الجولة الاحتجاجية الشعبية القائمة.. الأخطَر على النظام في إيران

https://rasanah-iiis.org/?p=29240

بواسطةد.محمد بن صقر السلمي

منذ سيطرة النظام الديني على مقاليد الأمور في إيران قبل أكثر من ثلاثة وأربعين عامًا، تواجه إيران موجات احتجاجية شعبية حاشدة ذات نطاق جغرافي واسع يصل إلى المحافظات الإيرانية كافة، بعضها احتجاجات شعبية محدودة، والأخرى احتجاجات شعبية كبرى، بدايةً من احتجاجات عام 1999م، مرورًا باحتجاجات 2009م واحتجاجات 2017م، ثم احتجاجات 2019م و2021م، حتى الاحتجاجات الكبرى الراهنة في 2022م، التي اندلعت على خلفية مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق، والتي تكشف جميعها عن أزمة شرعية ملازمة لنشأة ونموّ وتطوُّر النظام الإيراني، بفعل سياساته الداخلية ومغامراته الخارجية.

وعلى الرغم من أن لكل جولة احتجاجية سببًا لإشعال فتيلها، فإن وراء تعدُّدها واستمراريتها عاملَين مشتركَين: الأول سياسي يتشكَّل من ديمومة حالات الاحتقان الشعبي ضدّ النظام وسياساته الإقصائية ضدّ أبناء الأقلِّيات من غير الشعوب الفارسية، وأبناء المذاهب من غير الشعوب المعتنقة للمذهب الشيعي، والثاني اقتصادي واجتماعي، يتشكَّل من الاحتقان الشعبي ضدّ غياب العدالة الاجتماعية وتدنِّي الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وسيطرة النظام على النشاط الاقتصادي، والتمييز الطبقي، وانتشار الفساد، وتحمُّل الشعب عبء القرارات والسياسات الاقتصادية الفاشلة.

لم تتشابه الجولات الاحتجاجية فقط في دوافع انطلاقها، بل تشترك أيضًا في تمدُّدها الجغرافي السريع بعد انطلاقها مباشرةً، في المركز أو في الأطراف. ففي الجولات كافةً التي شهدتها إيران، تجِدُها سريعة الانتشار والتمدُّد في غالبية المدن الإيرانية، كما تشترك في قفز المحتجّين في كل الجولات على الفروق المذهبية والعرقية، بغضّ النظر عن اندلاعها في أي منطقة من مناطق الأقلِّيَّات، أو حتى في المحافظات ذات الغالبية الشيعية، مما يعكس اتّساع مساحة الرفض والتملمُل من سياسات النظام، وأن هناك رفْضًا شموليًّا عِرقيًّا ومذهبيًّا لسياسات الوليّ الفقيه.

يُعَدّ التصعيد ثم التغيير في مضمون مطالب المحتجين في كل جولة احتجاجية، عاملَ شبهٍ أيضًا بين الجولات الاحتجاجية، فعلى الرغم من توافر سبب مباشر لانطلاقها، فإنه سرعان ما تتصاعد مطالب المحتجّين وتتغيَّر في مضمونها، لتعبِّر عن حالة السخط العامّ من النظام. إن بدأت اقتصادية، مثلًا، فسَرعان ما تتّخِذ بُعدًا سياسيًّا بمطلب تغيير النظام ورفع شعار «الموت للديكتاتور»، في إشارة إلى خامنئي، فضلًا عن غياب عامل القيادة في الجولات كافة، باستثناء احتجاجات 2009م، التي قاد خلالها الحراك مير حسين موسوي ومهدي كروبي. وقد يكون ذلك سببًا رئيسيًّا لعدم تأثيرها بشكل ضاغط على النظام، مقارنةً بالزخم الكبير الذي أضافه موسوي وكروبي إلى الاحتجاجات، بحُكم ثِقَلهما ووزنهما في الداخل، فعادةً ما تلعب القيادة دورًا مهمًّا في تنظيم الاحتجاجات، واختيار المناطق المؤثّرة في النظام، بل وفي تركيز مطالبها وتحويلها إلى أوراق ضاغطة على قراراته.

في جميع الاحتجاجات التي شهدتها إيران، يعطي النظام الحلولَ الأمنية الأولويةَ الأولى والأخيرة في وأد الاحتجاجات، ويلجأ إلى تقييد استخدام الإنترنت، بل وترويج رواية المؤامرات الخارجية والمطالب الانفصالية، لخلق المبرِّر في استخدام القوة المفرطة، وتسهيل الانقضاض على المحتجِّين. لكن يؤدي ذلك إلى مزيد من السخط الشعبي على نحو يدفع إلى تجدُّد الاحتجاجات، كما أن هذا النوع من الحلول، على الرغم من كونه ركيزة رئيسية ضمن ركائز الحُكم الشمولي القائم على حُكم الفرد، مثل الحُكم الإيراني، فإنه عامل رئيسي ضمن عوامل فناء عديد من الأنظمة حول العالم.

تختلف الاحتجاجات من حيث مدّتها، إذ دامت احتجاجات 1999م لـ7 أيام، واحتجاجات 2017م و2021م 11 يومًا لكل منهما، فيما تُعَدّ الاحتجاجات الراهنة هي الكبرى من حيث المدة التي تجاوزت شهرًا حتى الآن، بشكل حاشد، ثم استمرت بشكل أقلّ حشدًا، ما يعني اتَّساعًا تدريجيًّا في طول مُدَد المظاهرات، وتداعيات ذلك على النظام. كما تُعَدّ احتجاجات 2022م الأوسع مقارنةً بسابقتيها، بانتشارها في أكثر من 85 مدينة، تليها احتجاجات 2021م بانتشارها في 80 مدينة، ثم 2017م بانتشارها في أكثر من 60 مدينة. كذلك تُعَدّ احتجاجات 2022م الأكثر تنوُّعًا واتّساعًا، من حيث الفئات المشاركة والتناغُم بين الشارع والنُّخب لأول مرة، بمشاركة عامّة الشعب من الطبقة الدُّنيا وأساتذة الجامعات والطلاب والفنانين والرياضيين والمثقفين والنُّشطاء السياسيين، بشكل أوسع من الفئات المشاركة في الاحتجاجات السابقة، إذ كان المحرِّك الأساسي في احتجاجات 1999 و2009م هو النخبويين، فيما كانت احتجاجات 2019م شعبية لم تتدخَّل فيها النُّخب، كما توسَّع المحتجون في جولة 2022م في ترديد الهتافات المناوئة للنظام من شُرفات المنازل، خوفًا من سياسات التنكيل والقتل، والأهمّ المشاركة النسائية الكبرى، وقصّ عديد منهن شعرهن أو خلع الحجاب الإلزامي، وفي بعض الحالات أشعلن فيه النيران، وعبَّرن بأصابعهن بحركات مُهِينة لرمز النظام خامنئي، بما يعني استهداف الإهانة لِرَمزية النظام، مطالبين بإسقاطه وإنهاء الجمهورية برُمّتها.

وتكتسب الجولة الراهنة أهميتها من اندلاعها في توقيت أكثر غليانًا ممّا شهدته توقيتات الجولات السابقة، إذ يصنِّف المتابعون ما تمُرّ به إيران من احتقان على خلفية الأوضاع المعيشية المُزرِية بفعل سياسات النظام، بالاحتقان المُفضي إلى الانفجار. كما اندلعت والمفاوضات النووية تتعثَّر، بما يعني استمرارية فرْض العقوبات المُفضِية إلى تردِّي الأوضاع المعيشية، التي تشكِّل السبب الرئيسي لانتشار الاحتجاجات في عديد من المدن الإيرانية، وبالتالي إمكانية انطلاق الاحتجاجات مجدَّدًا، أو استمراريتها متقطِّعةً، كما تأتي هذه الجولة في ظلّ حُكم رجل الدين الأكثر تشدُّدًا بين رجالات الدين الذين حكموا إيران، إبراهيم رئيسي، ولا ننسى أنه كان أحد أعضاء لجنة الموت في إعدامات 1988م، وقد اتّضح تشدُّده في استخدامه لغة الحسم في توجيهه للحرس الثوري، بل والجيش الوطني، لأول مرة باستخدام القوة الحاسمة في مواجهة المحتجين، ما قد يزيد سخطهم، لأن هذه السياسات تولِّد مزيدًا من الغضب، لا سيّما أن هناك حالة شعبية من دعم النظام لتولِّي رئيسي للحُكم، إذ جاء فيما أُقصِيَ خصومه «الإصلاحيون»، بدليل الانخفاض التاريخي في نِسَب التصويت.

وختامًا، يبدو أن تَقَلُّص عدد السنوات بين الجولات الأربع الاحتجاجية الكبرى الأخيرة، بمعدَّل عامين أو عام فقط بين كل جولة ولاحقتها (2017م، 2019م، 2021م، 2022م) مقارنةً بعدد السنوات الذي يقارب عقدًا من الزمان الجولات الثلاث الاحتجاجية (1999م، 2009م، 2017م)، يدُقّ ناقوس الخطر على مستقبل النظام الديني في إيران، ويكشف معدلات الاحتقان والغليان العالية المُفضِية إلى الانفجار الكبير في إيران من سياسات النظام الحاكم، وهو ما يفرض على النظام مراجعة حساباته، وتعديل سلوكياته الداخلية والخارجية، بوقف مغامراته وتوسُّعاته الخارجية العبثية، ليوفِّر أموال الشعب التي يقدِّمها لأذرعه العسكرية والسياسية في الخارج، نظير دوران ماكينة مشروعه التوسُّعي التخريبي، لمعالجة أزمات شعوبه المعيشية والاقتصادية، والتوجُّه إلى بناء الدولة ورعاية مواطنيه.

المصدر: Arab News


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد 

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية