ما بين الاحتجاجات والمؤامرة… إيران إلى أين؟

https://rasanah-iiis.org/?p=10341

بواسطةفراس إلياس

ما يحدث في إيران اليوم، هل هو مظاهرات اجتماعية واقتصادية يقودها الشعب الإيرانيّ، أم مؤامرة تُحاك ضدّ النِّظام السياسي هناك؟ وعلى الرغم من الأسئلة الكثيرة التي تُطرح هنا، فإن أبرزها: ما المدى المتوقع الذي يمكن أن تصل إليه المظاهرات الحالية التي تشهدها شوارع إيران؟ وهل ستكون النتيجة إسقاط النِّظام الثيوقراطي الديني الشمولي الذي يقوده المرشد، أم ستكون هناك إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية عاجلة، قد تلجأ إليها الحكومة الإيرانيَّة لاستيعاب الزخم الجماهيري الحاصل، أم سيكون الحلّ باستخدام السطوة الأمنية للحرس الثوري وقوات التعبئة العامَّة “الباسيج”، ليتطور الأمر بالاستعانة بميليشيات إيران في المنطقة، لضبط الوضع الأمني في إيران، خصوصًا إذا ما خرجت الأوضاع عن سيطرة الحكومة الإيرانيَّة وأجهزتها الأمنية؟ أسئلة كثيرة تفرض نفسها الآن، وتحتاج إلى إجابات واضحة، لتكتمل الصورة عند المتابع والمتلقي.
لا يختلف اثنان على أن إيران تواجه أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية حقيقية، عمَّقَت كثيرًا الفجوة الموجودة أصلًا بين النِّظام السياسي والشعب، التي كان من شأنها أن يعاني المواطن الإيرانيّ أزمات معيشية واقتصادية خانقة، أزمات اضطرّته إلى الخروج والتظاهر ضدّ النِّظام السياسي وسياساته الخارجية التي جعلت لحلفاء “محور المقاومة” الذي تقوده إيران، الأولوية على حساب رفاهية الشعب الإيرانيّ، ففي الوقت الذي يرفع فيه هذا النِّظام شعار الدفاع عن الفقراء والمستضعفين في الأرض، نجد أن المواطن الإيرانيّ يعيش أوضاعًا اجتماعية بائسة اضطرته إلى الأكل من حاويات القمامة، أو اللجوء إلى ظواهر اجتماعية أصبحت مألوفة في إيران، وذلك من خلال تعاطي الحبوب المخدِّرة، من أجل الهروب من هذا الواقع المأساوي الذي يعيشه المجتمع الإيرانيّ.
فعل داخلي أم خارجي؟
في الوقت الذي توالت فيه التصريحات الرسميَّة الإيرانيَّة بخصوص المظاهرات التي تشهدها المدن الإيرانيَّة، لا بد من التوقف عن التصريح الذي أدلى به النائب الأول لرئيس الجمهورية الإيرانيّ إسحاق جهانغيري، الذي أوضح أنه إلى جانب الأسباب الاقتصادية التي دفعت المتظاهرين إلى الاحتجاج على السياسات الحكومية، فإن أسبابًا داخلية وخارجية أخرى تقف وراءها، وهو ما ذهب إليه المرشد الإيرانيّ علي خامنئي وقيادات الحرس الثوري والتيَّار المحافظ أيضًا، إذ قالوا إن المظاهرات تأتي ضمن نفس السياق الذي يسعى فيه أعداء إيران للنيل من الجمهورية الإسلامية ووحدتها، إلا أنه يمكن القول إن تصريحات جهانغيري وعلي خامنئي وغيرهما، تعكس بوضوح القاعدة التي استقر عليها النِّظام السياسي في إيران في أثناء تعامله مع الأزمات الداخلية، لمجيئها ضمن إطار مؤامرة خارجية تستهدف الدولة الإيرانيَّة. لكن هذه ليست كل الحقيقة، فالواضح حتى الآن أن أكثر المتضررين من هذه المظاهرات هم التيَّار الإصلاحي، وعلى رأسهم الرئيس روحاني، فالمظاهرات الحالية انطلقت من مدينة مشهد، أحد معاقل التيَّار المحافظ، على الرغم من شمولها مدنًا كالأحواز وكرمانشاه وبلوشستان في ما بعد، التي تدفعها الاستحقاقات القوميَّة إلى ركوب موجة المظاهرات الحالية، إلى جانب تساويها في المظالم الاجتماعية التي يعاني منها الشعب، إلا أن اللافت هو أن كبار قيادات التيَّار المحافظ تدعم هذه المظاهرات، ودفعت كثيرًا من أنصارها ولو بصورة غير مباشرة إلى النزول إلى الشارع، لتحقيق ثلاث غايات، أولاهما ضبط إيقاع المظاهرات، ضمن المطالب الاقتصادية والاجتماعية، ونقد السياسات الحكومية، دون الوصول إلى مستوى المطالبة الحقيقية لإسقاط النِّظام السياسي، وعلى رأسه المرشد الإيرانيّ علي خامنئي، والثانية منح هذه المظاهرات مزيدًا من الزخم الجماهيري الضاغط على حكومة الرئيس روحاني، وثالثة هذه الغايات تهيئة الأرضية للانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة، أما السبب الرابع فهو خلق حالة من عدم التوافق السياسي داخل التيَّار الإصلاحي نفسه، خصوصًا بعد غياب عناصر الضبط السياسي داخل هذا التيَّار، إذ لم تظهر حتى الآن شخصيَّة سياسية وازنة داخل هذا التيَّار بعد وفاة الرئيس السابق رفسنجاني، إذ أخذ كثير من الخلافات السياسية يطفو على السطح داخل هذا التيَّار، ومن أبرزها الخلاف الحالي بين الرئيس روحاني والنائب عن التيَّار الإصلاحي محمود صادقي، الذي حمَّل الرئيس روحاني مسؤولية المظاهرات الأخيرة، بسبب فشله في تطبيق برنامجه الاقتصادي الذي أعلنه في أثناء الترشُّح للانتخابات الرئاسية الأخيرة، ويمكن القول إن كل الخيارات السياسية أصبحت مطروحة اليوم في إيران، بل إن المظاهرات الحالية قد تعبِّد الطريق لإبراهيم رئيسي، منافس روحاني في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، الذي حمَّل بدوره الرئيس روحاني أسباب المظاهرات الحالية، أو تهيئة الأرضية لعودة ثانية للرئيس السابق أحمدي نجاد، خصوصًا أنه يطرح نفسه دائمًا ضمن إطار اجتماعي مناصر لقضايا الفقراء، وهو الطرح الذي أوصله إلى سُدَّة الحكم في إيران سابقًا.
لا يتوقف استغلال المرشد والحكومة الإيرانيَّة، للتصريحات المتتابعة التي تصدر عن الرئيس ترامب، وتصريحات المتحدثة باسم الخارجية الأمريكيَّة هيذر نويرت، من أجل تسويق الأوضاع الحالية التي تشهدها الساحة الداخلية الإيرانيَّة، على أنها نتاج لمؤامرة دولية تُحاك ضدّ إيران، بل ذهب بعض المسؤولين الإيرانيّين إلى اتهام بعض الدول العربية، بالوقوف خلف هذه التظاهرات، إلا أن هذا لا ينفي أن المظاهرات الحالية هي نتاج طبيعي لأزمة النِّظام السياسي في إيران، الأزمة التي جعلت هذا النِّظام يقف عاجزًا عن تقديم أي حلول واقعية للمجتمع الإيرانيّ، انطلاقًا من فرضية ربط أمن وبقاء النِّظام السياسي في إيران، ببقاء حلفاء إيران في العراق واليمن والبحرين وسوريا أقوياء، وقد تصحّ هذه الرؤية السياسية الإيرانيَّة، لأن السطوة الأمنية والاقتصادية والاجتماعية لرموز النِّظام السياسي في إيران، أفقدت الشعب الإيرانيّ أي قدرة على المبادرة لتغيير الواقع المأزوم.
أين تقف مناطق النفوذ الإيرانيّ من هذه المظاهرات؟
إن الحديث عن مدى تأثير المظاهرات الحالية على السياسة الخارجية الإيرانيَّة في المنطقة، قد يكون مبكِّرًا بعض الشيء، إلا أنه بالمجمل إذا كانت لهذه المظاهرات تأثيرات فهي سلبية في مُجمَلها، لكون الموضوع لا يقتصر على انسحاب إيران من هناك، بل الأمر يتعلق بنفوذها هناك أيضًا، خصوصًا مع احتمالية أن تثور الطبقات الاجتماعية على حلفائها أيضًا، لأن إيران تدرك جيدًا أن نفوذها هناك مبنيّ على قوة عسكرية وسطوة أمنية، لا عن طريق دبلوماسية ناعمة راغبة في النموذج الإيرانيّ، وهو ما يضع النفوذ الإيرانيّ في مجمل المنطقة أمام مستقبل مجهول.

نظرة في إطار المتوقع
يمكن القول إنه مهما يكُن المدى الذي يمكن أن تصل إليه المظاهرات الحالية، فإن من غير المتوقع أن تشكل خطرًا على وجود النِّظام السياسي في الوقت الحاضر، انطلاقًا من كثير من الأسباب الموضوعية والجوهرية، من أبرزها أن النِّظام السياسي في إيران لم يستخدم بعد كل أورقه الرابحة، كما أنه يمتلك خبرة تاريخية في مجال التعامل مع الخصوم والأزمات، أضف إلى ذلك أنه إذا لم يكُن هناك دعم دولي مساند لهذه الاحتجاجات فإنها ستبقى ضمن الإطار المسيطر عليها، فضلًا عن أن التيَّار المحافظ إذا ما وجد أن هذه المظاهرات قد تعصف بكيان الدولة الإيرانيَّة بمجملها، فقد يجبر أنصاره على العودة إلى المنازل، والكَفّ عن هذه المغامرة السياسية التي قد تكلّفه كثيرًا، بل إن بروز المرشد علي خامنئي على المشهد السياسي خلال اليومين الماضيين، يشير إلى مدى استشعار الخطر الذي بدأ يعيه القائمون على هذا النِّظام.
إن الخطوات القادمة التي يمكن أن تفرض نفسها على المشهد السياسي الإيرانيّ، وذلك من أجل فرض واقع سياسي يحدّ من خطر هذه المظاهرات، ويوجهها ضمن الإطار الذي يخدم مصلحة المرشد الإيرانيّ والتيَّار المحافظ، قد تتراوح ضمن الأطر الآتية:
1. الشروع في إجراءات إصلاحية اقتصادية واجتماعية، تخفِّف حدة المظاهرات والاحتجاجات الشعبية.
2. تسيير مظاهرات شعبية مضادَّة للمظاهرات الحالية، تسعى لسحب زمام المبادرة من تحتها، وتوجيهها بالطريق الذي يخدم مصلحة هذا النِّظام، ضمن إطار المظاهرات والمظاهرات المضادة.
3. السطوة الأمنية لقوات الحرس الثوري وقوات الباسيج، القادرة على احتواء التظاهرات الحالية، خصوصًا في ضوء التعتيم الإعلامي الذي يحيط بالمظاهرات والاحتجاجات.
4. تحويل هذه المظاهرات إلى فوضى أمنية مدارة، من خلال إرباك الأوضاع الأمنية في معظم أنحاء البلاد.
5. تخفيف القوانين الاجتماعية التي تستهدف الحريات العامَّة للمواطنين، وإعطاؤهم مجالًا أوسع للتعبير عن حريتهم وممارساتهم الشخصيَّة، ولعلّ الخطاب الأخير للرئيس روحاني أعطى هذا الجانب حيزًا كبيرًا من الاهتمام.
6. في حالة تطوُّر الأوضاع الحالية إلى وضع غير مسيطَر عليه، فإن النِّظام السياسي قد يندفع باتجاه خيارات أكثر مغامرة، وقد نكون أمام حرب جديدة في الشرق الأوسط، قد تكون بين إسرائيل وحزب الله، كمحاولة إيرانيَّة لتصدير الأزمة الداخلية، وتحويلها إلى أزمة خارجية تستقطب الجميع.
في المجمل، ما تشهده إيران حاليًّا من مظاهرات واحتجاجات، عمَّق كثيرًا من أزمة المشروعية الدينية والتاريخية لـ”الجمهورية الإسلامية الإيرانيَّة”، فرفع شعارات سياسية تمجد بالشاه الإيرانيّ محمد بهلوي، أو المنددة بالمرشد والرئيس روحاني، أو المطالبة بتخلِّي إيران عن العراق وسوريا وغزة، كلها أمور تكشف مدى الفجوة الواسعة بين السياسة الإيرانيَّة والشعب الإيرانيّ، التي ستترك آثارها على مدى سنوات قادمة، فما حدث عام 2009، أو عام 2011، والمظاهرات الحالية، كلها ردّود فعل اجتماعية تندِّد بهذا النِّظام وسياساته، وقد تكون المشكلة الحقيقية أن النِّظام السياسي الإيرانيّ غير قادر على التجديد، بحكم طبيعته الدكتاتورية أو المذهبية الصرفة، فأي عملية تحديث قد يُدخِلها هذا النِّظام على أحد أركانه، تُفَسَّر على أنها محاولة لهدم السُّلْطة الدينية للمرشد ومؤسَّساته، فالعلاقة بين النِّظام السياسي الإيرانيّ وعمليات التحديث والتطوير السياسي والاقتصادي، هي علاقة صفرية بامتياز، فتوسيع المشاركة السياسية لكل فئات الشعب الإيرانيّ هي عملية تقويضية للوجه المذهبي والقومي للدولة الإيرانيَّة، وتحسين الفرص الاقتصادية يمِّثل ضربة قوية لمفهوم الاقتصاد المقاوم في إيران، وتخفيف الضوابط الاجتماعية المتعلقة بحقوق الإنسان وحرياته الشخصيَّة، هو تقويض للوجه الإسلامي للدولة وفسح للمجال أمام القوة الناعمة الغربية لتفعل فعلها داخل المجتمع الإيرانيّ. هكذا ينظر النِّظام السياسي في إيران إلى عملية التطوير والتحديث، ومِن ثَمَّ فكيف يمكن تغيير هذا الواقع دون تهيئة طبقة سياسية واقتصادية واجتماعية ضاغطة على هذا النِّظام، دون تَحرُّكات دولية وإقليمية أكثر تحديًا وجدِّية في التعامل مع الحالة الإيرانيَّة، فالنِّظام السياسي في إيران هو “نظام إخطبوطي”، منغمس في أبسط أبجديات الحياة الإيرانيَّة، كما أنه يتمتع بعلاقات عقَدِيَّة وآيديولوجية مع عديد من الحركات والجماعات والأحزاب في المنطقة، المستعدة لإحراق المنطقة وإشاعة الفوضى فيها بفتوى واحدة من المرشد الإيرانيّ، إضافةً إلى أنه يمتلك قنوات تأثير دولي حتى داخل الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة.

إن استثمار المظاهرات الحالية التي تجري في شوارع إيران، تتطلب تحرُّكًا واضحًا، من خلال تهيئة الواقع السياسي الإيرانيّ للوقوف بوجه النِّظام ومؤسَّساته، دون الاكتفاء بتصريحات الشجب والإدانة، فاستخدام القوة المفرطة لإنهاء هذه الاحتجاجات مبرَّر من وجهة نظر هذا النِّظام، باعتبارها جزءًا من مؤامرة دولية ضدّه، وبغض النظر عمَّا إذا كانت هذه المظاهرات من تدبير بعض أجنحة النِّظام السياسي في إيران، أو مؤامرة دولية، إلا أنها أصبحت الآن تمثِّل واقعًا ينبغي توظيفه بالشكل الذي يقوض أكثر من قوة هذا النِّظام ونفوذه، أملًا في أن يتحوَّل الشتاء الفارسيّ إلى ربيع يقطف ثماره الشعب الإيرانيّ، وكل الشعوب التي تعاني سياسات إيران وأدوارها السلبية في المنطقة والعالَم.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المركز

فراس إلياس
فراس إلياس
باحث في السياسات والاستراتيجيات الدولية