إسقاط الخطوط الحمراء في إيران.. إلى أين؟

https://rasanah-iiis.org/?p=30158

بواسطةد.محمد بن صقر السلمي

شهِدت إيران خلال العقود الثلاثة الماضية العديد من الاحتجاجات الشعبية، ولأسباب مختلفة. فعلى سبيل المثال، شهِد العام 1999م احتجاجات طلبة الجامعات، خاصةً جامعة طهران؛ بسبب القيود على حرية التعبير، وفي عام 2009م شهِدت إيران احتجاجات شعبية واسعة، بعد إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيسًا للجمهورية لدورةٍ ثانية على حساب ما يُسمَّى بالتيار «الإصلاحي». هاتان الموجتان كانتا بمشاركة الطبقة الوسطى في المجتمع الإيراني، ولأسباب متعلِّقة بنتائج الانتخابات وحرية التعبير.

وخلال الفترة بين عامي 2019 و2021م، شهِدت المدن والمحافظات الإيرانية العديد من الاحتجاجات؛ بسبب تردِّي الأوضاع المعيشية والفقر والبطالة وتضخم الأسعار، وكانت الطبقات الدنيا من المجتمع الايراني هي المشاركة الأساسية في تلك الاحتجاجات.

أمّا الاحتجاجات التي تشهدها إيران منذ أكثر من أربعة أشهر، فقد شهِدت لأول مرة اندماج كافَّة شرائح المجتمع الإيراني ومكوِّناته من نُخَب وأكاديميين وطلاب جامعات وكُتّاب ورموز الفن، إضافةً إلى العُمّال وشرائح المجتمع من الطبقة السفلى، والشعوب غير الفارسية. وبذلك، أسَّست هذه الموجة من الاحتجاجات لمرحلة جديدة من الاحتجاج ضد نظام ولاية الفقيه في إيران. ويواجه النظام تحدِّيات أمنية كبرى قادت إلى اتّخاذ قرارات، مثل إلغاء شرطة الآداب، وإعفاء مدير الأمن العام في إيران، وغيرها.

إلى ذلك، وصل التصدُّع في بِنية النظام الإيراني إلى الدائرة المحيطة بالمرشد، ولم يقتصر الأمر على مسؤولين كبار في الدولة وأبنائهم، كما هو الحال مع أفراد أُسرة هاشمي رفسنجاني، بل تعدّاه لأُسرة المرشد نفسه. فحين تؤيِّد ابنة شقيقة المرشد، السيدة فريدة مراد خاني، الاحتجاجات، وتدعو دول العالم الحُرّ لطرد سفراء النظام من أراضيها واستدعاء ممثليهم من إيران، وتُعتقَل بعد ذلك ويُحكَم عليها بالسجن عدَّة أعوام، وحين تعلن شقيقة المرشد، السيدة بدري خامنئي، براءتها من شقيقها ومن «خلافته المستبدَّة»، وتصِف المقرَّبين منه بالمُرتزَقة والزبانية، وتدعو الحرس الثوري «المُرتزَق لدى خامنئي» لطرح سلاحه جانبًا في أسرع وقت ممكن والالتحاق بالمواطنين قبل فوات الأوان، يتّضِح أنَّ شرائح واسعة من الشعب سئمت هذا النظام، وباتت تتطلَّع لتغييره بأي طريقة كانت.

الأهم أنَّ هناك عدَّة خطوط حمراء تمَّ تجاوزها خلال الاحتجاجات الراهنة، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

1- كان مؤسِّس ما يُسمَّى بـ«الجمهورية الإسلامية»، روح الله الخميني، يُعَدُّ خطًا أحمر في إيران لا يمكن التعرُّض له بشكل مباشر أو غير مباشر، إلّا أنَّ موجة الاحتجاجات الإيرانية الراهنة قد أسقطت هذا الخط وتجاوزته، عندما قام المحتجون بتاريخ 07 نوفمبر 2022م بإحراق منزل الخميني في مسقط رأسه بمدينة خمين، والذي تحوَّل إلى متحف.

2- كان الجنرال قاسم سليماني، الذي قتلته الولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ 03 يناير 2020م في مطار بغداد الدولي، يتمتَّع بشعبية واسعة بين معظم شرائح المجتمع الإيراني لأسباب قومية وأحيانًا قومية شوفينية، وكان البعض يُطلِق عليه لقب «رستم العصر»، في إشارة إلى قائد الجيش الفارسي الساساني في القرن السابع الميلادي. وقد أدرك سليماني هذه الشعبية، وأصبح قبل مقتله يظهر في الأماكن العامة، مثل بعض الميادين ومحطات المترو في طهران، ويسمح للشباب بالتقاط الصور التذكارية معه؛ ما اعتبره البعض استعدادًا مبكِّرًا لسليماني لخوض غمار السياسة بعد تقاعده من المؤسسة العسكرية. كل هذا الإعجاب والشعبية قد أسقطتها الاحتجاجات الراهنة، فقد شاهدنا إحراق مجسَّمات وصور سليماني في معظم المدن الإيرانية، بما فيها مدينة كرمان مسقط رأسه ومكان قبره، وتمَّ وضع اللون الأحمر على فمِه ببعض المجسمات، في إشارة إلى دموية هذا القائد العسكري، كما تمَّ حرق الكثير من «البنرات» التي تحمل صورته في يوم ذكرى رحيله، وهذا خطٌ أحمر ثانٍ تمَّ إسقاطه.

3- كانت العمامة الدينية تتمتَّع بحالة من الاحترام بين شرائح المجتمع الإيراني، على الرغم من الخلاف مع النظام السياسي، ولها رمزيةٌ ثقافية، وهويةُ نموذج المذهب الشيعي في «إيران الخمينية» مرتبطةٌ بها بشكل كبير، بل إنَّ هناك حالةً من القدسية لرجال الدين المعمَّمين. هذه القدسية والاحترام قد أسقطتها الاحتجاجات الراهنة في إيران، حيث شاهد العالم موجةَ استهداف رجال الدين في الشوارع والأماكن العامة، وإسقاط عمائمِهم البيضاء والسوداء، وتصوير ذلك من قِبَل شباب وبنات إيران، ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي؛ حتى أصبح ذلك صورة رمزية للاحتجاجات الراهنة. ولعلَّ في ذلك استهدافٌ مباشر للنظام ورمزيته بشكل كامل، ويُعَدُّ ذلك خطًا أحمرَ جديدًا تمَّ إسقاطه.

4- يحظى علم الدولة بمكانة خاصة لدى الشعوب، ونجد من يُقبِّل العلم إعرابًا عن حبه لوطنه. هذا الأمر اختلف كثيرًا في إيران خلال الاحتجاجات، فقد شاهدنا محتجين في عدَّة مدن إيرانية يقومون بإحراق العلم، أو تلك اللافتات التي تحمل علم البلاد، كما حدث أيام بطولة كأس العالم، باعتبار أنَّ علم إيران الراهن يمثِّل النظام السياسي للنظام الإيراني ولا يمِّثل إيران الوطن؛ لأنَّ النظام كان قد قام بعد الثورة في عام 1979م، بإزالة الأسد والشمس من علم إيران، واستبداله بشعار يشبه لفظ الجلالة (الله)، والبعض قال إنَّه مُقتبَسٌ من الديانة السيخية الهندية، حيث يُعتقَد أنَّ أُصول أُسرة الخميني تعود إلى الهند، وتمَّت إضافة عبارة «الله أكبر» على أطراف العلم الجديد. وبغضّ النظر عن كل هذه التفاصيل، فإنَّ المحتجين قد أحرقوا العلم الرسمي، الذي يمثِّل إيران في كلّ المحافل الدولية، وهذا خطٌّ أحمر رابع تمَّ تجاوزه.

أخيرًا، لا تزال الاحتجاجات مستمرة، وأحكام الإعدام بحقّ المحتجين تصدُر بشكلٍ أسبوعي، في محاولة من النظام لنشر الرهاب والخوف بين المحتجين. لكن المحتجين يراهنون فيما يبدو على الوقت، وأنَّ استمرار شعلة الثورة المجتمعية سيقود في نهاية المطاف إلى ثورة سياسية، قد تحدِّد الشكل القادم لنظام الحُكم في إيران. والسؤال هُنا؛ ما هي الخطوط الحمراء المتبقِّية، ومتى سيقوم المحتجون بإسقاطها؟

المصدر:Arab News


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد 

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية