رسالة سليماني.. نهاية دبلوماسية الاعتدال

https://rasanah-iiis.org/?p=12597

بواسطةمهدي مهدوي آزاد

لم تكُن قليلةً تلك الرسائل التي كتبها قاسم سليماني خلال العشرين عامًا الأخيرة، فخلال الاحتجاجات الطلابية عام 1999 وجّه رسالةً إلى محمد خاتمي، رئيس الجمهورية آنذاك، محذِّرًا إياه بلهجة لا تخلو من التهديد من أن صبر الحرس الثوري قد نفد، وفي رسالة أخرى أطلق سليماني على المخرج حاتمي كيا لقب «جنرال الفنّ»، وطلب من الأخير بأسلوب المتحبِّب أن لا يخاف من الانتقادات واللوم، وفي وقت آخَر كتب رسالة إلى المرشد مبشرًا إياه وبلغة المنتصر أن «داعش وصل إلى نهايته»، والأهمّ من كل هذه الرسائل رسالته الأخيرة التي وجهها إلى حسن روحاني، إذ تُشير إلى تغييرات استراتيجية بدأت تتشكّل في سماء السياسة الإيرانيَّة.
إن مزيدًا من التأمل في التطورات الأخيرة في إيران يثبت أن رسالة قاسم سليماني إلى حسن روحاني أكبر بكثير من مجرَّد مصالحة دعائية، وإنما هي في الحقيقة مبايعة سياسية بين أكثر أركان الحرس الثوري نفوذًا والرئيس التنفيذي للسُّلْطة، كما التحق خلال الأيام الأخيرة بركب المدافعين عن روحاني كبار قادة الحرس الثوري، ابتداءً من القائد العامّ محمد علي جعفري، وقائد الحرس السابق يحيى رحيم صفوي، وانتهاءً بنائب قائد مقرّ ثار الله إسماعيل كوثري. وفي الحقيقة يجب القول إن أكثر القوى المقرَّبة من علي خامنئي تحولوا خلال أسبوع واحد من معارضين أشدّاء لروحاني إلى داعمين له!
ومن الواضح أن الحكومة انكمشت داخل قوقعتها للدفاع عن نفسها، أما عملية تغيير توجُّه الأصوليين التي بدأت مباشرة بعد خطاب روحاني في جمٍع من كبار مديري الدولة منذ مساء الأربعاء 27 يونيو الماضي، فهي عملية مدارة بشكلٍ جيد ونابعة عن قرارٍ استراتيجي اتخذته مستويات السُّلْطة العليا، وما كان بالإمكان إحداث مثل هذا التغيير الكبير والسريع في توجُّه الأصوليين مُطلَقًا دون تَدخُّل وضغط خامنئي شخصيًّا.
إن القوى الرسميَّة تَستغلّ في الحقيقة هذه الأيام أي فرصة من أجل تغيير توجّهها وإعلان دعمها للحكومة، إذ استغلّ بعضهم خطاب روحاني الباعث على «الوحدة»، فيما استفاد البعض لأجل ذلك من مواقف روحاني المناهضة لإسرائيل، أما أشباه قاسم سليماني فقد تذرّعوا بتهديدات روحاني بإغلاق مضيق هرمز.

إن الغاية النهائية من موجة التغيير هذه ليست محاربة إسرائيل ولا إغلاق مضيق هرمز ولا حتى مواجهة العقوبات الاقتصادية، فهذه الأمور مجرَّد ذرائع لتبرير مثل هذا التغيير المفاجئ، لأن الغاية النهائية تكمن في العبارة الأخيرة التي وردت بوضوح في رسالة سليماني إلى روحاني عندما قال: “نحن في خدمة أي سياسة تنطوي على مصلحة النِّظام.

إن فيلق القدس في إيران يفوق مجرَّد كونه مؤسَّسة عسكرية، فالجزء الأكبر من سياسة إيران الخارجية التدخليَّة التي تتمحور حول الشرق الأوسط، في قبضة هذه المؤسَّسة الآيديولوجية، في حين أنّ وزارة الخارجية لا تملك أدنى تأثير في نطاق الشرق الأوسط، وعقيدة الأمن القومي لوزارة الخارجية التي تقوم على التفاوض والمرونة، تتناقض تناقضًا بنيويًّا مع عقيدة الأمن القومي للحرس التي تنتهج أسلوب توازن القوى الصلب، وقد كان هذان التوجُّهان يتنافسان طوال أربعة عقود مضت، وهنا نجد أن أهمِّيَّة رسالة قاسم سليماني تتضاعف.

أمعنوا النظر بموقف حسن روحاني في سويسرا ليس في تصريحاته إشارة صريحة إلى إغلاق مضيق هرمز، والحرب مع أمريكا والعرب، أو أي مواجهة عسكرية، فموقفه كان في حدّ ذاته عبارة عن تهديد دبلوماسي غير مباشر وغير صريح، ومع ذلك فإن رسالة قاسم سليماني القصيرة، وما تلاها من تصريحات لقادة الحرس الثوري، حوّلت موقف روحاني إلى «تهديد عسكري مباشر وصريح» في طرفة عين، وفي الحقيقة تمكنت رسالة سليماني القصيرة بسهولة من فرض المعنى الذي يريده الحرس الثوري على الدبلوماسية البراغماتية. والآن إذا نظرتم إلى الإعلام الأجنبي، فستجدون أن التفسير الذي يُجمِع عليه أغلب الخبراء هو أن إيران تهدِّد أمريكا بإغلاق مضيق هرمز.

الحقيقة المرَّة أن حكومة حسن روحاني، بعد تراجعها المتكرر في المجالات السياسية والاجتماعية، أصبحت بصدد تسليم السياسة الخارجية لخطاب الحرس الثوري، ومجرَّد أنّ روحاني، صاحب تلك الشعارات المعروفة في مجال الدبلوماسية، سقط في حفرة التهديد، يثبت أن خطاب قاسم سليماني هو الغالب.
المشكلة الكبرى أن الدبلوماسية البراغماتية لا تقدِّم حلًّا محدَّدًا في ظروف الحرب سوى السلام والتفاوض، لذا سيكون بمقدور دبلوماسية الاعتدال المناورة عندما تبدي طهران وواشنطن رغبتهما في المصالحة، وفي غير هذه الحالة سيكون الملعب تحت تَصَرُّف مؤسَّسات من قبيل الحرس الثوري الذي لديه على الأقل مشروعات على الورق، ولديه الأدوات اللازمة لتنفيذها، وحسن روحاني يُدرِك هذه الحقيقة أكثر من أي شخص آخر.
بالنظر إلى ما سبق، فإن رسالة قاسم سليماني إلى حسن روحاني، لا تُعَدُّ أكثر من مجرَّد «مصالحة سياسية»، بل إنها أهم بكثير من «مبايعة سياسية»، فهي نموذج على عملية تخليق سياسي لا مفرّ منها، فخلالها يندمج عنصران مختلفان لينتجا مادة ثالثة، فروحاني -شاء أم أبى- عليه اللعب بالأوراق التي يرغب فيها الأصوليون المتشددون -الذين كان يلومهم ذات يوم- على صعيد السياسة الخارجية، وفي المقابل الحرس الثوري، أراد أم لم يُرِدْ، يجب أن يبايع مَن كان منافسه إلى وقت قريب.

إنه ومن خلال عملية التخليق تلك بين «روحاني-سليماني» تعود الجمهورية الإسلامية عمليًّا إلى سياستها المعروفة، وهي اللحظة التي تختفي فيها جميع المتناقضات العميقة والكبيرة بسبب المصلحة الكبرى، أي الحفاظ على النِّظام الذي هو «أوجــــب الواجــــبات»، وتتَّحد فيها جميع قوى الدولة، على الرّغم من جميع الخلافات، حول موضوعين أساسيين: قمع المستائين في الداخل ومواجهة الأعداء في الخارج.

مادة مترجمة عن موقع “بي بي سي فارسي”


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد

مهدي مهدوي آزاد
مهدي مهدوي آزاد
صحفي