التهاون الأمريكي في تطبيق العقوبات على إيران

https://rasanah-iiis.org/?p=29175

بواسطةد.محمد بن صقر السلمي

تسبَّبت العقوبات الأمريكية التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق ترامب، منذ أواخر 2018م، في خسائر اقتصادية كبيرة للنظام الإيراني بين عامي 2019 و2020م. ومع تولِّي إدارة الرئيس الحالي بايدن مطلع 2021م، لا تزال العقوبات مفروضة، لكنَّ إدارتهُ تراخت في تنفيذها على أرض الواقع؛ فاستعاد النظام الإيراني جزءًا مهمًا من موارده المالية، من خلال الصادرات النفطية والبتروكيماوية للخارج، فتحوَّلت العقوبات في إدارة بايدن من أداة لتعديل سلوك النظام الإيراني إقليميًا ودوليًا، إلى أداة لمعاقبة الشعب لا النظام، ولم تستطِع منعَ تدفُّق المال للخزينة الإيرانية.

بعدما دخلت العقوبات الأمريكية حيّز التنفيذ على قطاعي النفط والبتروكيماويات، انهارَ النمو الاقتصادي الإيراني ودخلَ في انكماش لعامين متتاليين، وتداعت التجارة الخارجية للبلاد، وفقدت ما قد يصل لنصف قيمتها. وبعد أن كان إجمالي قيمة صادرات البلاد مع العالم الخارجي 96 مليار دولار في عام 2017م -قبل عامٍ من فرض العقوبات- انهارَ إلى حوالي 60 مليار دولار، ثُم 50 مليار دولار في عامي 2019 و2020م على التوالي. إذ خشيت كثيرٌ من الحكومات والشركات الدولية -خاصةً العاملة بالسوق الأمريكي- من جدِّية إدارة ترامب في فرض عقوبات، فامتنعت تمامًا عن شراء المنتجات الإيرانية، وعلى رأسها النفط، وانسحبت الاستثمارات الغربية من طهران، وتوقَّفت التجارة النفطية وغير النفطية تمامًا مع أوروبا، بعد أن كانت من أهم شركاء التجارة لإيران.

وعلى الرغم من استمرار العقوبات الأمريكية إلى اليوم مع إدارة بايدن، لكنَّ الناظر إلى تجارة إيران النفطية وغير النفطية مع الخارج يُدرك ضعفَ تأثيرها مقارنةً بإدارة ترامب، فنجد أنَّ إجمالي تجارة إيران مع كلِّ دول العالم قد عادَ إلى معدلات ما قبل فرض العقوبات وزادَ عليها، وسجَّلت تجارة إيران غير النفطية 103 مليارات دولار في 2021م، بينما متوقَّعٌ تجاوزها هذا الرقم بنهاية 2022م، وذلك بعد ما نمت التجارة الخارجية لإيران مع الصين بقوة خلال العامين الماضيين، وكذلك مع دول الجوار الإيراني، وعلى رأسها العراق والإمارات وتركيا، ودول بحر قزوين والاتحاد الأوراسي، بل عادت إيران مرةً أخرى للتعامل مع دول كانت صلاتها التجارية معها شبه منقطعة قبل عامين، كالهند ودول أوروبا.  

ومن المفارقات أنَّ تجارة إيران نمت بقوة مع الدول الأوروبية مؤخرًا، وبلغت 2.5 مليار يورو في النصف الأول من العام الحالي، بنمو 34% عن نفس الفترة من العام الماضي. وتاجرت إيران مع ألمانيا وحدها بمليار يورو، خلال نفس الفترة، ومع الهند بـ 2.3 مليار دولار، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها بـ 32 مليون دولار بنمو 27% في الشهور السبعة الأولى من2022 م. إجمالًا، سجَّلت تجارة إيران غير النفطية أكثر من 50 مليار دولار خلال آخر ستة أشهر (أبريل-سبتمبر)، بنمو 13% عن العام الماضي، نصيبُ الصين والإمارات من هذه التجارة 15 مليار دولار، و10.3 مليار دولار على التوالي. كما ارتفعت صادرات إيران من الغاز بنسبة 22%، وعزَّزت إيران تجارتها مع دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي لـ 1.3 مليار دولار في أربعة أشهر فقط (أبريل-أغسطس)، وازدادت صادرات المنتجات الصناعية الإيرانية في عهد رئيسي بـ 70%. كلّ ما سبق من مؤشرات إيجابية، ولا تزال العقوبات الأمريكية قائمةً لم تُرفَع بعد.

هذا يؤكِّد أنَّ العقوبات في غياب الجدِّية من الممكن أن تكون شكلية، والأخطر انحرافها عن تحقيق الهدف الأساسي؛ بمعنى أن تتحوَّل من وسيلة لتجفيف منابع النظام المالية وتعديل سلوكه، إلى وسيلة لمعاقبة الشعب، وهذا هو الحاصل في الوقت الراهن؛ فموارد النظام المالية تزيد من بيع البترول حاليًا وسلوكه لم يتغيَّر، بينما أثَّرت العقوبات بشدة على حياة الإيرانيين، ونقلت الحكومةُ الإيرانية عبء العقوبات إليهم، عندما رفعت دعمَ الغذاء والدواء قبل بضعة أشهر، فارتفعت الأسعار لمعدلات تاريخية في إيران تجاوزت 50%، وفقدت العملةُ المحلية أكثر من ثلاثة أرباع قيمتها أمام الدولار، وتسبَّبت في تآكُل قيمة دخول ورواتب ومدّخرات الإيرانيين، ومشكلات داخلية كثيرة أخرى.

وبما أنَّ صادرات النفط هي عماد المالية الإيرانية، استهدفتها إدارة ترامب حتى انهارت لمعدل 300 ألف برميل/اليوم، مقارنةً بأكثر من مليوني برميل/اليوم قبل فرض العقوبات. حاليًا، ارتفعت صادرات إيران النفطية إلى أكثر من مليون برميل/اليوم. ليس هذا فحسب، بل أصبح استيراد بعض الدول للنفط الإيراني أعلى مما كان قبل فرض العقوبات؛ اشترت الصين خلال أغسطس الماضي 900 ألف برميل كلَّ يوم، بينما كان معدل استيرادها حوالي 640 ألف برميل في أغسطس 2018م قبل فرض العقوبات الأمريكية، أي بزيادة حوالي 40% عمّا كان قبل العقوبات.

وعلى النقيض، تستطيع الولايات المتحدة إذا ما أرادت، تفعيلَ الرقابة والعقوبات على إيران والعكس صحيح أيضًا، وتَظهَر النتائجُ، عادةً، سريعًا. الشاهد على ذلك، ردّ فعل الولايات المتحدة الأخير على جمود مفاوضات الاتفاق النووي، فقد قامت الخزانة الأمريكية في شهر سبتمبر بتشديد الرقابة على صادرات النفط الإيراني، وفرضت عقوبات على شركتين كبيرتين في الصين لنقل وتخزين النفط والبتروكيماويات الإيرانية أواخر الشهر، وحذَّرت واشنطن من مزيد من الإجراءات على شركات بدول أخرى لفرض قيود اقتصادية على طهران. فظهر الانعكاس سريعًا، وتراجعت صادرات إيران اليومية إلى الخارج في شهر سبتمبر لمتوسط مليون برميل في اليوم، بعدما اقتربت من مليون وأربعمئة ألف برميل يومًيا في شهر أغسطس السابق، أي تراجعت بمقدار أكثر من الثلث خلال شهر، وانخفضت مشتريات الصين للنفط الإيراني بـ 44% في نفس الفترة، عقِب جدِّية تطبيق العقوبات النفطية عليها، مع العلم أنَّ الصين وحدها اشترت منتجات نفطية إيرانية بـ 38 مليار دولار منذ يناير 2021م، أي منذ تولِّي الإدارة الأمريكية الحالية.

المصدر: عرب نيوز


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد 

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية