الأزمة الروسية- الأوكرانية.. زلزالٌ جيوسياسيٌّ يضرب أوروبا

https://rasanah-iiis.org/?p=27597

دخلت أوروبا والعالم منعطفًا حرجًا باختيار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الغزو العسكري لأوكرانيا المعترف بها عالميًّا كدولةٍ ديمقراطيةٍ ومستقلةٍ وذات سيادة، وذلك في 24 فبراير الماضي، واعترافه ب‍جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين. فهل أدخل الرئيس الروسي نفسه في فخٍّ قد لا يخرج منه منتصرًا، أم أنَّه نجح وسيعيد أوكرانيا أو على الأقل جزءها الشرقي إلى الفضاء الجيوسياسي الروسي؟.

 هناك فرضيتان ترتسمان في الأفق، الفرضية الأولى هي، أنَّ الرئيس بوتين أخطأ في حساباته ووقع في فخٍ إستراتيجيٍّ ربما كانت أمريكا تخطط له لإبعاد روسيا عن المنافسة بأن تكون قطبًا في النظام الدولي الجديد، وفي الوقت ذاته تبقي على أوروبا تحت مظلتها الدفاعية، منهيةً التقارب الاقتصادي الروسي المهدِّد لمصالحها الإستراتيجية وزعامتها الدولية.

أما الفرضية الثانية فهي، أنَّه من المرجَّح أن يكون بوتين قد قرأ التحولات الدولية والانكفاء الأمريكي والضعف الأوروبي، بشكلٍ جيد وأنه تدخَّل في الوقت المناسب ليفرض واقعًا جيوسياسيًّا أوروبيًّا، يعيد هيبة الدبَّ الروسي، ويردع تمدُّد «حلف الناتو» باتجاه روسيا ومجالها الحيوي.

 يمكن الإشارة إلى الكيفية التي عاد بها مفهوم الجيوبوليتيك مرةً أخرى إلى بيئة الصراع في أوروبا، بعد أن وضعت الأمم المتحدة نهايةً له عقب الحرب العالمية الثانية. ونعني بالجيوبوليتيك،  السياسة المتعلقة بزحزحة الحدود الرسمية للدولة وبسط النفوذ في أي مكانٍ تستطيع الوصول إليه بدافع الارتباط الديني أو المذهبي أو العرقي أو القومي. ولا تزال الذاكرة الدولية والأوروبية خصوصًا، طريةً لتجترَّ توسُّع الرئيس النازي أدولف هتلر، عندما قام بزحزحة الحدود الألمانية لتشمل كل الأراضي التي يقطنها الجنس الآري، كما ضم النمسا وتشيكوسولوفاكيا، ودولًا أخرى. وترتَّب على ذلك نشوب الحرب العالمية الثانية التي انتهت بوضع حدٍّ للتوسع الجيوبوليتيكي النازي، وهزيمة ألمانيا وتقسيمها وحرمانها من التسلح القوي، وهو ما يتكرر اليوم مع  الجيوبوليتيك الروسي، وأيضًا الجيوبوليتيك الشيعي الذي تحاول إيران فرضه في المنطقة العربية.

 حدَّد بوتين الهدف من غزوه أوكرانيا، بأنَّه لتجريدها من السلاح، وإزالة آثار النازية عنها، وحماية الأوكرانيين الذين يتعرضون للتنمُّر والإبادة الجماعية من قِبل حكومتهم، مُشدِّدًا على أنَّ أوكرانيا هي «جزءٌ من روسيا ثقافيًا ولغويًا وسياسيًا». وأتت خطوة بوتين هذه، بعدما قُوبلت جهوده بإعادة أوكرانيا إلى المدار الروسي بردة فعلٍ عكسيةٍ، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أنَّ غالبية الأوكرانيين يفضلون عضوية «حلف الناتو» الذي تقوده الولايات المتحدة، والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ولكن ذلك سيشكل خطرًا وجوديًّا على الأمن القومي الروسي، وهذا في تقديري هو المبرِّر الأساسي لإقدام روسيا على غزو أوكرانيا، إضافةً إلى ما يترتَّب عليه من حجز مقعدٍ لها في قطبية النظام الدولي الجديد، وتعزيز قوتها الاقتصادية والجيوإستراتيجية وتحصين أمنها القومي. بيد أنَّ روسيا بهذا الغزو تكون قد قفزت على القانون الدولي الذي يحرِّم الجيوبوليتيك العدواني، ويمنع استخدام القوة أو التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية، وينصُّ على احترام الدول وسيادتها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وتسوية النزاعات المسلحة بالوسائل السلمية.

  هناك عدة متغيراتٍ جيوسياسيةٍ دعمت رغبة روسيا في فرض قوتها على الساحة الأوروبية، وهي، عودة الحزب الديمقراطي إلى رئاسة الولايات المتحدة، ومن تقاليده الحد من التدخلات العسكرية خارجيًّا والانكفاء على الداخل، وتبع ذلك الانسحاب الأمريكي من العراق، وعدم استخدام القوة العسكرية مع إيران رغم استفزازاتها الكثيرة والمتكررة للأمن البحري في الخليج العربي وبحر العرب وشنِّ هجماتٍ من قِبل ميليشياتها ضد القواعد الأمريكية في العراق. وكذلك شعور روسيا بالثقة بعد فرض وجودها في سوريا دون معارضة الولايات المتحدة أو أوروبا. وغير بعيدٍ من ذلك، الانقسام وتراجع الثقة في «حلف الناتو» بين ضفتي الأطلسي الذي استدعى إطلاق فرنسا «مبادرة الدفاع الأوروبي المشترك» خصوصًا بعد أن بدأت أمريكا تؤسس لتحالفاتٍ جديدة لمواجهة الصين خارج مظلة «الناتو» كما هو حال التحالف الأمني (AUKUS) الذي يضم أمريكا وبريطانيا وأستراليا.

  يحاجج أنصار فرضية الفخّ الإستراتيجي بأنَّ روسيا لم تقم بدراسة حساباتها الإستراتيجية ببعديها العسكري والاقتصادي بشكلٍ كاملٍ، وهو ما سيؤدي إلى أن تفضي الحرب إلى خسارةٍ كبيرةٍ لروسيا، وتراجع دورها الإقليمي وغيابها عن المنافسة في الصراع على النظام العالمي الجديد.

 في السياق العسكري، تتبوأ روسيا الموقع الثاني في العالم بعد الولايات المتحدة من حيث القوة العسكرية ومبيعات الأسلحة، منافسةً سوق السلاح الأمريكي في العالم. ولربما رأت واشنطن أنَّ دخول روسيا في حرب استنزافٍ طويلة في أوكرانيا سينتج عنه هزيمة قوتها العسكرية وانعدام الثقة في السلاح الروسي بما يُبقي على السلاح الأمريكي في الصدارة.

وحتى الآن، لم تسِر العمليات العسكرية وِفق تخطيط الجيش الروسي، إذ تفيد تقارير ميدانية بأنَّ الأيام الأولى شهدت مشاكل لوجستية حادة وصعوباتٍ في تزويد القوات الروسية بأساسيات الحرب الحديثة والوقود. وربما توقَّع بوتين أنَّه سيعيد قصة غزو جورجيا في عام 2008م، أو الاستيلاء على شبه جزيرة القرم في عام 2014م، ومتناسيًا الآثار الناجمة من تدخل موسكو في الشيشان في عام 1994م، أو تدخلها في أفغانستان التي تحولت إلى حرب استنزافٍ طويلة، وهو ما كان سببًا أساسيًّا في سقوط المعسكر الشيوعي وتفكك الاتحاد السوفيتي.

 أما في السياق الاقتصادي، فقد بدت واشنطن قلقةً من أنَّ مسيرة العلاقات الروسية -الأوروبية بدأت تأخذ منحىً جديدًا منذ قمة سان بطرسبورغ عام 2003م حين قرر الاتحاد الأوروبي وروسيا تعزيز العلاقات بينهما، وأصبحت روسيا أكبر شريكٍ تجاريٍّ، وأكبر مورِّدٍ للطاقة للاتحاد الأوروبي، ما يمنحها قوةً اقتصاديةً ويجعلها ركنًا في بنية النظام العالمي الجديد، ويزعزع مركز الولايات المتحدة كأقوى اقتصادٍ في العالم.  

  كما تخشى واشنطن من تزايد الشراكة الاقتصادية بين روسيا وألمانيا عبر خط أنابيب «نورد ستريم 2» الذي من المقرر أن يزوِّد ألمانيا بأكثر من 50% من استهلاكها السنوي من الطاقة، ويمكن أن يحقِّق حوالي 15 مليار دولار لشركة غازبروم الروسية، مما يزيد نفوذ موسكو في أوروبا ويكون مبررًا لألمانيا للتخلي عن الحماية العسكرية الأمريكية لها.

 هذا يجعلنا نرجِّح بأنَّ واشنطن هي المستفيد الأساسي من غزو روسيا لأوكرانيا، لأنَّها ستفرض عليها عقوباتٍ اقتصاديةٍ تحجّم دورها المستقبلي كقوةٍ دولية، وتقوِّض أُسس شراكتها الاقتصادية خصوصًا في مجال الطاقة مع أوروبا. إضافةً إلى أنَّها ستظهر للأوربيين بأنَّها المظلة الأمنية والدفاعية التي لا يمكن الاستغناء عنها في حماية الفضاء الجيوسياسي الأوروبي من التهديد الروسي. وبالفعل فقد أوقفت ألمانيا إجراءات اعتماد خط الغاز الروسي-الألماني «نورد ستريم 2».

 وفي الجانب الآخر، يرى أنصار الفرضية الثانية أنَّ بوتين قام بحساباتٍ إستراتيجيةٍ وقائيةٍ ووضع خططًا عملية لإدارة المخاطر في بُعديها العسكري والاقتصادي، وسينجح في إحتواء أوكرانيا ووضع حكومةٍ مواليةٍ لموسكو، أو على الأقل سيضمن تقسيم أوكرانيا إلى شطرين تكون الشرقية منها مواليةً لروسيا بحكم التقاطع الثقافي والعِرقي كما هو وضع جزيرة القرم.

 في السياق العسكري، سعت روسيا لتحقيق مجموعة أهدافٍ هي، تحييد سلاح الدفاع الجوي، والطيران الحربي، والأسطول الأوكراني في بحري أزوف والبحر الأسود. ونجحت في تحقيق الهدف الأخير في 40 دقيقة، لسهولة استهداف القطع البحرية الأوكرانية المنتشرة بقواعد بحريةٍ مكشوفة. إلَّا أن الجيش الروسي واجه صعوبةً في تحييد سلاح الدفاع الجوي والطيران الحربي بالكامل.

 وفيما يتعلق بالحرب البرية، هاجمت القوات الروسية أوكرانيا من 4 محاور هجوم، المحور الأول من الشمال، واستهدف إسقاط كييف، وتغيير النظام وتنصيب حكومةٍ مواليةٍ لموسكو، التي تأمل أن يؤدي سقوط العاصمة الأوكرانية إلى انهيار الجيش والمقاومة في بقية المدن. وسيطرت القوات الروسية على مدينة تشرنوبيل، واقتربت من أطراف العاصمة إلَّا أنَّها جُوبهت بمقاومةٍ شديدةٍ من الجيش الأوكراني، أوقف زحفها على بعد 30 كلم عن وسط كييف.

  أما المحور الثاني فكان نحو الجبهة الشمالية الشرقية باستهداف مدينة  خاركيف، ثاني أكبر المدن الأوكرانية، وشهدت القوات المهاجمة مقاومةً عنيفةً أجبرتها على خوض معركة شوارع اضطرتها للانسحاب والاكتفاء بالتطويق.

 وهناك المحور الثالث من الجهة الجنوبية، التي لم تكن مدافعًا عنها بشكلٍ جيدٍ خصوصًا أنها مرتبطة جغرافيًّا بشبه جزيرة القرم. ومنها انطلق الهجوم نحو خيرسون، التي تضم أقليةً روسيةً ما أسهم في سقوطها. وفي طريقها إلى مدينة مايكوليف استولت القوات الروسية على مفاعلٍ نوويٍّ في مدينة زابوريجيا بعد اشتباكاتٍ مع القوات الأوكرانية. كما انطلقت حملةٌ عسكريةٌ باتجاه أوديسا، أهم مدينة أوكرانية على البحر الأسود، للسيطرة على سواحله.

أما المحور الرابع فكان من الجبهة الشرقية وتتمثل في إقليم دونباس، الذي كان الجيش الأوكراني يسيطر على ثلثي مساحته قبل الهجوم الروسي، فيما يسيطر الانفصاليون في منطقتي دونيتسك ولوغانسك على الثلث الآخر. ويقول الانفصاليون إنَّهم تقدموا عشرات الكيلومترات نحو غرب دونباس، فيما تشهد الجبهة مقاومةً ضاريةً من الجيش الأوكراني، لم تسمح بتحقيق هدف الروس في السيطرة على كامل الإقليم.

 صحيحٌ أنَّ الآلة العسكرية الروسية صُدمت وتباطأت بسبب المقاومة الأوكرانية، إذ أسهم تزويد الولايات المتحدة ودول غربية الجيش الأوكراني بآلاف الصواريخ المضادة للدروع، في صمود مدنٍ عدة أمام الأرتال الروسية، ودفعت هذه الخسائر الجيش الروسي لتغيير تكتيكه القتالي، من خلال محاصرة المدن بدل اقتحامها مباشرةً، بهدف دفع الجنود الأوكرانيين والمسلحين المدنيين للاستسلام. ولكن سرعان ما تغيرت الإستراتيجية العسكرية الروسية وتكيَّفت مع المعطيات الميدانية الجديدة وحقَّقت انتصاراتٍ عديدةٍ بتعزيز قواتها بمجموعاتٍ كبيرةٍ من القوات المدرعة والمدفعية وأنظمة إطلاق الصواريخ المتعدِّدة وطائرات الهجوم الأرضي الأكثر تقدمًا.

  يبدو أنَّ  المرحلة الجديدة من العمليات الروسية ستكون مدمرةً ودمويةً للغاية، في وقتٍ تشير المُعطيات الأولية إلى أنَّ روسيا تحشد التعزيزات من المحيط الهادئ استعدادًا لحربٍ طويلة. كما أنَّه من غير المرجَّح أن يستطيع الجيش الأوكراني، مهما كان بطوليًا في القتال، منع احتلال بعض مدنه الرئيسة،  فمنذ بدء العمليات العسكرية وحتى الآن، وفقًا للمتحدث باسم وزراة الدفاع الروسية، فقد دمر  الجيش الروسي عددًا من الأهداف أو أخرجها من الخدمة.

أما فيما يتعلق بالسياق الاقتصادي، يتوقَّع بعض المحللين أنَّ روسيا ستنجح في استيعاب العقوبات الاقتصادية التي بدأ العالم في فرضها عليها، على الرغم مما يبدو حاليًّا من استنفاذ رأس المال الروسي وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ولكن هذا التوقُّع يقيس نتائج العقوبات على المدى القصير، ولا يخبرنا بمدى فعاليتها على المدى الطويل، وما يمكن أن تسببه اعتمادًا على قدرة روسيا واستعدادها لتحملها، أو دفعها إلى تغيير سلوكها.

 يخبرنا التاريخ أنَّ روسيا لديها القدرة على الصمود والبقاء أمام الأزمات وأنَّ احتمال انهيارها أمام العقوبات الاقتصادية ضعيفٌ جدًا، خصوصًا مع مساعدة الصين القوة الاقتصادية الثانية في العالم، والتي تتشارك معها في معاملاتٍ ماليةٍ وتبادلٍ تجاريٍ مهمٍّ، وتستورد منها كميةً كبيرةً من الغاز والنفط. وتُعَدُّ روسيا ثاني أكبر مورِّدٍ للنفط الخام إلى الصين بعد المملكة العربية السعودية، وذلك من خلال عقودٍ طويلة الأجل تصل مدتها إلى 30 عامًا.

 وهناك أحداثٌ تاريخيةٌ كثيرةٌ تعزِّز من فرضية تحمل روسيا وصمودها بحكم أنَّ التأقلم  والبقاء جزءٌ من التاريخ الروسي والهوية الوطنية الروسية. إضافةً إلى أنَّ جوهر الاقتصاد الروسي الموروث من الاتحاد السوفيتي، هو هيكلٌ اقتصاديٌّ متين، إذ تُفسَّر عدم كفاءته وانعدام قدرته التنافسية بالاندماج التام في الاقتصاد العالمي كنقاط قوةٍ في مواجهة الصدمات والقدرة على البقاء في أكثر الظروف سوءًا وتنوعًا.

  وعليه، فإنَّ إضعاف روسيا سيتطلب تخفيضاتٍ جذريةٍ في أسعار النفط العالمية أو كميات النفط والغاز التي تنتجها وتصدِّرها روسيا، أو كليهما. ولكن هذا صعبٌ في ظل رغبة موردي الطاقة في التعافي من ركود الأسعار أثناء جائحة كورونا، وفي ظل استمرار تصدير الغاز الروسي إلى الصين ودول آسيا. إضافةً إلى أنَّه لا توجد طاقةٌ احتياطيةٌ بديلةٌ لدى «منظمة أوبك» تعوض حصة روسيا ( 7 مليون برميل يوميًّا) لامتصاص مثل هذه الصدمة.

 وقد تمكّن بوتين من قبل من استخدام عوائد النفط في سداد ديون روسيا حتى لم يعد لديها ديونٌ لحكوماتٍ أجنبيةٍ أو مؤسساتٍ فوق وطنية. كما تمتلك موسكو من خلال إغراء مواردها الطبيعية، القدرة على إعادة المستثمرين الأجانب بإزالة مخاوفهم من دخول روسيا أثناء الصراع. وقد تؤدي مواجهة العقوبات إلى سيطرة بوتين بشكلٍ أكبر على الاقتصاد، وتعزز قوته السياسية وتحشد حوله الجمهور وتجعله بطلًا قوميًّا. وبالتالي يمكن القول إنَّه على الرغم من أنَّ الاقتصاد الروسي  يمكن أن يصبح أصغر وأكثر فقرًا  على المدى القريب، إلَّا أنَّ روسيا ستظل تتمتَّع باستقلالها المالي وحريتها في العمل واستدامة اقتصادها على المدى الطويل.

 وأخيرًا وليس آخرًا، فإنَّ الإجابة على السؤال عن أيّ الفرضيتين ستنجح؛ ربما يدعونا إلى النظر بعيدًا في أنَّه وعلى الرغم من ضبابية الموقف حتى الآن، واستمرار العمليات العسكرية، إلَّا أنَّه يمكن التنبؤ بأنَّ سيناريو الهزيمة الروسية والعودة إلى ما قبل الغزو، يبدو ضعيفًا بسبب ضعف حالة الجيش الأوكراني، والتدمير الكبير الذي يتعرض له وتقدم الجيش الروسي، وتباطؤ وصول الإمدادات العسكرية من أوروبا وواشنطن إلى الحكومة الأوكرانية. ولكن في الوقت ذاته، قد يكون من الصعب تخيل سيناريو إخضاع أوكرانيا بالكامل لروسيا، في ظل بقاء المقاومة الأوكرانية في غرب البلاد ورغبة سكانها في الاندماج مع أوروبا. وبالتالي يبقى السيناريو المُحتمل هو نجاح بوتين في انتزاع اعترافٍ رسميٍّ من أوكرانيا بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين كدولتين مستقلتين تدوران في الفلك الروسي، مع الضغط على كييف للتراجع عن طموحاتها في الانضمام لـ«حلف الناتو».

 ويعزِّز توقُّع هذا السيناريو نتيجة المحادثات التي تمت في تركيا بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الأوكراني دميترو كوليبا الأسبوع الماضي، وتمخضت عن تخفيف المواقف العلنية بين البلدين، إذ قلصت روسيا من مطالبها ونيتها الإطاحة بالحكومة الأوكرانية مقابل أن تعترف بشبه جزيرة القرم أرضًا روسية، والاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك، وتعديل الدستور الأوكراني لتكريس الحياد بعدم الانضمام لـ«حلف الناتو». بينما أشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى أنَّه منفتحٌ على مراجعة تطلعات أوكرانيا المنصوص عليها في الدستور للانضمام إلى «حلف الناتو»، وحتى الوصول إلى حلٍّ وسط بشأن وضع الأراضي الأوكرانية التي تسيطر عليها روسيا الآن. ومع ذلك فإنَّ المكاسب العسكرية الميدانية وتطورها خلال الأيام أو الأشهر القادمة هي ما سيشكِّل طبيعة المواقف السياسية وما سيحدِّد مسارات الخروج من هذا الزلزال الجيوسياسي الأوروبي.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

د. أحمد بن ضيف الله القرني
د. أحمد بن ضيف الله القرني
نائب رئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية