خارطة الطريق للحوار السعودي-الإيراني

https://rasanah-iiis.org/?p=28492

بواسطةد.محمد بن صقر السلمي

 أضحت السعودية وإيران قطبين مركزيَّين في معادلة الحرب والسلام في الشرق الأوسط. لقد عُقدت خمس جولات من الحوار الأمني بين الرياض وطهران في العاصمة العراقية بغداد وغيرها، لكن النتائج لم تكن على قدر التطلعات، ولا تزال تراوح في المربع الأول، رغم جهود الرئيس العراقي مصطفى الكاظمي وحكومته. يعود ذلك إلى أن ملفات الخلاف كثيرة، ووجهات النظر متباينة، والاستراتيجية الإيرانية للتفاوض معقدة وبطيئة، وفي الطريق ألغام يجب إزالتها أولًا لتعبيد مسار السلام. فما العوائق الواجب إزالتها أمام الطرفين؟ وكيف يمكن تهيئة الظروف للانتقال من مستوى الحوار الأمني إلى المستوى الدبلوماسي أملًا في الوصول إلى المستوى السياسي؟ وما المسار التفاوضي الأكثر ملاءمة وعائدًا الذي يجب تبنِّيه؟

 هذه التساؤلات تقودنا إلى طرح فكرة المقال الرئيسية، وهي أنه إذا توفرت إرادة سياسية إيرانية للوصول إلى حالة مقبولة من السلم، فإن كثيرًا من العقبات الأخرى يمكن حله. يبقى كذلك أن يتبع توفُّرَ الإرادة الإيرانية تبنِّي نهج استراتيجي علمي واضح لعملية التفاوض وفقًا لعدة مراحل، طمعًا في تراكم المكتسبات واستثمار الفرص.

أولًا، من الضرورة بمكان دراسة وتحليل التجارب التفاوضية السابقة بحلوها ومرّها التي حصلت بين الطرفين للخروج منها بدروس وقواعد استرشادية للحوارات القادمة. يتبع ذلك تحديد حزمة الملفات المطلوب حلحلتها وفقًا لأولوياتها للطرفين، وأهميتها في تذويب جبل الجليد القائم. ولا شك أن ملفّ اليمن يتصدر قائمة الملفات، وإن حصل تفاهم ما بشأنه فسيشكّل اختراقًا لباقي الملفات الإقليمية وضامنًا كافيًا لعودة عنصر الثقة إلى العلاقات بين البلدين، وقاعدة صلبة للذهاب بعيدًا نحو ما يشبه التعايش السلمي أو على الأقل متطلبات حسن الجوار. وهدنة اليمن الحالية هي فرصة لن تتكرر لتجنُّب عودة الحرب ومآسيها. لكن من الضروري ونحن نمر بهذه المراحل تَجنُّب إحراق المراحل، وعدم القفز إلى نتائج مؤقَّتة غير كافية لعلاج جذور الإشكاليات الأزلية.

ثانيًا، التأكد من أن الجانب الإيراني يمتلك إرادة التفاوض والرغبة في الوصول إلى سلم حقيقي مستدام لا مجرد تفاوض عابر هدفه طمأنة الغرب أن إيران مبادِرة وأنها في حوار جادّ مع السعوديين. أثبتت التجارب أن إيران تتفاوض من أجل التفاوض فقط، وأن شروطها لا تنتهي، وأن قرار قبول المخرجات مرهون بمكتب المرشد الأعلى وقيادة الحرس الثوري.

ثالثًا، بعد اكتمال بناء ممكنات التفاوض وقاعدته الصلبة التي تحدثت عنها آنفًا، أتي إلى تقديم اقتراح يكون بمثابة خريطة طريق لمستقبل الحوار السعودي-الإيراني.

الخطوة الأولى، حوار عبر “مسار الدبلوماسية الثاني (Track II Diplomacy) يشمل نخبًا فكرية ومراكز دراسات من الجانبين، وتُحدَّد فيه أهم القضايا العالقة وسبل التوصل إلى حلول عملية، وفرص تقديم الضمانات الممكنة من الجانبين. من الملحّ أن تضمّ فرق العمل هذه خبراء في عدة مسارات أمنية وسياسية وأيديولوجية أو فكرية وإعلامية. يجب أن تخرج هذه الفرق بحلول وتوصيات لكل المعضلات الاستراتيجية في كل مسار ومجموعة من الخيارات والبدائل الاستراتيجية.

الخطوة الثانية، بعد تكمل فرق العمل عملية العصف الذهني وتقدّم حزمة من الحلول والتوصيات والخيارات، تُضاف إلى الحوار شخصيات رسمية من الجانبين، بحيث يصبح الحوار وفقًا لمسار 1.5 الدبلوماسي (Track 1.5 Diplomacy). وقد يمكن أخذ مشاورات الرياض الخاصة بالأزمة اليمنية كمقارنة معيارية من حيث المنهجية والأدوات. يُنتظر من هذه الخطوة أن تكتمل بتقديم إطار استراتيجي للتفاوض يقدَّم لصُنَّاع القرار في وزارتَي خارجية البلدين المعنيَّين بملف التفاوض.

هاتان المرحلتان يمكن أن تضمَّا طرفًا ثالثًا، سواء ممثلون من دولة ضامنة، ومؤسسة مجتمع مدني إقليمية أو دولية، تكون مهمتها تسيير الحوار وإدارته وتقريب وجهات النظر بين الطرفين.

المرحلة الثالثة، دراسة وتقييم الإطار الاستراتيجي المقترح من فرق عمل مسار 1.5 الدبلوماسي مرفقًا به مقترح مسار الدبلوماسية الثاني، من المخوَّلين في وزارة الخارجية في كلا البلدين والجهات ذات العلاقة. في هذا الوقت فقط يمكن الحديث عن لقاءات دبلوماسية تُعقَد بين ممثّلي الدولتين لنقل الحوار من المستوى الفني الأمني إلى المستوى الدبلوماسي. في هذا المسار الدبلوماسي يُتوافَق على خطة استراتيجية مشتركة لعملية التفاوض بين الطرفين، وقد تتضمن مكتسبات سريعة مهمتها زرع الثقة بين الطرفين. وحال تجاوزنا العقبات الكبرى، وكانت إرادة حقيقية، فإن الحوار يمكن أن يتحول إلى حوار استراتيجي بسقف تطلعات عالٍ.

المستوى الثاني (الدبلوماسي) من الضروري أن يكتمل بلقاء بين وزيرَي خارجية البلدين للتصديق على نتائج الحوار ومخرجاته والموافقة على استراتيجية التفاوض المشتركة بعد إجازتها من القيادات السياسية لكلا البلدين. سيبدأ بعد ذلك تنفيذ الحلول الاستراتيجية في كل مسار من مسارات التفاوض وفق أجندة سياسية معتمَدة من الطرفين، وينتج عنها تصريحات سياسية وحملات إعلامية لطمأنة الرأي العامّ والشركاء بالنتائج والتفاهمات.

قد تتوقف هذه المفاوضات واللقاءات في المستوى الثاني، وقد يكون النجاح في بناء الثقة وحجم الإنجازات مشجِّعًا على تبادل الزيارات واللقاءات على مستوى الزعامات السياسية. وإن كان هذا الأمر مستبعَدًا في المدى القريب فإنه ممكن في المدى المتوسط.

إن هذه الخريطة للحوار السعودي-الإيراني يمكن البناء عليها والتعديل على مراحلها وتطويرها كخريطة طريق بما يخدم مصالح الطرفين ويلائم ظروف ومستلزمات المرحلة للوصول إلى سلام إقليمي يستند إلى الاحترام المتبادَل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام المعاهدات والمواثيق الدولية ومبدأ حسن الجوار، للوصول إلى نتائج تخدم شعبَي البلدين وتطلعاتهما وبقية شعوب المنطقة.

أخيرًا، فإن منطقة الشرق الأوسط وصلت إلى مرحلة من التأزم ومن حدة الصراع ومن التكلفة العالية ومن تباطؤ الجهود التنموية، تجعلنا مضطرِّين وغير مخيَّرين في دعم كل الجهود للانتقال بالمنطقة من حالة الاحتراب المكلِّف والمُهدِر للطاقات، إلى حالة السلم والشراكة المربحة للجميع.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد 

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية