دخلت لبنان في 09 يناير 2025م، مُنعطفًا تاريخيًا بانتخاب البرلمان اللبناني قائد القوات المسلحة اللبنانية جوزيف عون، الذي عُرف بانتقاده لـ «حزب الله» رئيسًا للجمهورية اللبنانية، وبانتخابه تعززت احتمالية التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار بين إسرائيل ولبنان، لاسيما أنه صرح في خطاب النصر الذي ألقاه، أن حمل السلاح سوف يقتصر على الدولة اللبنانية وهو التصريح الذي فُسِّر على نطاق واسع بأنه التزام بنزع سلاح «حزب الله»، الذي كان دائمًا يُنظر إليه بأنه أقوى من الجيش الوطني.
يملك عون القُدرة لجذب المزيد من أفراد القوات المسلحة اللبنانية وتمويل إعادة الإعمار من دول إقليمية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، وقد أعرب عن التزامه بنزع سلاح حزب الله في جنوب لبنان، كما يقتضي اتفاق وقف إطلاق النار، وأشار إلى دعمه تفكيك قوات «ميليشيا حزب الله» في جميع أنحاء البلاد، لكن من المُرجح أن يتعامل عون بحذر مع ملف «حزب الله» للحيلولة دون نشوب صراع أهلي. ومن جانبهم، لم يُبدِ قادةُ الحزب أيَّ استعدادٍ لنزع السلاح أو التخلي عن دوره المعلن كحركة «مقاومة شرعية» ضد إسرائيل.
ويرى كثيرون في تعيين نواف سلام رئيسًا جديدًا لوزراء لبنان في 13 يناير2025م، خطوًة إيجابيًة نحو الحِفاظ على استقرار البلاد، بل وحتى يرون فيه أملًا للتغير. وينحدر سلام من عائلة بيروتيةٍ عرقيةٍ ذات باع طويل في الساحة السياسية، مما مكنه من الحصول على دعم العديد من الفصائل المعروفة في لبنان، على رأسهم الزعيم الدرزي وليد جنبلاط والأحزاب المسيحية الثلاثة الكُبرى. كما ظفر بدعم ما يقرب من اثني عشر نائبًا من نواب «التغيير» الذين حصلوا على مقاعد في عام 2022م، من خلال حملتهم الساعية للخروج عن الاصطفافات السياسية المعهودة في لبنان.
لكن لا «حزب الله» ولا حليفه حركة «أمل»، وهما الحزبان الرئيسيان اللذان يمثلان الشيعة في البرلمان، أيدَّ سلام، وامتنعا عن تقديم مُرشح بديل، في حين رَشحَ تسعة نواب فقط رئيس الوزراء المنتهية ولايته نجيب ميقاتي، الذي كان يُعدُ في السابق مُرشحًا قويًا، واختار عدد قليل من النواب عدم ترشيح أي مرشح.
ومن المُرجح أن يكون لهذه التطورات الداخلية تداعيات إقليمية؛ فقد كان المشهد السياسي في لبنان لفترة طويلة بمثابة نموذج مصغر للتنافسات الإقليمية والدولية، لذلك فإن تعيين رئيس جديد في لبنان نقطة تحول مهمة، لا تؤثر فقط على ديناميكيات البلاد الداخلية، بل تؤثر أيضًا على المشهد الجيوسياسي الأوسع للمنطقة، بما في ذلك حزب الله، والنفوذ الإيراني، والساحة السورية المضطربة.
ويعكس منصب الرئاسة في لبنان، المحصور حسب نظام المُحاصصة الطائفية في المرشح الماروني المسيحي، صورًة جليًة عن التسوية الطائفية في لبنان، فقد كان انتخاب الرئيس الجديد ثمرة مفاوضات مكثفة بين الفصائل المحلية واللاعبين الإقليميين، مثل المملكة العربية السعودية وإيران وأصحاب المصلحة الدوليين بما في ذلك الولايات المتحدة وفرنسا. وسوف تؤثر هوية الرئيس الجديد بقوةٍ على التوجه السياسي في لبنان، وعون مقرب للغرب ودول الخليج، لذا من المتوقع أن يُواجه هيمنة «حزب الله»، وإن كان ذلك على حساب تفاقم الانقسامات الداخلية.
ومع هذه الانتخابات تطوى فترة الفراغ في السلطة؛ فبعد أكثر من عامين مر بهما لبنان دون حكومة، يُعلن انتخاب عون وتعيين سلام نهاية فترة من الشلل السياسي، مما قد يُؤدي إلى استِقرار هَيكل الحِكومة، وبالتالي التوصل إلى حوكمة أكثر حسمًا مع القُدرة على تنفيذ السياسات. وقد تُساهم خلفية سلام في القانون الدولي والدبلوماسية في محكمة العدل الدولية في الدفع نحو تَبني تدابير مكافحة الفساد وتنفيذ إصلاحات مؤسسية أوسع نطاقًا.
وقد تُساعد القِيادة الجديدة في فتح باب للمساعَدات الدولية والدعم المالي، الذي كان مشروُطًا بالاسِتقرار السياسي والإصلاح. ومع الخلفية العسكرية لعون والدعم الدولي، من المُحتمل أن يكون المانحين الأجانب أكثر استعدادًا للاستثمار أو تقديم القروض في إطار التعافي وإعادة الإعِمار. لكن تبقى التحديات الاقتصادية جسيمة، لاسيما انهيار العملة والقطاع المصرفي، وسوف يتعين على الإدارة الجديدة تنفيذ سياسات لمُعالجة التضخم والفقر وفشل الخدمات، وهو ما قد يُعقده نظامُ الحكم الطائفي في لبنان.
ورغم احتمالية قيام عون بخطوات للحد من نفوذ «حزب الله»، سيبقى النظام السياسي بحاجة إلى تعزيز التعاون بين الطوائف الدينية المختلفة، وهو ما قد يؤدي إلى نشوب توترات مع النواب الشيعة في البرلمان. وقد يكون الخيار الآخر هو أن يتحدى عون وسلام القوة العسكرية لـ «حزب الله» وذلك من خلال تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار ونزع سلاح الحزب في جنوب لبنان بموجب قرار الأمم المتحدة رقم 1701. وقد يؤدي هذا إلى احتِكاك مباشر مع «حزب الله» أو على العكس من ذلك، قد يدفع الحزب نحو المزيد من التسويات السياسية أو التنازلات إذا رأت ميزة استراتيجية في القيام بذلك.
وقد يُعزز انتخاب عون نفوذ دول الخليج في الساحة السياسية اللبنانية، ويُعيد ترتيب السياسة الخارجية، مع التركيز على التعاون الاقتصادي والأمني مع هذه الدول. ومن جانبها قد ترى إيران، الداعم الرئيسي لـ «حزب الله»، في إعادة التنظيم هذه انتكاسًة استراتيجيًة لها، مما قد يُؤثر على سياساتها الإقليمية أو يدفعها نحو المُضي في مناورات دبلوماسية للحِفاظ على نفوذها في لبنان. كما قد يَشهد لبنان، بفضل الخِبرة الدبلوماسية التي يتمتع بها سلام وعلاقاته الدولية، تحسُنًا في علاقاته مع الهيئات الدولية، مما قد يُعزز فُرص دعم لبنان نحو تعافيه واستقراره.
وأخيرًا، إن انتخاب رئيس لبناني جديد ليس مجرد حدث سياسي محلي عابر؛ بل هو اختبار حاسم للتحالفات المتغيرة وديناميات القوى في الشرق الأوسط، فبالنسبة لـ «حزب الله» والنفوذ الإيراني والمعادلة السورية، قد تكون رئاسة عون بداية التحول إلى نظام جديد. وبصورة عامة، إن المستقبل السياسي للبنان متشابك بعمق مع الصراعات والتنافسات المُستمرة في المنطقة، لذا يتعين على إدارة ترامب إدراك حقيقة أن استبدال نفوذ إيران بصورة دائمة لا يُمكن أن يتم دون استراتيجية إقليمية شاملة ومتعددة الأوجه، تكون فيها لبنان من الأعمدة الرئيسية، وذلك للحد من قُدرة إيران على استغلال نِقاط الضُعف اللبنانية لتعزيز قوتها ومصالحها في بلاد الشام. وينبغي على ترامب أيضًا الأخذ في الحُسبان وجهات النظر الإقليمية بشأن ضرورة استقرار كل من سوريا ولبنان في عام 2025م، ورغم أهمية الدعم الخارجي وحُسن النوايا، إلا أنهما غير كافيين، إذ يتعين على الشعب اللبناني نفسه أن يتخذ القرارات الصعبة اللازمة لإعادة بناء دولة قوية صامدة قادرة على أداء مهماتها.