش الروسي نجح فيه إلى درجة كبيرة، مُسقِطًا عددًا كبيرًا من طائرات «بيرقدار». من الضروري أن تملك الدولة أعدادًا كبيرة ومتنوعة من المسيَّرات حتى تتمكن من المراوغة على أنظمة الدفاع الجوي المعادية، وتنتشر في كل الأجواء، وتضرب من اتجاهات متعدّدة أهدافًا معادية كثيرة لاستنزاف الخصم. هذا ما يبدو أن أوكرانيا تخطِّط له حاليًّا، وحتى روسيا، بما يؤكد أن المسيَّرات سيزداد استخدامها مع استمرار الصراع الأوكراني-الروسي.

ثالثًا: دعم الحلفاء لأوكرانيا بالمسيَّرات

النجاح القتالي الذي حققته طائرات «بيرقدار» التركية يبدو أنه زاد الرغبة الأوكرانية في الاعتماد على المسيَّرات، في ظل افتقاد كييف إلى الطائرات المقاتلة الكافية والصواريخ الباليستية، التي يمكن أن تحقق تدميرًا للأهداف الروسية الأرضية.

زوَّدت واشنطن أوكرانيا بطائرة بلا طيار تكتيكية يُطلَق عليها اسم «Phoenix Ghost» أو «شبح العنقاء»، وهي تُعَدّ سلاحًا يمكن استخدمه مرةً واحدة، ويمكن إطلاقها بشكل عمودي، وتستطيع العمل خلال الليل باستخدام أجهزة استشعار الحركة بالأشعة تحت الحمراء. هذه الطائرة المسيَّرة كانت فعّالة في استهداف الأهداف الأرضية المتوسطة الحجم. أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) أنها سلَّمت أكثر من 120 طائرة بلا طيار من «شبح العنقاء»، التي صممتها القوّات الجوية الأمريكية خصيصًا للاحتياجات الأوكرانية مع تصاعُد الحرب مع روسيا. تُعتبر «شبح العنقاء» أحدث طائرة أمريكية بلا طيار، وهي صغيرة بما يكفي لحملها في حقيبة ظهر، ويمكن إطلاقها بسهولة وتفجيرها بعد اصطدامها بهدفها. تخطِّط الولايات المتحدة أيضًا لتوفير 580 طائرة إضافية بلا طيار من هذا الطراز[8]. يبدو أن هذه الطائرات طوَّرت قدراتها كي تتناسب مع نوع القتال الذي تتوقع وزارة الدفاع الأمريكية أنه سيستمر في منطقة دونباس في الشرق الأوكراني.

أيضًا، وافقت الولايات المتحدة على تزويد أوكرانيا بما لا يقل عن 700 طائرة بلا طيار الأقل تعقيدًا ذات الاستخدام الفردي، أو الكاميكاز، المسمّاة «witchblade»، وهي نوعان، النوع الأول 300 ويبلغ مداه ستة أميال، والثاني من نوع 600 بمدى يبلغ 25 ميلًا، وتطلق ذخائر مكثَّفة على الأهداف الأرضية[9].

اشترت أوكرانيا كذلك 300 طائرة استطلاع بلا طيار من صُنع لاتفيا، كذلك تستخدم القوّات المسلحة الأوكرانية في الوقت الحالي طائرات مسيَّرة استطلاعية من شركة «كوانتم سيستم» الألمانية، ومن شركات يابانية[10].

تصنع أوكرانيا أيضًا مجموعة من الطائرات بلا طيار المحلية، تشمل هذه الطائرات «Spectator-M1»، كما أنها تنتج طائرات بلا طيار مثل «UJ-22» و«Punisher»، التي يمكنها ضرب أهداف على الأرض، وتعتمد الأخيرة على طائرة بلا طيار مصاحبة من طراز «Spectre» لتحديد أهدافها. أيضًا يستخدم الجيش الأوكراني طائرات مسيَّرة محلية الصنع، خصوصًا طائرة «ليليكا-100»، التي تزن نحو خمسة كيلوغرامات ومن إنتاج شركة «ديفيرو»، ومقرها مدينة دنيبرو بوسط أوكرانيا[11]. كذلك هناك طائرة بلا طيار أخرى مصنوعة في أوكرانيا، تُسمَّى «A1-SM Furia»، تُستخدَم للبحث عن الأهداف، يكلِّف كل منها نحو 25000 دولار. ودمَّرت المسيرة «فوريا»، مؤخرًا، نظامًا روسيًّا لقاذفات الصواريخ المتعدّدة «أوراغان»[12].

ساعدت هذه الطائرات بلا طيار الصغيرة الجاهزة في أغراض الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع ISR))، في جميع أنحاء البلاد. يشير بعض التقديرات إلى أن ترسانة الطائرات بلا طيار الأوكرانية غير العسكرية تقترب من 6000 طائرة يستخدمها، إضافةً إلى الجيش، مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة، بما في ذلك كل من قوّات الأمن الرسمية، والجماعات شبه العسكرية، وغير المقاتلين[13]. لا يوجد لدينا أرقام نهائية لعدد ضربات الطائرات بلا طيار التي نفَّذتها القوّات الأوكرانية، وقد تكون محدودة، إلا أنها أسهمت في جمع المعلومات عن مواقع صواريخ ومدفعية الجيش الروسي، وتشكيلاته القتالية، ودروعه، وفي تسهيل تحركات القوّات الأوكرانية، ومكَّنتها من الضرب في وقت التحرك، وفي تتبُّع وتعطيل خطوط الإمداد وأنظمة الدفاع الجوي والسفن الروسية، وكذلك المساعدة في التخطيط العسكري.

ما يسهِّل التوسع في استخدام المسيَّرات أنها تُباع بأسعار رخيصة في مواقع التجارة الإلكترونية. من الواضح الآن أن أوكرانيا، بدافع الضرورة، حوَّلت هذه الطائرات بلا طيار الجاهزة «off-the-shelf drones»، التي يمكن شراؤها مقابل ما بين 5000 و10000 دولار، إلى شيء ما بين إمكانية إطلاق صاروخ موجَّه بدقَّة، أو تحويلها إلى سلاح تفجير ذاتي كاميكازي ضد الدبابات الروسية[14]. يعمل المتطوعون المدنيون من المهندسين الأوكرانيين، منذ الغزو الروسي للقرم في عام 2014م، على تعديل الطائرات التجارية بلا طيار للاستخدام العسكري. وفي حين أن هذه الطائرات بلا طيار يمكن إسقاطها بسهولة، مثل نظيراتها المصمَّمة عسكريًّا، فإنّ ذلك لا يمثل مشكلة كبيرة، نظرًا إلى تكلفتها المنخفضة.

كل الحقائق السابقة تعني الدور المتزايد الذي يُتوقَّع أن تلعبه الطائرات المسيَّرة حال طال أمد الحرب الأوكرانية. بالتالي فبعد أن تحوَّلت أوكرانيا إلى مُستقبِل لهذه الطائرات من دول عديدة، فمن المحتمل أنها ستخلق تهديدات حقيقية للأسطول الجوي الروسي، وستكون الأهداف الأرضية الروسية معرَّضة لتدمير أكثر. لكن بما أن الطائرة بلا طيار يمكنها مهاجمة هدف واحد فقط في كل مرة، كدبابة أو قطعة مدفعية، فإنّ هذا يحتاج إلى أن يمتلك الأوكرانيون عددًا كبيرًا من المسيَّرات.

رابعًا: المسيَّرات الروسية تدخل الحرب تدريجيًّا

في بداية الغزو الروسي لأوكرانيا لم يكُن الجيش الروسي يعتمد على «الدرونز» كثيرًا، لكن مع تقدُّم الحرب ازدادت الحاجة إليها، وتحسَّنت المهارات الروسية. أصبحت روسيا تحلِّق بنفس العدد، إن لم يكُن أكثر من أوكرانيا، من طائراتها بلا طيار، خصوصًا لمهامّ الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع. ويفتقر الأوكرانيون إلى الأسلحة الكافية لإسقاطها، أو حتى اكتشافها للاختباء منها.

يستخدم الروس المسيَّرات إما في التدمير السريع المباشر للقوّات الأوكرانية، وإما في التقاط الإحداثيات لتمركُز القوّات الأوكرانية وإرسالها إلى أسلحة روسيا بعيدة المدى، بما في ذلك مدافع الهاوتزر وقذائف الهاون. في دونباس، وهي منطقة في شرق أوكرانيا، أصبح محور الحملة العسكرية الروسية هو استهداف المدفعية الأوكرانية بالنيران المضادة الروسية، وبالطائرات بلا طيار.

يمتلك الجيش الروسي عدة طائرات مسيَّرة، لكن لم يظهر أنه استخدم في أوكرانيا كل الأنواع التي بحوزته حتى الآن، ربما خوفًا من تدميرها من قِبَل الدفاعات الأوكرانية، أو أنه لا يملك الأعداد الكافية منها. يملك الروس عديدًا من المسيَّرات، منها: «Orlan-10» متعدّدة الأغراض والأكثر استخدامًا، وهي طائرة استطلاع ومراقبة صغيرة مصمَّمة لتتبُّع الأجسام بعيدة المدى والمحلية في المناطق التي يصعب الوصول إليها، طوَّرها «مركز التكنولوجيا الخاصة» في مدينة سانت بطرسبرغ، وتبلغ تكلفتها نحو 80.000-120.000 دولار، حسب النوع والمواصفات. لم تنشر موسكو هذه الطائرات القتالية بلا طيار في أوكرانيا إلا في مارس 2022م، وبعدد محدود[15]. نجح الجيش الأوكراني في تدمير أكثر من 50 طائرة من هذا النوع، حسب بعض التقارير، خصوصًا من قِبَل المدفعية الأوكرانية المضادة للطائرات من نوع «خورتيتسيا»[16].

يوجد لدى الروس كذلك الطائرة المسيَّرة «كوب-بلا» (KUB-BLA) ذاتية التفجير، التي استُخدِمت في سوريا وليبيا. جرى رصد هذه المسيَّرات الانتحارية الروسية، التي تتميز بالقدرة على تحديد الأهداف باستخدام الذكاء الصناعي، في صور الغزو المستمر لأوكرانيا. تتميز هذه المسيَّرة بصغر حجمها، مما يصعب رصدها من قِبَل أنظمة الدفاع الجوي التقليدية. وتتمتع بقدرات خارقة في تفجير نفسها بأهداف أرضية على ارتفاعات مختلفة. جرى تصميم «Kub» من قِبَل شركة «Zala Aero» التابعة لمجموعة «كلاشينكوف»، ويبلغ وزنها 3 كغم، وأقصى قدرة على البقاء في الجو 30 دقيقة، وتتمتع الطائرة بسرعة قياسية بالنسبة إلى الطائرات الصغيرة المماثلة، تصل إلى 130 كم/الساعة، في الوقت الذي يمكنها فيه مباغتة الهدف عموديًّا من أعلى إلى أسفل.[17] استُخدِمَت هذه المسيَّرة الكاميكازية، حسب مقاطع الفيديو التي ظهرت في وسائل التواصل الاجتماعي، في تنفيذ غارة جوية على وزارة المالية في وسط كييف.

طوَّر الروس أيضًا طائرة مسيَّرة تتمتع بقدرات ذاتية وذكاء صناعي تُسمَّى «لانسيت» (LANCET)، وهي أول طائرة مخصَّصة، إضافة إلى التدمير الأرضي، في «التفخيخ الجوي» لتدمير الطائرات بلا طيار المعادية، من خلال إطلاق ذخائر تتفجَّر في الجو. سرعة الطائرة تبلغ 300 كم/ساعة، لمضاعفة السرعة التي تستخدمها عادة الطائرات بلا طيار الحالية، ويجري إطلاقها من منصَّة إطلاق أرضية أو بحرية. يصل مدى الرحلة إلى 40 كم، أو 30 دقيقة، بسرعة تتراوح بين 80-110 كم/ساعة. تحتوي على نظام توجيه متعدّد القنوات، ويمكن تجهيزه بكاميرا تليفزيونية لنقل صورة الهدف لتأكيد الإصابة. وجرى رصد هذه الطائرة وهي تضرب أهدافًا أرضية في إدلب السورية[18]. أظهرت مقاطع فيديو أن الجنود الأوكرانيين أسقطوا أربع طائرات من هذا النوع في أثناء محاولاتها مهاجمة مواقع القوّات المسلحة الأوكرانية في منطقة زابوروجي (Zaporozhye).

هناك من يرى أن موسكو تُعتبر متأخرة في تكنولوجيا الطائرات بلا طيار مقارنةً بأمريكا، لكن لا يمكن التكهُّن بصحة هذه المعلومة. ربما كان السبب في عدم تطوير روسيا لطائرات مسيَّرة، بمستويات متقدمة، ثقتهم بصواريخهم الباليستية وطائراتهم المقاتلة، التي كلَّفتهم كثيرًا من النفقات، والتي كانوا يعتقدون أنها ستدمر أي شيء يحلق في الأجواء أو يمشي على الأرض. على النقيض من ذلك، يبلغ سعر طائرة «TB-2» التركية خمسة ملايين دولار فقط[19]، ويصل سعر صاروخها «MAM-L»، الذي استُخدِم في ناغورنو كاراباخ وخلَّف أثرًا مدمرًا، 100 ألف دولار فقط[20]. وهذه حسبة ربما أخطأ الروس في فهم معادلتها، وبالتأكيد فإنها ستكون من الدروس الهامة التي ستأخذها روسيا في الحسبان، سواء خلال مسيرة الحرب الأوكرانية هذه أو في حروبهم المستقبلية.

دخلت روسيا الحرب بترسانة هائلة من الطائرات بلا طيار، لكنها خسرت عددًا كبيرًا منها، خصوصًا الاستطلاعية من قِبَل الدفاعات الجوية الأوكرانية، أو بسبب أعطال تقنية تسبَّبت في سقوطها والتشويش عليها. يجري التداول في الإعلام الأمريكي، بغضّ النظر عن مدى دقّته، أن روسيا استنفدت معظم أسلحتها الموجَّهة بدقة، بالإضافة إلى عديد من الطائرات بلا طيار التي استخدمتها لمساعدة المدفعية بعيدة المدى في ضرب أهداف في أوكرانيا. يُضاف إلى ذلك أن الصواريخ الأمريكية، التي جرى تزويد أوكرانيا بها، دمَّرت أعدادًا كبيرة من مستودعات الذخيرة الروسية، ما زاد حاجة موسكو إلى الطائرات المسيَّرة للتعامل معها.

لهذا تكافح صناعة الدفاع الروسية لبناء طائرات بلا طيار مسلحة بكميات كبيرة، أو استيرادها من قِبَل حلفائها، كدولة مثل إيران. احتمال تسليم مئات الطائرات الإيرانية المسلحة وغير المسلحة بلا طيّار إلى روسيا وارد، لأنه سيساعد الكرملين في تجديد أسطوله، الذي تكبَّد خسائر فادحة خلال الحملة العسكرية التي قد تطول.

كشف البيت الأبيض في الأسبوع الأول من يوليو 2022م أن روسيا تسعى للحصول على مئات من طائرات الاستطلاع بلا طيار المسلحة وغير المسلحة من إيران، لاستخدامها في الحرب في أوكرانيا. يعكس ذلك حاجة موسكو إلى سد فجوة حرجة في ساحة المعركة، والعثور على مورد طويل الأجل لتكنولوجيا قتالية حاسمة. ذكر مسؤولون أمريكيون أن إيران تستعدّ لتوفير ما يصل إلى 300 طائرة مسيَّرة، وستبدأ في تدريب القوّات الروسية على كيفية استخدامها. وقال مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان في بيان أصدره البيت الأبيض وأوردته شبكة «CNN» إنّ وفدًا روسيًّا زار مطارًا في وسط إيران مرتين على الأقل، خلال الفترة من 08 يونيو وحتى 05 يوليو 2022م، لفحص الطائرات بلا طيار التي يمكن شراؤها. وذكر البيان أن الروس استعرضوا طائرات «شاهد-191» و«شاهد-129»، وفقًا لصور الأقمار الصناعية التي زوَّد البيت الأبيض بها صحيفة «نيويورك تايمز»[21].

نقل معهد دراسات الحرب، وهو مركز أبحاث مقرّه الولايات المتحدة، عن مستشار مكتب الرئيس الأوكراني أوليكسي أريستوفيتش، قوله إنّ إيران سلَّمت 46 طائرة بلا طيار من طراز «شاهد 129» ذات الضربات الثقيلة إلى روسيا، وأن الحكومة الأوكرانية أشارت بالفعل إلى استخدام هذه الطائرات بلا طيار في القتال في أوكرانيا، التي قد تسعى القوّات الروسية إلى استخدامها لمهاجمة نظام «HIMARS»، وهو نظام صاروخ مدفعيّ عالي الحركة وفَّرته الولايات المتحدة لأوكرانيا[22]. إذا حدث ذلك حقًّا فقد يكون تطوّرًا كبيرًا في العَلاقات الروسية-الإيرانية، التي بدأ تعاونها العسكري في إثارة قلق البلدان الأخرى، كدول مجلس التعاون الخليجي.

وقد نفت روسيا الأخبار المتداولة حول تزويد إيران لها بالمسيَّرات، ربما رغبةً في عدم إظهار ضعفها، وأن لديها ما يكفي من مسيَّرات، لكن الخبرات الإيرانية في تجميع وصناعة المسيَّرات واستخدامها تزيد احتمالات وجود هذه الصفقة. فإيران لها تاريخ طويل في تزويد حلفائها بهذه «الدرونز»، إذ زوَّدَت إيران «حزب الله» في لبنان بتكنولوجيا الطائرات بلا طيار، وزوَّدَت كذلك «المتمردين الحوثيين» في اليمن، الذين يهاجمون السعودية والإمارات، وأيضًا «الميليشيات الشيعية» في العراق، التي نفَّذت ضربات ضد القوّات العراقية والأمريكية.

خامسًا: فاعلية الدفاعات الجوية ضد المسيَّرات

استعدَّت روسيا منذ عام 2015م للحرب المضادة للطائرات بلا طيار، وبذلوا جهودًا مبكِّرة في الحرب الإلكترونية، وتطوير تكتيكات وإجراءات جديدة للكشف عن الطائرات بلا طيار والاشتباك معها. تعلَّم الروس كذلك من دروس الحروب الأخيرة التي استخدمت فيها المسيَّرات، كتجربتهم في سوريا، وفي حرب ناغورنو كاراباخ، ومن الحوثيين في اليمن، وأخيرًا الصراع الليبي بين حكومة الوفاق الوطني المدعومة من تركيا والجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر.

من محاولات التطوير التي أحدثوها، على سبيل المثال، جرى تحديث نظام «بانتسير-إس 1 إم» الصاروخي أرض-جو «Pantsyr-S1M»، ليكون قادرًا على اكتشاف وتدمير جميع أنواع الطائرات بلا طيار. جرى تجهيز «بانتسير» بصواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت، لتعزيز مدى الإصابة من 20 إلى 30 كيلومترًا، كذلك تحسين قدرات التخفِّي والتشويش في النظام، بالإضافة إلى زيادة معدل إطلاق النار[23].

رغم ذلك، كان الروس بطيئين في دراسة أنواع وقدرات المسيَّرات الأوكرانية، ونشر مضاداتهم الدفاعية في الأماكن المناسبة ضد الطائرات بلا طيار الأوكرانية. لكن مع تقدُّم الحرب، تعلَّمت روسيا وحسَّنت أنظمة دفاعها الجوي وأسقطت عديدًا من الطائرات بلا طيار الأوكرانية، وشوشت عليها. لقد نظَّمَت روسيا دفاعها الجوي الأرضي بشكل أفضل في منطقة دونباس، حيث تحوَّل تركيز الحرب، وبالتالي أصبحت الحرب الإلكترونية والدفاعات الجوية لروسيا أفضل تنظيمًا وميدنةً، مقارنةً ببداية الحرب.

وفقًا لإفادة وزارة الدفاع الروسية، بلغ عدد الطائرات بلا طيار الأوكرانية التي جرى إسقاطها منذ بدء ما يُسمَّى بـ«العملية العسكرية الخاصة» الروسية في أوكرانيا حتى 13 يونيو 2022م نحو 1188 مسيَّرة، منها 12 طائرة بلا طيار تركية الصنع من طراز «بيرقدار». أصبحت الطائرات الأوكرانية بلا طيّار أقل فاعلية في هذه المرحلة الجديدة من الحرب.

زاد في الفترة الأخيرة الاستخدام الروسي لرادارات الإنذار المبكر، للتعرُّف على الطائرات بلا طيار، وإدخال بعض من أنظمة الحرب الإلكترونية للتشويش عليها وتعطيل اتصالاتها. مَيْدَنَ الروس عددًا من أنظمة التشويش المختلفة، مثل «Borisoglebsk-2» و«Krasukha-4»، التي تعمل بشكل فعّال. كذلك استخدموا أسلحة مختلفة، مثل المدافع الرشاشة والأنظمة الصاروخية، مثل نظام الصواريخ «Tor»، لإسقاط الطائرات بلا طيار، وأضافوا كذلك الذكاء الصناعي[24].

لكن يواجه الروس بعض الصعوبات في اكتشاف المسيَّرات الصغيرة الأوكرانية، التي تعمل بالطاقة الكهربائية، مثل «witchblade» أو «Spectators»، التي تستخدم محركات كهربائية تعمل بالبطاريات، إذ يصعب اكتشاف كلتيهما لأنه لا يوجد بهما بصمة حرارية للأشعة تحت الحمراء، ما يصعِّب من عملية كشفهما من قِبل الرادارات الروسية[25]. في ما يتعلق بباقي المسيَّرات الروسية، يبدو أن النظام الروسي للحرب الإلكترونية ضد الطائرات المسيَّرة الأوكرانية مصمَّم لتحديد مواقع الطائرات بلا طيار، والتشويش عليها وتعطيلها على مسافة تصل إلى 4 كيلومترات[26]. لم يكُن الروس في بداية الحرب يملكون هذه القدرة، لكن أنظمة التشويش الخاصة بهم تطوّرت خلال مسيرة الحرب.

كيَّف الجيش الروسي أنظمة دفاعه الجوي من مدافع وصواريخ وحرب إلكترونية، وزاد فاعليتها ضد المسيَّرات الأوكرانية، والأبعد من ذلك أنهم بدؤوا يلمِّحون إلى امتلاكهم سلاحًا ليزريًّا قادرًا على التعامل مع هذه المسيَّرات بفاعلية أكبر. كان استخدام الليزر لتعمية الأقمار الصناعية في يوم من الأيام خيالًا من عالم الخيال العلمي، لكن الولايات المتحدة والصين وروسيا تعمل على أنواع مختلفة من هذه الأسلحة منذ سنوات.

سبق أن كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عام 2018م عن سلاح ليزر روسي للدفاع الجوي ومضاد للأقمار الصناعية. وكشف الروس أن لديهم عدة أنظمة ليزرية، أهمها نظام يسمى «Zadira»، ونظام «Peresvet»، إذ ادَّعت روسيا أنهما قادران علىحرق طائرة مسيَّرة على بُعد 5 كيلومترات في غضون 5 ثوانٍ فقط، وأن هذه الأسلحة جرى نشرها في أوكرانيا لاستخدامها في الصراع الدائر في أوكرانيا، لحرق الطائرات بلا طيار الأوكرانية[27]. مع ذلك، لا يوجد حتى الآن تقارير أو مصادر موثوقة تثبت أن الروس استخدموا أنظمة ليزرية فعليًّا في تحقيق إصابات ضد المسيَّرات الأوكرانية، وإنما جرى التدمير بواسطة أسلحة الدفاع الجوي التقليدية.

وحال أثبتت هذه الأسلحة الليزرية الروسية عمليًّا أنها قادرة على تدمير الطائرات بلا طيار، فقد يفقد الأوكرانيون هذه الميزة، بما يسمح للروس بالحصول على تفوُّق جويّ، وتأمين لأهدافهم الأرضية. وعلى الرغم من أن انتشار هذه الأسلحة الليزرية قد يعطي الدفاعات الجوية الأرضية ميزة أمام المسيَّرات، فإنّه لن تتمكن كل الدول من الحصول على هذه التقنية، التي ستبقى تحتكرها الدول المطوِّرة لها، لتبقى المسيَّرات تهديدًا جويًّا وأرضيًّا فاعلًا في مستقبل الحرب.

يقوم كلا الجانبين الروسي والأوكراني باستخدامات جديدة ومبتكرة للمركبات الجوية غير المأهولة، سواء كانت الطائرات بلا طيار باهظة الثمن التي ترسلها الحكومات الغربية، أو النماذج الرخيصة الجاهزة التي جرى تكييفها للحرب. أوضح الصراع في أوكرانيا بالفعل أن «حرب الطائرات بلا طيار» هي جزء لا يتجزأ من جميع الحروب الآن. تمتلك العشرات من الدول الآن القدرة على استخدام هذه الأسلحة الفتاكة، وسيتعيَّن على الجيوش في كل مكان التكيُّف مع هذا التطوّر.

سادسًا: تأثير الطائرات المسيَّرة في مستقبل الحروب

يقدِّم الصراع في أوكرانيا عددًا من الدروس الأولية، ستؤثر حتمًا في تفكير المخططين وصانعي السياسات العسكرية والقادة العسكريين وشركات التصنيع العسكري، حول مستقبل قدرات الطائرات بلا طيار. وبينما يستمرّ الصراع في أوكرانيا، فقد تظهر دروس جديدة، إلا أنها لن تضيف إلا فارقًا بسيطًا إلى هذه النقاط:

  1.  التكلفة المنخفضة لهذه الطائرات المسيَّرة مقابل القدرة العسكرية الكبيرة التي توفِّرها ستجعل الدول تتسابق لشرائها من الدول المتقدِّمة عسكريًّا أو صناعتها بقدرات ذاتية: تُعتبر المسيَّرات رخيصة جدًّا مقارنةً بتكلفة الطائرات المقاتلة باهظة الثمن، التي قد تكون عُرضة للاعتراض والتدمير، مع خسارة الطيارين الذين تستثمر الدول في تدريبهم مبالغ ضخمة ويصعب تعويضهم بالسرعة المطلوبة، أو مقارنةً مع الصواريخ الباليستية باهظة الثمن أيضًا، التي يمكن اعتراض أغلبها، خصوصًا ذات السرعات أقل من سرعة الصوت، من قِبَل أنظمة الدفاع الجوي المخصَّصة لها.
  2.  تعدُّد المهامّ التي تقوم بها المسيَّرات جوًّا وبرًّا، وفي وقت السلْم والحرب: توفِّر هذه المسيَّرات فرصة الاشتباك مع خطوط العدوّ الأمامية لتسهيل تقدُّم القوّات البرية، وتخفيف خسائرها البشرية والمعداتية، وكذلك إلقاء الصواريخ والقنابل، لتدمير تموينات العدوّ ومستودعاته وقوّاته الاحتياطية في المناطق الخلفية. كذلك ستكون الطائرات المسيَّرة بديلًا للطائرات الاستطلاعية التقليدية، كي تقوم بمهامّ فريدة ومختلفة، إذ تصبح قادرة على الاستشعار الأمامي، ما يعني أنها ستطير قبل الطائرات المأهولة كي تحلل منطقة القتال وتجمع معلومات عن القوّات المعادية الموجودة عليها، ويمكنها في ذات الوقت تنفيذ «حرب إلكترونية» عن طريق التشويش على رادارات العدوّ وأجهزته الإلكترونية وأنظمة دفاعه الجوي وإعمائها.
  3.  هذه الطائرات المسيَّرة من خلال الحروب الأخيرة ستُحدِث تعديلًا على مفهوم «السيادة الجوية» على سماء المعارك: حتمًا، سيتطوّر دور الطائرات المسيَّرة في حرمان العدوّ من الحصول على التفوُّق الجوي على مسرح الحرب. لا شك في أن روسيا كافحت لفرض تفوُّق جوي على أوكرانيا، لكن يبدو أن الطائرات بلا طيار، إضافةً بالطبع إلى الدفاعات الأرضية التي زوَّد بها الغرب أوكرانيا، منعت روسيا من الحصول على السيادة الجوية المطلقة على سماء أوكرانيا. هذا عقَّد بطبيعة الحال مهامّ الإسناد القتالي القريب للقوّات البرية الروسية الأرضية، خصوصًا في كييف، وأجبر القوّات الجوية الروسية على التحليق على ارتفاعات عالية. الميزة في الطائرات المسيَّرة أنه حتى لو نجح العدوّ في تدمير كل مدرَّجات الطائرات فإن الطائرات بلا طيار لا تحتاج إلى مطارات مجهَّزة للإقلاع، ويمكنها الطيران من أي مكان. من المرجَّح إذًا أنّ الدول المتقدمة في تطوير المسيَّرات ستجعل الطائرات بلا طيار تسهم أيضًا بإنشاء حقول ألغام جوية، إذ تطير الطائرات بلا طيار وتستهدف الطائرات القريبة بأنواعها بوابل من المتفجرات والشظايا، بما يجعلها تشكِّل نظامًا دفاعيًّا جويًّا طائرًا وفاعلًا.
  4.  رغم تطوير بعض الدول لأنظمة دفاع جوي متخصِّصة ضد هذه المسيَّرات، فإنّ الأمر يتطلَّب مستقبلًا مواكبة الدفاعات الجوية للتطوّر المستمرّ في الطائرات المسيَّرة: لا يزال، حتى الآن، التعامل مع المسيَّرات يجري في الغالب عن طريق الأنظمة الدفاعية التقليدية، كنظام الباتريوت أو الثاد المكلف جدًّا مقارنةً بتكلفة الطائرة المسيرة. لذلك من المحتمل أن الاستثمار في صناعة مضادات جوية ضد هذه المسيَّرات سيكون على أجندة الصناعات الدفاعية في العالم، في السنوات المقبلة. على الأرجح، تُعتبر أسلحة الليزر هي الجيل التالي من تكنولوجيا الأسلحة التي ستطوّرها الجيوش لمواجهة التهديد المتزايد من الطائرات المسيَّرة، والتي يبدو أن الصين في الوقت الحالي تتقدَّم فيها أكثر من غيرها.

الخلاصة

سجَّلت الأزمة الأوكرانية أول حرب واسعة النطاق تُستخدَم فيها الطائرات بلا طيار العسكرية والتجارية على نطاق واسع. وبينما يشهد الصراع الحالي في منطقة دونباس الشرقية بأوكرانيا استخدامًا ثقيلًا وفعّالًا للطائرات بلا طيار، يًتوقع أن تستمرّ المسيَّرات في لعب دور حاسم لكل من الجيشين الأوكراني والروسي، حال استمرّت الحرب. وهذا يعني أن هذه الحرب ستستمرّ في تقديم بعض الأفكار حول تطوّر الطائرات بلا طيار، وتأثيرها المستقبلي في حروب القرن الحادي والعشرين.

تُعتبر دول مجلس التعاون الخليجي معنيّة بفهم العقائد والمفاهيم والقدرات التكنولوجية لإيران، حول توظيف الطائرات بلا طيار، سواء مباشرة من أراضيها أو من خلال استخدامها من قِبَل الميليشيات التابعة لها في اليمن وسوريا والعراق ولبنان. ولا شك أن المملكة العربية السعودية تُعتبر أكثر الدول في العالم تعاملًا مع المسيَّرات التي أطلقها الحوثي، وأن الرياض طوَّرت أساليبها وتقنياتها في المواجهة، ولا تزال تشتري وتطوِّر قدرات دفاعية إضافية ضد المسيَّرات الإيرانية، التي ستسعى إيران إلى استخدامها في استهداف المرافق الحيوية للمملكة، سواء من الأراضي الإيرانية أو من قِبَل ميليشياتها المسلحة في المنطقة.

كذلك، فأمام دول مجلس التعاون الخليجي خطر أن تستخدم الجماعات الإرهابية أو التنظيمات ذات الميول الطائفية المدعومة من إيران هذه المسيَّرات ضد أهداف حيوية في الخليج. وما يسهِّل على الجماعات الإرهابية استخدام المسيَّرات سهولة تقنيتها وتصنيعها وتشغيلها، أو الحصول عليها جاهزة من دول كإيران أو تركيا. علاوةً على ذلك، فتكلفتها منخفضة بالنسبة إلى الجماعات الإرهابية، إذ تُقدَّر تكلفة إنتاج بعض الطائرات بأقل من 15 ألف دولار. رأينا كيف أن إيران الداعم الأول للتطرف في العالم قد زوَّدت ميليشياتها المنتشرة في المنطقة بأعداد كبيرة ومتنوعة من المسيَّرات، لتحقيق ودعم سياستها الخارجية. كذلك استخدم تنظيم داعش هذه الطائرات في السنوات التي تلت عام 2013م.

أخيرًا، فإنّ النظام الدولي ليس مستبعدًا أن يواجه قريبًا جولة جديدة من النزاعات، تكون فيه الطائرات المسيَّرة حاضرة الاستخدام وبقوة، بما يعني أن العالم بحاجة إلى معايير ومبادئ توجيهية واضحة لاستخدام الطائرات بلا طيار، وفقًا للقانون الإنساني الدولي، وإجراء تعديلات على قوانين الحرب كذلك.


[1] جريدة الشرق الأوسط، العميد ركن المتقاعد رزق عقلة الخوالدة، الطائرات المسيَّرة سلاح فعّال في الحروب الحديثة، (08 سبتمبر 2019م)، تاريخ الاطلاع: 14 مايو 2022م، https://bit.ly/3wh5X1R

[2] إندبندنت عربية، جيسون ليل، الطائرات المسيَّرة تزعزع استقرار السياسة العالمية، (13 أغسطس 2021م)، تاريخ الاطلاع: 16 مايو 2022م، https://bit.ly/3sE7E7q

[3] Zachary Kallenborn, “Seven (Initial) Drone Warfare Lessons From Ukraine,” Modern War Institute, May 5, 2022, accessed May 17, 2022, https://bit.ly/3sJGdsP

[4] DW، هل تغيِّر الطائرات المسيَّرة «بيرقدار» التركية مسار حرب أوكرانيا؟ (05 مارس 2022م)، تاريخ الاطلاع: 13 مايو 2022م، https://bit.ly/39pdIKm

[5] القدس العربي، إسماعيل جمال، روسيا تسعى لردّ الاعتبار لمنظومة «بانتسير» الدفاعية بعدما «أهانتها» مسيَّرات «بيرقدار» التركية، (20 ديسمبر 2021م)، تاريخ الاطلاع: 17 مارس 2022م، https://bit.ly/3wumezC

[6] العربية CNN، المالكي: الحوثيون أطلقوا 430 صاروخًا على السعودية و851 «درون»، (26 ديسمبر 2021م)، تاريخ الاطلاع: 17 مارس 2022م، https://cnn.it/37QBpL0

[7] Kallenborn, “Seven (Initial) Drone Warfare Lessons.”

[8] DW، متوفرة وسهلة الاستخدام.. هل تغيِّر المسيَّرات مجرى حرب أوكرانيا؟ (15 مايو 2022م)، تاريخ الاطلاع: 13 مايو 2022م، https://bit.ly/3a4TAxp

[9] Fox news, Caitlin McFall, US delivers ‘Phoenix Ghost’ drone designed by US Air Force specifically for Ukrainian ‘needs’, 21 April 2022, Accessed: 16 May 2022, https://fxn.ws/3wrNRcx

[10] Military Factory, Athlon-Avia A1-CM Furia (Fury), 30 April 2022, 15 August 2022, https://bit.ly/3pgw0Ca

[11] The Kiev Independent, A Game of Drones: Ukraine builds up UAV fleet, 26 July 2022, 15 August 2022, https://bit.ly/3CeQJxE

[12].Ibid.

[13] STIMSON, Elias Yousif, Drone Warfare in Ukraine: Understanding the Landscape, 30 June, Accessed: 15 August 2022, https://bit.ly/3Qt399u

[14] THE DRIVE, TYLER ROGOWAY, Ukraine Situation Report: Shadowy Long-Range Kamikaze Drone Strikes Again, 20 august 2022, Accessed: 21 August 2022, https://bit.ly/3CjbJ6H

[15] DW، متوفرة وسهلة الاستخدام.. هل تغيِّر المسيَّرات مجرى حرب أوكرانيا؟ مرجع سابق.

[16] THE DEFENSE POST, RONALD WATKINS , Russia Lost 50 Orlan Drones in Ukraine: Report, 24 MAY 2022, Accessed: 17 August 2022, https://bit.ly/3CcTeRo

[17] سكاي نيوز العربية، قدرات خارقة للطائرة الروسية «الانتحارية»، محمد فرج، (26 يناير 2022م)، تاريخ الاطلاع 22 مايو 2022م، https://bit.ly/3yRHe5R

[18] European security&defence, Yury Laskin, Russia Developing LANCET UAV for «Air Mining”, 27 april 2021. Accessed: 22 may 2022, https://bit.ly/3sOp4OG

[19] Military today, Aircraft,  Bayraktar TB-2, Accessed August 24, 2022, https://bit.ly/3KeXqlA

[20] إندبندنت عربية، جيسون ليل، الطائرات المسيَّرة تزعزع استقرار السياسة العالمية، مرجع سابق.

[21] The New York times, Eric Schmitt, Thomas Gibbons-Neff and John IsmayAs, Russia Runs Low on Drones, Iran Plans to Step In, U.S. Officials Say,17 July 2022, Accessed: 16 August 2022, https://nyti.ms/3QuJZA6

[22] IRAN international, Russia Starts Using Iranian Drones In Ukraine – Reports, 8 Jun 2022, Accessed: 17 August 2022, https://bit.ly/3A4uN5I

[23] The defense post, Russia’s Upgraded Pantsyr to ‘Counter Any Type of Drone’ 1 December 2021. Accessed: 17 August 2022, https://bit.ly/3QCwz5q

[24] INSIDER, Alia Shoaib, Ukraine’s drones are becoming increasingly ineffective as Russia ramps up its electronic warfare and air defenses, 3 July 2022, Accessed: 7 August 2022, https://bit.ly/3Q99SoU

[25] ASIA TIMES, STEPHEN BRYEN, Russian counter-drone capabilities are improving, 20 June 2022, Accessed 21 August 2022, https://bit.ly/3AADgPx

[26] Aero time hub, VALIUS VENCKUNAS , «Helpless»: Russian anti-drone EW system attacked by Ukrainian drone, 12 august, Accessed: 17 August 2022, https://bit.ly/3PD9DSg

[27] موقع الجزيرة، تكنولوجيا ليزر «زاديرا» الروسية في مواجهة المسيرات الغربية، (21 مايو 2022م)، تاريخ الاطلاع: 22 مايو 2022م، https://bit.ly/3lwbZ8y

د. أحمد بن ضيف الله القرني
د. أحمد بن ضيف الله القرني
نائب رئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية