تسمُّم الطالبات.. الروايات والتداعيات المحتمَلة على النظام الإيراني

https://rasanah-iiis.org/?p=30654

بفعل سياسات النظام الإيراني وعدم تركيزه على معالجة الأزمات ووضع السياسات اللازمة لتحقيق التنمية ومواجهة التحديات في البلاد، وتحسين الظروف المعيشية للعباد، مقابل قيامه بمغامرات خارجية توسعية عبثية، ومعاداته لعديد من الدول إقليميًّا ودوليًّا، تحوّلت إيران إلى دولة مُثقَلة بالتحديات ومكبَّلة بالأزمات المستمرة، آخره أزمة تسمُّم الطالبات المثيرة للجدل في كل أنحاء إيران، والتي لا يزال سببها المؤكد يكتنفه الغموض، وما زالت الأزمة متدحرجة ومستمرة (حتى تاريخ نشر التقرير)، ما يستدعي ضرورة تحليل سمات ومسارات وتطورات الأزمة، وأبرز الروايات حول الأطراف المحتمل تورطها فيها، ثم أبعادها ومآلاتها ونتائجها، وتداعياتها على النظام الإيراني بشكل عامّ.

أولًا: سمات الأزمة وتطوراتها

بدأت الأزمة قُبيل نحو 3 أشهُر تقريبًا، بالإبلاغ عن أول حالة تسمُّم في مدرسة بمدينة قم، ذات الرمزية الدينية والتي يقطنها كثير من رموز النظام المتشددين، ليعلن بعدها عن 18 حالة نُقلوا إلى المستشفى، وذلك في 30 نوفمبر 2022م، ومنذ ذلك التاريخ تصاعدت عمليات التسمُّم لتشمل مئات المدارس. وفي ما يلي أبرز سماتها وخصائصها وتوقيتها:

1. الإصابات في صفوف الطالبات: أول ملمح من ملامح الأزمة أن غالبية حالات التسمم وقعت في صفوف الطالبات، وتجدر الإشارة إلى أن الآونة الأخيرة شهدت تصديًا وتصدرًا نسائيًّا كبيرًا لسياسات النظام القمعية منذ مقتل مهسا أميني، ولعبت الطالبات والحركة النسوية دورًا بارزًا في الحراك الاحتجاجي الحاشد الذي هز أركان النظام الذي يمرّ بظروف داخلية ودولية ضاغطة، بل قفزت الطالبات على الخطوط الحمراء للنظام، وكسرت المحرمات ضمن احتجاجات حاشدة شملت كل شرائح وفئات وأطياف المجتمع الإيراني ومكوناته، وأحدثت تصدعًا في بنية النظام، والدائرة المتشددة المحيطة بالمرشد عندما أحرق المحتجون، وبينهم طالبات، منزل الخميني ومجسمات للجنرال لقاسم سليماني الذي كان يحظى بشعبية كبيرة ولقي حتفه في غارة جوية أمريكية قرب مطار بغداد مطلع 2020م، وكانوا يعتبرونه بطلًا قوميًّا، ما أثار غضبة رجالات الدين المتشددين في إيران.

2. اتساع نطاق دائرة المصابين: خلال الأيام الأخيرة، اتسع نطاق دائرة المصابين بالتسمم في صفوف طالبات المدارس الإعدادية والثانوية، وقد طالت حالات التسمم منذ بداية الأزمة في نهاية نوفمبر 2022م، حتى تاريخ نشر التقرير، نحو 230 مدرسة بنات في 25 محافظة بالبلاد، وحسب الإحصاءات الرسمية فقد بلغ عدد الإصابات بين الطالبات في المدارس قرابة 900 طالبة، فيما أعلن عضو لجنة تقصي الحقائق في إيران، التي تحقق في وقوع حالات تسمم طلاب في جميع إيران، أن اللجنة تنظر في نحو 5 آلاف حالة تسمم، معظمهن لطالبات صغيرات السن.

خلال اليومين الأخيرين، تدحرجت الإصابات لتأخذ مستوى جديدًا بانتقالها إلى صفوف طالبات الجامعات، بينها طالبات بجامعة أردبيلي، وطالبات بمدينة أرومية (29 طالبة)، وطالبات جامعة آزاد الإسلامية في بروجرد (13 طالبة)، وطالبات بالجامعة الفنية والتقنية في كرج (21 طالبة)، وطالبات جامعيات في طهران (21 طالبة)، وتجدر الإشارة إلى أن المدارس والجامعات كانت من أبرز مراكز الاحتجاج الحاشد ضد النظام خلال الاحتجاجات الأخيرة، ولعبت دورًا بارزًا في اتساع نطاق الحراك ضد النظام.

3. أعراض الإصابات ومدة الإصابة: شعرت غالبية الحالات من الفتيات، التي نُقل كثير منها إلى المستشفى، بالغثيان والدوار وأحيانًا بالإغماء والصداع مع تسارع نبضات القلب وحدوث ضيق في التنفس وشحوب في الوجه، وقد شكا كثير من حالات الإصابات من استنشاقهن رائحة كريهة، وبعضهم ربط في أحاديث لهن عبر مقاطع فيديو بين رائحة الغاز الذي يؤدي إلى التسمم وتلك الغازات التي استُخدمت على نطاق واسع خلال الاحتجاجات التي أعقبت مقتل مهسا أميني، وكانت تتسبب في حالات مماثلة، ولذلك يتعافى المصابون بشكل سريع في غضون 24 ساعة في كثير من الحالات، وهناك من يرددون بأنها ناجمة عن غاز النيتروجين، وما زال السبب المؤكد غير واضح لهذه الحالات حتى وقت نشر التقرير.

4. مدة حالات التسمم كانت كافية للتوضيح: المدة منذ بدء حالات التسمم، أي قبل 3 أشهُر ماضية، حتى وقتنا الراهن كانت كافية ليعلن النظام الحاكم خلالها عن السبب المؤكد لحالات الإصابات وديمومتها وكيفية انتقالها من صفوف الطالبات في مرحلة التعليم ما قبل الجامعي إلى مرحلة التعليم الجامعي، بل كان من المفترض أن يكون الوقت الراهن هو مرحلة مواجهتها ووقف تدحرجها، وهذا ما قاد عديدًا من المراقبين إلى إلقاء اللوم على النظام، وفتح الباب على مصراعيه أمام مزيد من التساؤلات حول بطء النظام في مواجهته ووقفه تمدد حالات الإصابات، وعدم توصله إلى الفاعل الحقيقي والسبب المؤكد، ولمصلحة مَن يتقاعس النظام الإيراني في سبيل معالجة الأزمة، إلى حدّ توجيه الاتهامات إليه ذاته، وهل أن ما يحدث يأتي بمباركة من المرشد لمعاقبة وترهيب تلميذات المدارس اللائي شاركن بكثافة في الاحتجاجات الأخيرة، خصوصًا أن المرشد علي خامنئي سبق أن تحدّث في كلمة له في أثناء احتجاجات مقتل مهسا، تحديدًا في أكتوبر 2022م، أنه يمكن من خلال عقوبة خفيفة للمراهقين جعلهم يدركون أنهم أخطؤوا.

هذا، وتتزامن الأزمة مع مرور النظام الإيراني بأزمة مفصلية وفارقة في تاريخه على خلفية تقلُّص الفترة الزمنية بين جولات الاحتجاجات الشعبية الحاشدة التي أسهمت في إنهاك النظام وخلق مزيد من التحديات الداخلية الأمنية والاقتصادية والمعيشية، إلى درجة تحوُّل إيران إلى الدوران في دائرة أزمات مستمرة ومتطورة أصبح النظام عاجزًا عن الخروج منها بفعل سياساته الداخلية والخارجية، بالإضافة إلى تعقُّد الأزمات الخارجية من حيث تعثر المفاوضات النووية في فيينا، التي كان يأمل النظام في أن تسفر عن رفع العقوبات على نحو يسهم في تحسين أحوال المواطنين المعيشية وإنعاش الحياة الاقتصادية بما يحدّ من وطأة ووتيرة اندلاع الاحتجاجات الشعبية والفئوية في إيران.

ثانيا: الأطراف المتورطة والاتهامات المتبادلة

في ظل حالة الغموض التي تكتنف ظاهرة تسمُّم تلميذات بالمدارس الإيرانية، والسجال الدائر حول هذه القضية، فضلًا عن الاتهامات المتبادلة بين مختلف الأطراف الإيرانية، تظهر مجموعة من الروايات حول ظاهرة التسمُّم بالمدارس الإيرانية:

1. توجيه أصابع الاتهام إلى النظام الإيراني:

تُوجِّه أوساط إيرانية في الداخل والمعارضة في الخارج أصابع الاتهام إلى النظام الإيراني بالتورط في عمليات تسميم الطالبات، ويصف بعض هذه الأوساط أنّ ما تتعرض له التلميذات مخطط له بعناية من قِبل الأجهزة الأمنية والاستخبارية الإيرانية، في خطوة انتقامية من الفتيات والنساء لترويعهن وترهيبهن حتى لا يشاركن في مظاهرات قادمة، خصوصًا بعد الدور البارز الذي لعبته المرأة الإيرانية عامة، وطالبات المدارس بشكل خاص، في الاحتجاجات التي اندلعت في سبتمبر 2022م بعد وفاة الشابة مهسا أميني. وفي هذا الصدد قال إمام أهل السنّة في زاهدان، مولوي عبد الحميد، ردًّا على مسلسل تسميم الطلاب إنّ مرتكبي «جريمة التسمم» على الأرجح هم «من داخل النظام»، مشيرًا إلى أن «هذه التسممات تهدف إلى قمع الاحتجاجات الأخيرة».

في بداية الأزمة أدلى المسؤولون الإيرانيون بتصريحات متناقضة حول مسبباتها، بعضهم نفى وقوعها، ومسؤولون يقولون إنها مشروع تقوده المعارضة الإيرانية بالخارج لتلطيخ سمعة النظام، وآخرون اتهموا إسرائيل، ومجموعة رابعة تقول إنّ أطرافًا داخلية تعارض تعليم البنات هي التي تقف وراء عمليات التسميم. حتى بعد إدراك النظام لحجم الأزمة وانتشارها، تباطأت السلطات في تحديد الجهة المسؤولة عنها، ولم تعلن حتى الآن عن نتيجة التحقيقات التي قالت إنها تُجريها في هذا الشأن، هذه الأسباب مجتمعة دعت الجهات الإيرانية المناهضة لسياسات النظام إلى ترجيح فرضية تورطه في هذه الأزمة. كما أن تصريحات المرشد علي خامنئي حول عمليات تسمم الطالبات شكّلت منطلقًا آخر لاتهام النظام بالوقوف وراء حملات التسمم، أولًا: لأن حديثه عن هذه القضية الحساسة جاء متأخرًا، أي بعد أكثر من ثلاثة أشهُر من انطلاقها. ثانيًا: لأنه بدا غير مكترث لهذه القضية، إذ لم يُفِرد مساحة زمنية خاصة للحديث عن هذه القضية التي تثير الذعر والقلق داخل المجتمع الإيراني، بل تطرَّق إليها ضمن مناسبة «يوم الشجرة»، وبعدما تحدّث بإسهاب عن الأشجار وأهميتها في الحفاظ على البيئة. ثالثًا: ظهر خامنئي كأنه لا يزال يشكك في صحة ما يحدث عندما قال: «إذا ثبتت الجريمة فيجب معاقبة مرتكبيها بأقسى العقوبات».

2. النظام يتهم أعداءه بالوقوف وراء الأزمة:

رغم أن لجان التحقيق في عمليات التسمم وكشف الجهات المتورطة فيها قد جرى تشكيلها مؤخرًا ولم تتوصل حتى الآن إلى خيوط حول القضية، فإنّ عددًا من المسؤولين الإيرانيين استبقوا هذه التحقيقات ولجؤوا إلى نظرية المؤامرة، فمنهم من اتهم جماعات المعارضة التي تهدف إلى تغيير النظام بأنها التي تقف وراء حملات التسمم بالمدارس بهدف جرّ الشارع الإيراني إلى إشعال موجات جديدة من الاحتجاجات ضد النظام، أما الرئيس الإيراني فقد وصف هجمات التسمم بأنها «مؤامرة لإحداث فوضى في البلاد، مع سعي الأعداء لبثّ الخوف وانعدام الأمن بين أولياء الأمور والتلميذات». ويبدو أن هذا التخبط والتناقض متعمَّد من قِبل النظام في محاولة للظهور كأنه لا يعرف تحديدًا الجهة المتورطة في تسميم الطالبات، وبالتالي إلصاق التهمة بجهات خارجية أو داخلية واتهامها بأنها تعمل على تقويض الأمن والاستقرار في إيران.

3- تورط جماعة دينية متطرفة معارضة لتعليم البنات:

أوساط إيرانية، خصوصًا في الداخل الإيراني، تتحدث عن رواية ثالثة، هي أن جماعات دينية متشددة تعارض تعليم البنات -على غرار ما تفعله حركة طالبان في أفغانستان- تقف وراء عمليات التسمم الواسعة التي تعرضت لها المدارس في مختلف المدن الإيرانية، خصوصًا أن عمليات التسمم بدأت من مدينة قم الدينية واستهدفت مدارس البنات، ثم انتشرت رقعتها الجغرافية لتشمل نحو 230 مدرسة حتى الآن.

وفي هذا الصدد قال الأستاذ في الحوزة الإيرانية فاضل ميبدي: «يقال إنّ جماعة دينية تسمى (هزاره كرا) هي المسؤولة عن حالات التسمم، وإنّ هذه المجموعة ترى أن الفتيات يجب ألا يدرسن أكثر من الصف الثالث الابتدائي». ويزعم عدد من الأكاديميين في إيران أن العقل المدبر لهذه الهجمات هي «طالبان». هذه الرواية قد يمكن تصديقها إذا توقفت عمليات التسميم عند مدينة قم، لكن انتشارها في نحو 25 محافظة قد يثير الشكوك حول صحتها، خصوصًا أن الأجهزة الأمنية والاستخبارية انتشرت خلال الفترة الأخيرة في مختلف المدن الإيرانية، كما أن عمليات التسمم تجري بصورة ممنهجة، وقد تتطلب تقنيات خاصة يصعب على جماعة معينة امتلاكها. وإذا ثبت بالفعل تورط أي جماعة متطرفة في عمليات التسمم، فلا يُستبعد أن تكون مجموعة من داخل النظام، وربما مدعومة منه، وفي هذه الحالة قد يحاول النظام إيجاد مخرج عبر توجيه أصابع الاتهام إلى هذه الجماعات وقد تجري محاكمات صورية لتخفيف حالة الاحتقان بالشارع الإيراني.

ثالثًا: التداعيات والتأثيرات

بمرور الوقت واتساع نطاق حوادث تسمم الطالبات تتزايد الشكوك في الجهة المتورطة في الحوادث، ولو افترضنا جدلًا أن النظام له يد في هذه الهجمات كما يرى بعض الروايات، وهي روايات تدعمها مخاوف النظام من التحدي الذي أظهرته الفتيات للنظام ورموزه خلال الحراك الاحتجاجي الذي أعقب مقتل مهسا أميني، فإنّ النظام يكون قد وصل إلى مرحلة حرجة ولم يعُد يمتلك القدرة على تحمُّل مزيد من الضغوط واتساع نطاق الغضب الشعبي. وبالتالي فإنه يستشعر قلقًا عميقًا ويريد أن يوصل رسالة تهديد قوية بغرض قمع مشاركة الفتيات في أي احتجاجات محتملة في المستقبل، وإظهار قسوة أمام تحدي قيم الجمهورية «الإسلامية»، ولدى النظام المسوغات الشرعية والفتاوى التي تمنحه حق استعمال القوة إلى أقصى حدودها من أجل تأمين بقاء ولاية الفقيه والمبادئ التي يرعاها.

أما إذا ذهبنا إلى الافتراض بأن المسؤولية تقع على جهات خارجية أو داخلية معارضة تريد هز شرعية النظام وإسقاطه كما يذهب النظام، فإنّ ذلك لا يمنع من أن هذه الحوادث قد نالت من صورة النظام إلى حد كبير، وأظهرت إلى أي مدى تعاني إيران من أزمة عميقة في ظل ولاية الفقيه، لأن النظام الإيراني لديه مسؤولية أساسية ومباشرة في توفير الحماية لمواطنيه، والدفاع عنهم، وإلا فإنه يكون قد فقدَ أهليته وشرعيته.

بصرف النظر عن مصداقية أي من الافتراضات المشار إليها أعلاه، فإنه يمكن الإشارة إلى الملاحظات الآتية:

1. أن هذه الحوادث قد نالت من صورة النظام إلى حد كبير، وأظهرت إلى أي مدى تعاني إيران من أزمة عميقة، لأن النظام الإيراني لديه مسؤولية أساسية ومباشرة في توفير الحماية لمواطنيه، والدفاع عنهم، وعدم القيام بهذه المهامّ أو التورط في أعمال من شأنها تعريض قطاع وفئات واسعة من المجتمع لمثل هذه الاعتداءات التي تضيف مزيدًا من الشكوك حول شرعية هذا النظام وكفاءته. وقد لا تكون نظرية المؤامرة واتهام أطراف داخلية وخارجية بالمسؤولية والرغبة في إحداث فوضى داخلية مقنعة للرأي العام.

2. أن حوادث تسمُّم الطالبات قد خرجت عن نطاق سيطرة النظام، والشاهد على ذلك الغموض المحيط بالأزمة، واتساع نطاق الاستهدافات، وذلك على الرغم من الإعلان عن تشديد العقوبة بحق أي طرف متورط في هذه الحوادث حتى تصل إلى الإعدام، على الرغم من محاولة التعتيم وتخويف أي طرف يتهم النظام بالمسؤولية المباشرة أو الضمنية عن الحوادث.

3. أن هذه الحوادث قد كشفت عن ضعف الأجهزة الأمنية، وعدم كفاءتها في التعامل مع هذا النوع من التحديات، وهو أمر يشكك في إمكانية تصدّيها لتهديدات أخرى أوسع نطاقًا وأكثر تأثيرًا. فالنظام لم يعُد قادرًا على تحديد المسؤول عن هذه الحوادث، فعلى مدى ما يزيد على ثلاثة أشهُر مع وقوع أول حادثة في نوفمبر 2022م في قم، لم يعلن النظام الجهة المسؤولة ولم يقدم أي متورطين في الداخل أو الخارج، إذ من غير المقبول شعبيًّا أن يظل النظام عاجزًا عن تقديم تفسير منطقي أو علمي لما يحدث، فيما أصبح العالم من خلال الثورة الرقمية يمتلك مستويات فائقة من الرقابة، لا سيما في المنشآت العامة. فالحادثة على أي حال تمثل حرجًا كبيرًا لأركان النظام أمام الرأيالعام، خصوصًا إذا ما أُخِذت بالاعتبار الاختراقات الأمنية واسعة النطاق التي استهدفت البنى التحتية والمنشآت العسكرية والنووية واغتيال الشخصيات المؤثرة والهجمات السيبرانية والتعامل المحبط مع جائحة كورونا. وجميعها حوادث لا تتناسب مع ادعاءات النظام بالقدرة على المواجهة والتحدي، وهي مؤشرات تُظهِر مدى التحلل الذي يتعرض له النظام الإيراني بعد أربعة عقود من غياب القدرة على التكيف والتطور.

4. أن هذه الحوادث قد تسهم في تزايد الضغوط الداخلية والخارجية على النظام، إذ بينما لا تزال الاحتجاجات الشعبية وثيقة الصلة بمدى تدهور وتهديد حياه المواطنين وأمنهم في أي بلد، فإنّ هذه الحوادث قد تدفع الشارع الإيراني إلى الانتفاض في وجه النظام، خصوصًا خلال عطلة النيروز التي تبدأ في الحادي والعشرين من الشهر الجاري، والتي قد تشكل فرصة مواتية للشارع الملتهب لإعادة ترتيب صفوفه ومواصلة الاحتجاجات المنددة بعمليات التسمم الممنهجة التي تستهدف طالبات المدارس، فضلًا عن إثارة موجة من الانتقادات والضغوط الخارجية، لا سيما من المنظمات المعنية بحقوق الإنسان ومن المنظمات الدولية. والمجتمع الدولي لديه عديد من الأسباب، على سبيل المثال التورط في الحرب الروسية على أوكرانيا، والاقتراب من العتبة النووية، والتلاعب بورقة السجناء الأجانب، لتوجيه مزيد من الضغط على إيران وتوظيف مثل هذه الحوادث للتأثير في شرعيته داخليًّا وخارجيًّا، أو تراجعه عن سياساته وتقديم تنازلات مهمة على طاولة المفاوضات.

خلاصة

بصرف النظر عن الجهة المسؤولة عن تسمم الطالبات، فإنّ هذه الحوادث تضاف إلى حوادث أخرى تشير إلى حالة من الضعف والشيخوخة يتسم بها النظام الإيراني خلال هذه المرحلة، وتشير كذلك إلى مدى الضعف وانعدام الكفاءة لدى أجهزته الأمنية، فضلًا عن عدم توفر البني التحتية للحماية في المنشآت العامة كالمدارس والجامعات. وبينما تنشغل الأجهزة بالقمع ومحاولة تثبيت أركان النظام من جهة، وتعزيز مصالحها الاقتصادية من جهة أخرى على حساب مصالح الشعب وعلى حساب أمنه وسلامته، فمن الصعب أن يستمر النظام في الصمود على المدى الطويل، لا سيما في ظل تغوُّل الحرس الثوري والأجهزة والنخبة المحيطة بالمرشد الذين انشغلوا بمشاريع الخارج وبمصالح فئوية وتركوا البلاد في مهبّ أزمات وعواصف قد تطيح بالنظام في أي وقت.

مع ذلك فإنّ النظام لا يزال لديه ورقة أخيرة يمكن أن يمتصّ من خلالها موجة التصعيد الراهنة التي يواجهها داخليًّا وخارجيًّا، وهي تهدئة التوترات مع الولايات المتحدة والغرب والقوى الإقليمية، بحيث يعود إلى طاولة المفاوضات، ويقبل بتسوية تفكك الخلافات وتحل القضايا المعقدة، بما فيها برنامجه النووي، ويتخلى عن سلوكه العدواني في المنطقة والعالم، الأمر الذي قد يساعده على تجاوز أزماته وإخفاقاته، لا سيما أن أيًّا من الأطراف الخارجية ليس لديه رغبة في دعم عملية تغيير جذري يطيح بالنظام، وليس لديه رغبة مؤكدة في استخدام القوة العسكرية إلا عند الضرورة القصوى، ناهيك بأن المعارضة الداخلية غير منظمة، وعلى مدى عقود أفرغ النظام المجتمع من أي قوة قادرة على تقديم البديل، والمعارضة في الخارج لا تزال ورقة توظفها القوى الدولية لتمرير مصالحها مع النظام الإيراني، ولطالما تخلى الخارج عن تطلعات الشعب الإيراني عندما رضخ النظام لمطالبهم.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير