مكاسب وفرص تركيا من التقارب السعودي-الإيراني

https://rasanah-iiis.org/?p=31012

أعربت القيادة التركية عن ترحيبها بعودة العلاقات الدبلوماسية السعودية-الإيرانية برعاية الصين، مطلع مارس 2023م، وانفراج العلاقات بين البلدين، بعد قطيعة دامت لسبع سنوات بين القوَّتين الأبرز في المنطقة. أبرز ما يميِّز البيان التركي بعوده العلاقات، التي رحَّبت بها معظم دول العالم تقريبًا أو الدول الفاعلة في المسرح الدولي -على أقلّ تقدير- هو سرعة تعاطي تركيا وتفاعلها مع الاتفاق السعودي-الإيراني، وما يمكن أن يترتَّب عليه من تطوُّرات إقليمية، وعلى العديد من الملفات العالقة بالمنطقة، خصوصًا أنَّ الدولتين تُعتبران من أبرز القوى المنافسة لأنقرة على تبوُّء موقع القيادة الإقليمية.

يطرح الموقف التركي المرحِّب بالاتفاق السعودي-الإيراني تساؤلًا مضمونه: ماذا يمثِّل التقارب السعودي-الإيراني بالنسبة لتركيا؟ وكيف يُقرَأ من قِبَل صُنّاع القرار في تركيا، بناءً على مصالحهم في الشرق الأوسط ومستويات التنافس بين كبريات القوى الإقليمية وخارطة التحالفات والتوازنات الإقليمية مع طرفي الاتفاقية؟

تنطلق السياسة التركية المرحِّبة بالاتفاقية السعودية-الإيرانية من مجموعة من الاعتبارات، تقودها الرغبة الحقيقية للقيادة التركية بإصلاح علاقاتها مع دول الجوار ودول الإقليم، بعدما توتَّرت إبان ثورات ما يُسمَّى بـ«الربيع العربي»، وما تلاها من تفاقُم للأوضاع في المنطقة. بالفعل هو ما حدث، حينما تمّت إعادة ترميم العلاقات التركية مع الأطراف الفاعلة في المنطقة -السعودية والإمارات ومصر- ومحاولة اتّباع سياسة «تصفير المشاكل» في سياستها الخارجية. فطرفا النزاع لهم ثِقَل إقليمي بالنسبة لتركيا؛ لذلك تمضي في طريقها لإعادة الثقة وتطوير العلاقات مع السعودية، كما تجمعها مصالح مع إيران، لاسيّما في شقّها الاقتصادي. وبالتالي، فإنَّ تركيا ترى مصالحها بالإبقاء على علاقات متوازنة مع البلدين، وتخفيف أيّ تصعيد من الممكن أن يحدث في المنطقة، خصوصًا في ظل الظروف الصعبة، التي تمُر بها تركيا، بعد تعرُّضها إلى سلسلة زلازل مطلع فبراير 2023م، ألحقت أضرارًا كبيرة بالاقتصاد التركي، وفرضت عليها تسخير مواردها المالية لإعادة الإعمار في المناطق المنكوبة. وبالتالي، مثَّلت هذه الكارثة الطبيعية أولويةً مُلِحَّةً لتركيا لترسيخ حالة الاستقرار في المنطقة، لاسيّما بين الطرفين السعودي والإيراني، بالإضافة إلى رغبةٍ تركية في مقاربات مختلفة تجاه سوريا، استغلالًا للظروف الدولية.

تتشارك تركيا مع دول المنطقة، بما في ذلك المملكة، في مجموعة من الأفكار، منها: ضرورة خلو المنطقة من التوتُّرات والحروب، والقناعة بأنَّ السلام هو السبيل الوحيد لازدهار المنطقة، وأنَّ الدول الغربية لعِبت دورًا بارزًا في خلق الأزمات وتغذية الخلافات؛ لحصد مكاسب سياسية واقتصادية على حساب أمن وازدهار بقية دول المنطقة. وبما أنَّ المصالحة السعودية-الإيرانية تطرح تصوُّرًا جديدًا لأمن المنطقة، فإنَّها تلقى تأييدًا من تركيا؛ لأن هذا الاتفاق سيعزِّز من الاصطفاف البنّاء على الصعيد الإقليمي. فالمملكة العربية السعودية لديها مشروع تنموي طموح -رؤية 2030- لا يستهدف الداخل السعودي فقط، بل يمتدّ ويستوعب المنطقة بأكملها؛ لكي تصبح منطقة مزدهرة خالية من الصراعات والتوتُّرات وبؤر الإرهاب. كما أنَّ إيران تمُر بظروف خانقة، من خلال الحصار الدولي المفروض عليها، إلى جانب الاحتجاجات المتكرِّرة، وتردِّي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لمواطنيها، وفي حاجة إلى الاستثمارات التركية، التي قد تلعب دورًا مؤثِّرًا في تخفيض الضغط الاقتصادي الذي تمُر به.

يمُر الاقتصاد التركي بمرحلة حرجة، بعد الأزمات المتوالية منذ جائحة كوفيد-19 مطلع عام 2020م، وما تلا تلك المرحلة من انهيار العملة التركية إلى مستويات غير مسبوقة، بجانب المشاكل الاقتصادية الأخرى، التي تتشارك معها بقية دول المنطقة، مثل زيادة التضخم. ونتيجةً لذلك، كانت السياسة التركية مدفوعة بحماية مصالحها الاقتصادية، التي تجمعها بالسعودية؛ لأنَّ الدعم السعودي عن طريق الاستثمارات الاقتصادية في تركيا، هو عنصر لا يمكن الاستغناء عنه، خصوصًا في الأوقات العصيبة والأزمة الاقتصادية، التي تمُر بها تركيا في الوقت الراهن. ففي مارس 2023م، أودع الصندوق السعودي للتنمية خمسة مليارات دولار في البنك المركزي التركي كدعم للاقتصاد التركي، وهو ما ثمّنته الحكومة التركية. في الجانب المقابل، تمثِّل الأسواق الإيرانية عنصرًا مهمًّا لتصريف المنتجات والبضائع التركية، إلّا أنَّ تركيا كانت أحد أهمّ مقرّات رؤوس الأموال الإيرانية، التي تمّ تهديدها وملاحقتها من قِبَل العقوبات الغربية على النظام الإيراني.

من المُحتمَل أن تجني تركيا العديد من المكاسب من وراء هذا الاتفاق السعودي-الإيراني؛ لأنَّ مصالحها لن تتضرَّر بعد اليوم بسبب الخلافات السعودية-الإيرانية، بالإضافة إلى ذلك تتطلَّع تركيا إلى أن يسهم الاتفاق في حلحلة الأزمة السورية، وتمهيد الطريق إلى دفع العملية السياسية، حيث تتمكَّن تركيا من إعادة اللاجئين، الذين باتوا يشكِّلون حملًا ثقيلًا على اقتصادها. كما أنَّ الاستقرار سيُعيد فتح أسواق هذين البلدين أمام المنتجات والاستثمارات التركية، التي من شأنها المساهمة في إعادة الاستقرار لليرة التركية، ناهيك عن أنَّ الاتفاق يُنهي الاستقطاب وحرب الوكالة المنتشرة بالمنطقة، ويمهِّد الطريق لإضعاف تأثير القوى الدولية؛ وبالتالي يفسح المجال أمام تركيا للعب دور أكبر في المنطقة إلى جانب منافسيها.

وفي الختام، وعلى الرغم من أنَّ تركيا تَعتبر من إيران والسعودية دولًا منافسةً لها بالمنطقة، إلّا أنَّ ترحيبها بالاتفاق السعودي-الإيراني يكشف إدراكها العميق للانعكاسات السالبة للتوتُّرات الإقليمية ودور السِلْم الإقليمي في استقرار الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية، وكذلك إدراكًا منها بأنَّ أيّ تقدُّم إيجابي في أيّ ملف إقليمي يمثِّل عنصر قوة واستقرار بالنسبة لها.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد 

محمد عبدالله بني هميم
محمد عبدالله بني هميم
باحث في الشؤون السياسية