بلينكن وخطاب هلسنكي.. ركائز الإستراتيجية الأمريكية وتداعياتها

https://rasanah-iiis.org/?p=31446

في دار بلدية مدينة هلسنكي عاصمة فنلندا، ألقى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في 02 يونيو 2023م خطابًا مُعَدًّا بعناية، ربما يذكره التاريخ فيما بعد على أنَّه واحدٌ من الخطابات المهمة في مرحلة تاريخية فارقة؛ لأن الخطاب جاء في مرحلة حاسمة تمر بها الحرب الروسية على أوكرانيا. وهي الحرب، التي جسَّدت أبرز مظاهر التمرد على النظام الدولي، الذي أرست الولايات المتحدة قواعده على مدار عقود، تلك القواعد التي أرادت واشنطن أن تؤكد عليها من خلال دورها في هذا النزاع. ولم يخلُ الخطاب من رسالة استهدفت جمهوًرا عالميًا أوسع؛ للفت انتباه العالم حول دور الولايات المتحدة وتوجهاتها على الساحة الدولية، وربما تبديد انعدام الثقة المتزايد في حدود القوة الأمريكية. فكيف يمكن قراءة خطاب بلينكن، وما هي الرسائل التي انطوى عليها، وإلى أيّ مدى يمكن اعتبار هذا الخطاب إعلانًا ضمنيًا عن فاعلية الإستراتيجية الأمريكية في هذا النزاع؟ وكيف يمكن ربط هذا الخطاب بزيارته المرتقبة للسعودية؟

بدايةً، اكتسب خطاب بلينكن أهميته، بالنظر إلى المكان الذي انطلق منه؛ فالخطاب جاء من هلسنكي، عاصمة فنلندا، التي أعلن رئيسها «نهاية عصر عدم الانحياز العسكري في فنلندا وبداية حقبة جديدة»؛ وبالتالي قرَّرت في ظل مخاوفها من طموح روسيا الجيوسياسي الانضمامَ إلى «الناتو». بمعنى أنَّه خطاب من أبعد نقطة وصل إليها حلف الناتو من جهة روسيا، أو أقرب نقطة وصل إليها النفوذ الأمريكي/الغربي في مواجهة روسيا، وهو تأكيد على إخفاق روسيا لتقديراتها في الصراع مع الغرب، إذ بينما كانت تعمل على حماية أمنها القومي وتعزيز حدودها الجيوسياسية، فإنَّ عضوًا جديدًا هو الأقرب لروسيا انضم إلى «الناتو»، وبالطريق عضوٌ آخر هو السويد. ولعلَّه التفاف جيوسياسي عكسي استبعده كثير من المتابعين عند اندلاع الحرب، استنادًا إلى تقديرات تخص اتجاه القوة الأمريكية نحو التراجع، أو وجود قوة صاعدة منافسة لها.

ومن حيث التوقيت، فقد واكب خطاب بلينكن لحظةً فارقةً بالنسبة للصراع الدائر في أوكرانيا، حيث تتحول مجريات الصراع بصورة دراماتيكية، بعدما نجح الأوكرانيون بدعم غربي من امتصاص الضربة الروسية الأولى، وتطوير العقيدة القتالية من الدفاع إلى الهجوم داخل حدود أوكرانيا، ثم إلى هجوم في عمق الأراضي الروسية، وذلك بعد حرب استنزاف طويلة داخل المدن كبَّدت فيها أوكرانيا وحلفاؤها روسيا خسائرَ بشرية وعسكرية ومادية هائلة.

بالإضافة إلى ذلك، يكاد يكون خطاب بلينكن أقرب إلى رسالة طمأنة للحلفاء، حول حدود القوة الأمريكية وديناميكيتها، بعد الحديث واسع النطاق حول الانقسام الداخلي وتراجُع أداء المؤسسات، إذ يعكس الخطاب فاعلية صانع القرار الأمريكي، وآلية عمل الأجهزة في التعاطي مع الأزمة حتى قبل اندلاعها. لقد أشار بلينكن إلى أنَّ إدارة بايدن وضعت تصورين للأزمة قبل اندلاعها، أولهما: إمكانية الوصول إلى حل دبلوماسي، وثانيهما: بدء العدوان الروسي على أوكرانيا. وبينما وجَّهت الولايات المتحدة جهودها إلى عملية الاحتواء والتسوية في البداية، فإنَّها لم تغفل أنَّ تضع خطةً لاحتمال العدوان الروسي، وهي خطةٌ أشار بلينكن إلى أنَّها اعتمدت على ثلاث ركائز؛ الأولى: تقديم الدعم الكامل لأوكرانيا؛ وذلك من خلال المساعدات العسكرية والاقتصادية والإنسانية، والثانية: فرض تكاليف باهظة على روسيا؛ حيث فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها أكبر حزمة عقوبات في التاريخ ضد النظام الروسي. والثالثة: حشد الحلفاء والشركاء؛ حيث اتخذت الولايات المتحدة خطوات من شأنها أن تدعم قدرة «الناتو» على الدفاع بعزم عن كل شبر من أراضيه، وأن يتم التعاون في مساعدة أوكرانيا في الدفاع عن أراضيها، والعمل على حرمان بوتين من تحقيق أهدافه الإستراتيجية.

الواضح أنَّ هذه الركائز هي محور الإستراتيجية الأمريكية في الدفاع عن مكانتها على الساحة الدولية، وهي نفسها تشكِّل إستراتيجيةَ بايدن في مناطق أخرى على الساحة الدولية، بما في ذلك منطقة بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ، وبدرجة أقل على الساحة الأفريقية، التي ستكون ساحةً مهمةً للتنافس الدولي القادم. ولا شك، كشفت الأحداث إلى أيّ مدى نجحت الولايات المتحدة في الالتزام بخططها الإستراتيجية في مواجهة العدوان الروسي، سواءً فيما يتعلَّق بدعم أوكرانيا، أو فرض تكلفة باهظة على روسيا، من جرَّاء قرار الغزو، ناهيك عن تعزيز إعادة تأهيل حلفائها وشركائها. وقد انعكس ذلك في النتيجة، التي اعتبرها بلينكن «فشلًا إستراتيجيًا لروسيا»، وهي نتيجة تريد الولايات المتحدة أن تنظُرها أيّ قوى تحذو حذوَ روسيا.

فبحسب بلينكن؛ فقد استعاد «الناتو» قوة الدفاع والردع الإستراتيجي، حيث غيَّر الحلف من عقيدته تجاه روسيا، بعدما كان يعتبرها شريكًا إستراتيجيًا، ووسَّع من مسرح عملياته باتجاه روسيا، بعدما كان التقدير هو استبعاد اندلاع صراع في أوروبا؛ وبالتالي فشل بوتين في إضعاف الحلف وتقسيمه، بزعم أنَّه تهديد لروسيا. كما تم إنهاء اعتماد أوروبا على النفط والغاز الروسي بصورة نهائية، ومن ثمَّ أبطلت الولايات المتحدة ورقةَ الضغط الروسية الرئيسية تجاه أوروبا، التي طالما هدَّدت بها، وظنَّت أنَّها ستكون حاسمةً في مسار الصراع.

بالإضافة إلى ذلك، تدهورت سمعة الجيش الروسي؛ فالصورة النمطية التي حاولت روسيا أن ترسمها للجيش الروسي، بحسب بلينكن، ثبت عكسها، وأظهرت المعارك في أوكرانيا فاعلية القوات والسلاح والمعدات والإستراتيجيات الأمريكية والغربية في أرض المعركة. كما تم إضعاف الاقتصاد الروسي، إذ أنَّ بوتين، بحسب بلينكن، أراد بناءَ روسيا كقوة اقتصادية عالمية، لكن غزوهُ لأوكرانيا عزَّز فشلهُ الطويل الأمد في تنويع اقتصاد روسيا، وتعزيز رأس مالها البشري، ودمج البلاد بالكامل في الاقتصاد العالمي.

علاوةً على ذلك، نجحت الولايات المتحدة في عزل روسيا دوليًا، وأخفقَ بوتين في الحصول على دعم الصين. فعلى الرغم من أنَّ الصين بعد الغزو الروسي أعلنت شراكةً بلا حدود مع روسيا، لكن هذه الشراكة مع الوقت باتت أُحادية الجانب، حيث نجحت الولايات المتحدة في إيقاف سلاسل إمداد السلاح الصيني إلى روسيا، من خلال الإكراه الاقتصادي، فضلًا عن أنَّ الوجود الأمريكي في بحر الصين ومنطقة المحيط الهادي، والتحالف الدولي الرافض لسلوك بوتين، قد منع بكين من أن تكون طرفًا في الحرب. كذلك أخفق في إضعاف الأمم المتحدة، إذ لم تنجح روسيا في أن تُضعف ميثاق الأمم المتحدة، أو أن تهمِّش دورها فيما يتعلق بالأزمة، ونالت إدانات واسعة من ثُلثي أعضاء الجمعية العامة، وأكدت الأمم المتحدة على مبادئها الأساسية في هذه الأزمة، وتم عزل روسيا في بعض المؤسسات.

ليس هذا وحسب، لكن تم تقليص نفوذ روسيا على الصعيد الدولي، إذ فقدت روسيا سمعتها بين دول العالم النامي. وبالعكس، تحمَّلت الولايات المتحدة تبعات الحرب، وأسهمت جهودها، بحسب بلينكن، في تعزيز مكانة وصورة الولايات المتحدة. والأهم من كل ذلك أخفقت روسيا في تحقيق أهدافها في أوكرانيا، حيث كان يرغب بوتين في بداية الحرب إلى تغيير هوية أوكرانيا الجغرافية والبشرية، لكن الغزو عزَّز من هوية أوكرانيا، ومن تضامُن الأوكرانيين، ومن تمسُّكهم بسيادة ووحدة أراضيهم؛ وهذا، بحسب بلينكن، أكبر فشل لبوتين.

وبينما يؤكد بلينكن على رفض الولايات المتحدة أيَّ مبادرة للتسوية تقوم على تقديم أوكرانيا أيّ تنازلات إقليمية، باعتبار ذلك سيشجع روسيا في المستقبل على التهديد والحرب، فإنَّ واشنطن وحلفاءها في «الناتو» يعملون على تطوير خطط لاتفاقيات دفاعية طويلة الأمد مع أوكرانيا، من شأنها تأمين المساعدات العسكرية المستقبلية، وربما إضفاء الطابع الرسمي على الالتزامات للدفاع المتبادلة. كما تبدو واشنطن بصدد الانتقال إلى مرحلة جديدة من الصراع، وهي ممارسة مزيد من الضغوط على النظام الروسي، سواءً من خلال إضافة مزيد من الدعم العسكري لأوكرانيا، التي يستعد جيشها لاستعادة الأراضي الواقعة تحت سيطرة الجيش الروسي، بل والسماح لأوكرانيا ضمنًا بتوسيع مسرح العمليات؛ ليطال عمق الأراضي الروسية، حيث تستهدف الولايات المتحدة من وراء ذلك إضعافَ الروح المعنوية في الداخل الروسي، وتقليب الجمهور على بوتين والنُّخبة الحاكمة في الكرملين، في ظل الخسائر المادية والبشرية الكبيرة بصفوف القوات الروسية، وفي ظل الانشقاقات التي طالت عناصر الجيش الروسي، والتي بدأت توجِّه عملياتها ضد النظام وتحارب إلى جانب أوكرانيا.

وبالمجمل، يمكن القول إنَّه من المبكر تصوُّر الوضع النهائي للصراع، ومدى نجاح الولايات المتحدة في فرض ملامح السلام، الذي أوضحهُ بلينكن في خطابه. وعلى الرغم من أنَّ الخطاب يحمل بُعدًا دعائيًا للضغط على معنويات الروس والرئيس بوتين، فضلًا عن رفع معنويات حلفائها وطمأنتهم، بما في ذلك الأوكرانيين، فإنَّ هذا الخطاب له أهمية إستراتيجية، وقد ينظر إليه المؤرخون بعين فاحصة في المستقبل؛ لأنَّه يعكس قدرًا كبيرًا من الثقة الأمريكية في قدراتها وأدواتها. فالصراع زادَ روسيا ضعفًا، ونزعَ عنها أوراق الضغط تجاه أوروبا، وربما تنجح الولايات المتحدة في استدراجها إلى هزيمة ستحدُّ من خطورتها وتهديداتها في المستقبل بصورة حاسمة، كما أنَّه ضربٌ لمشروع استقلال أوروبا، الذي تزعمتهُ فرنسا في وقتٍ ما؛ فـ«الناتو» والاتحاد الأوروبي أصبحا أكثر احتياجًا وارتباطًا بالولايات المتحدة.

وفى الوقت نفسه، هو خطابٌ تحذيري للقوى المنافسة، التي تنامى تأثيرها على المسرح العالمي، وتسعى إلى مراجعة النظام والقواعد القائمة. وكأن بلينكن في ثنايا خطابه يقول نحن لسنا بصدد نظام عالمي جديد، لكن أمام نظام موجود سيُعاد تأهيله، وستستعى الولايات المتحدة لتثبيت قواعده وفق تصوراتها وحلفائها، الذين لا يزالون يمتلكون رصيدًا هائلًا من القوة العسكرية والاقتصادية، فضلًا عن القيم الأكثر قبولًا والمزايا الأكثر إغراءً، ناهيك عن الاستعداد لخوض غمار الحرب باستماتة، دفاعًا عن هذه المكانة وهذه المكتسبات، وأنَّ أيّ مسعى من جانب أيّ قوة للإخلال بهذا النظام، سيُواجَهُ بحسم، وربما تكون عواقبه عليها فشلًا إستراتيجيًا، على غرار ما لحقَ بروسيا.

في الأخير، ما يشغلنا في خطاب بلينكن في هلسنكي على الحدود مع روسيا، أنَّه لا ينفك عن جولته المرتقبة في الشرق الأوسط، وتحديدًا زيارته للمملكة العربية السعودية، التي أصبحت قبلةً إقليميةً مهمةً ومؤثرة في التفاعلات على الصعيدين الإقليمي والدولي، وعنصرًا أساسيًا لتحقيق الأمن والاستقرار، وهي زيارة تأتي في وقتٍ تمرُّ به المنطقة بتغييرات إستراتيجية، لا تبدو إلى حدٍ بعيد في صالح الولايات المتحدة، ومن ثمَّ، فإنَّ هذه الزيارة من المرتقب أن تكون بذات أهمية زيارة بلينكن لهلسنكي، بل هي مكملةٌ لها، وذلك في إطار إعادة صياغة العلاقة الإستراتيجية بين الرياض وواشنطن، والتوافق حول إستراتيجية مشتركة لشرق أوسطٍ خالٍ من التوترات والتهديدات، وبعيدًا عن الاستقطاب. لكن في الحقيقة لا تزال هناك شواغل ومخاوف بشأن نهج الولايات المتحدة في المنطقة، وتبديد هذه المخاوف يحتاجُ من الولايات المتحدة تغييرًا حقيقيًا وجوهريًا في خطابها، على غرار ما قدَّمته لحلفائها في أوروبا من رسائل طمأنة، ومن مظلة حماية حقيقية، كما حدث عندما تعرَّضت حدودها وأمنها للتهديد، وعدم فرض وجهات النظر من جانب واحد دون مراعاة المصالح المشتركة والمتبادلة. وأغلب الظن أنَّ واشنطن بعدما شهِدت ما جرى في المنطقة، خلال الفترة الأخيرة، من نفوذٍ متسعٍ للصين، ومساعٍ للاستقلالية عن واشنطن، ربما تكون بصدد تغييرٍ حقيقي في نهجها تجاه المنطقة، التي طالما ثبُت أنَّه لا يمكن عزل تفاعلاتها عن مجريات التنافس والصراع الدولي.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد 

د. محمود حمدي أبو القاسم
د. محمود حمدي أبو القاسم
مدير تحرير مجلة الدراسات الإيرانية