في تطور جيوسياسي جديد على الحدود الشمالية لإيران المجاورة لمنطقة القوقاز، قادت الوساطة الأمريكية بين جمهورية أذربيجان وأرمينيا إلى تسوية نزاع تاريخي شهدته منطقة القوقاز، بتوقيع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، اتفاق سلام برعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في البيت الأبيض، ما يضع حدًا لحروب وصِراعات امتدت لعقود من الزمان بين البلدين الجارين. اللافت في الأمر؛ أن جزءًا كبيرًا من الاتفاق، مُرتبط بممر «زنغزور» الممتد بين أذربيجان وأرمينيا، ويفصل بين أذربيجان وإقليم نخجوان التابع لها والذي يتمتع بحكم ذاتي منذ 1924م. حيث تم التوقيع على اتفاق آخر مع البلدين يمنح الولايات المتحدة الحق في تطوير وتنفيذ ممر «زنغزور» والاستثمار فيه لمدة قد تصل إلى 99 عامًا. ورغم أن الوساطة الأمريكية، قد تُنهي صراعًا داميًا استمر لسنوات بين أرمينيا وأذربيجان، لكن يبدو أنها ستفتح صراعًا آخر بين أطراف ترى أنها مُتضررة من مخرجاتها، وهي: «إيران وروسيا»، ضد المنتفعين منها، وهم: «الولايات المتحدة وأذربيجان وأرمينيا وتركيا وإسرائيل».
أولًا: أهداف الوساطة الأمريكية بين باكو ويريفان
تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تحقيق العديد من الأهداف الجيوسياسية في منطقة القوقاز التي تجتمع في تقاطعاتها مصالح منافسيها الإقليميين والدوليين «روسيا وإيران»، من خلال وساطتها بين أذربيجان وأرمينيا ودعمها لممر «زنغزور»؛ وتتمثل أهم تلك الأهداف فيما يلي:
- مُمارسة المزيد من الضغط على إيران: يتعارض تحسُن العلاقات الأذرية-الأرمينية بشكل عام وممر «زنغزور» بشكل خاص مع المصالح الإيرانية، كونه يمنح نفوذًا أكبر لأذربيجان وتركيا المنافستين الإقليميتين لإيران، وبذلك فإن كل ما يُساهم في تقويض الدور الإقليمي الإيراني يُعتبر مكسبًا للولايات المتحدة، وهو ما يمنحها مزيدًا من الأوراق للضغط على إيران لمساومتها في الملف النووي وغيره من الملفات.
- حضور أمني واستخباراتي على حدود إيران: تُشير تقارير إلى أن الولايات المتحدة ستستأجر الممر لمدة 99 عامًا وتضعه تحت تصرف اتحاد من القطاع الخاص، ما يعني أن أرمينيا ستُحافظ رسميًا على سيادتها وملكيتها، إلا أنها ستُسلم السيطرة التشغيلية على هذا الشريط الحدودي إلى الولايات المتحدة. هذا الوجود سيمنح واشنطن مزايا استخباراتية ولوجستية وحتى عسكرية في الجوار المباشر لإيران.
- مكاسب اقتصادية: لا تقتصر أهمية الممر بالنسبة للولايات المتحدة على المكاسب الجيوسياسية فحسب، بل للممر أهمية اقتصادية كبيرة، وتتمثل المكاسب الاقتصادية للولايات المتحدة في اتفاقيات التعاون مع أذربيجان وأرمينا وتركيا في مختلف القطاعات. أما بشكل مباشر؛ فيحقق الممر أيضًا بعض العوائد المالية. إذ وفقًا لـ «مركز كاسبيان للسياسات»، ستتراوح تكلفة بناء هذا الممر بين ثلاثة وخمسة مليارات دولار خلال السنوات الخمس إلى العشر القادمة، لكن عائدات الخدمات اللوجستية التي سيوفرها من المتوقع أن تصل إلى 30 مليار دولار سنويًا. وهذا يعني أن الممر سيتحول إلى طريق رئيسي للتجارة الدولية بين آسيا وأوروبا، وتشغيل الولايات المتحدة له سيترتب عليه بكل تأكيد مكاسب مالية مرتفعة.
- خطوة لترامب نحو جائزة نوبل: يُعتبر النزاع الأذري-الأرميني من النزاعات الطويلة في العالم، لأنه مستمر منذ أكثر من ثلاثة عقود وتخللته حروب ومواجهات عسكرية. وبالتالي، فإن التوصل إلى تسوية لهذا النزاع الطويل المعقد، وتحويله إلى مدخل للسلم والاستقرار الإقليمي بوساطة ترامب، يُمثل نقطةً إضافيةً تُقربه من حلم جائزة «نوبل للسلام» التي باتت تَشغله ومن أهدافه الشخصية. وربما هذا يفسر إطلاق مصطلح «مبادرة ترامب للسلام والازدهار الدولي» على الممر.
- تطويق ناعم لإيران: على عكس الحالتين الأفغانية والعراقية اللتين وظفت فيهما الولايات المتحدة القوة الصلبة لتحقيق أهدافها، ما منح إيران العديد من الأوراق لتعزيز نفوذها في البلدين بما في ذلك مساومة واشنطن. لكن في الحالة الأذرية-الأرمينية فإن الحضور الناعم عبر رعاية اتفاق سلام ومشروع اقتصادي يمنح أمريكا أوراق تأثير على حساب طهران التي لا تمتلك أدوات ضغط على واشنطن.
- تعزيز النفوذ الأمريكي في القوقاز على حساب روسيا: رغم الغموض الذي يكتنف الموقف الروسي حيث أيدت موسكو الاتفاق كخطوة تحفظ الأمن والاستقرار في المنطقة، وقد يكون للموضوع علاقة بالملف الأوكراني، ولكن بشكل عام يُعزز الممر من النفوذ الأمريكي وحلف الناتو في المنطقة على حساب النفوذ الروسي.
ثانيًا: تداعيات تنفيذ ممر «زنغزور» على إيران
بالطبع يترتب على تنفيذ ممر «زنغزور» من قِبل الولايات المتحدة، تداعيات جيوسياسية وأمنية واقتصادية على إيران تزيد من تطويقها وحصارها، لا سيما على ضوء المُتغيرات التي تشهدها المنطقة وتمدد إسرائيل لتطويق إيران بدعم أمريكي؛ وهذه التداعيات كالتالي:
1. جيوسياسيًا: تنفيذ الممر سيُغير الخريطة الجغرافية التاريخية لإيران، بإزالة حدود دولة من على حدودها، ليتناقص عدد الدول الحدودية بريًا مع إيران -حال تنفيذ الممر- إلى 6 دول بإزالة الجوار الأرميني بعدما كانت 7 دول هي: «باكستان، وأفغانستان، وتركمانستان، وأذربيجان، وأرمينيا، وتركيا، والعراق»، على الأقل خلال فترة الاتفاق المحددة بـــ 99 عامًا. والخطورة الجيوسياسية تكمن في كون الممر سيخنق إيران ويفصلها جغرافيًا عن البوابة الوحيدة لتنفيذ أحلامها الطموحة في مد أنابيب النفط والغاز للغرب حال تحسُن العلاقات بمعالجة ملف الاتفاق النووي، كما أنه سيتيح للولايات المتحدة ومعها العواصم الأوروبية وإسرائيل الحليف القوي لأذربيجان، تعزيز الحضور المكثف على الأراضي الأذربيجانية لتطويق إيران جغرافيًا كما تبين الخريطة رقم (1)، كما أن تنفيذ الممر سيلغي الدور الجيوسياسي الطموح لإيران في ربط آسيا الوسطى بالقوقاز، ويخل بالتوازن في التحالفات لصالح التحالف الغربي بخروج أرمينا رسميًا من تحالف روسيا-إيران.

«المصدر: https://2u.pw/1cwgV»
يُحيي تدخل الولايات المتحدة لتنفيذ الممر الأطروحات الجيوسياسية لنظريات المدرسة الأمريكية، وبخاصة نظرية الأطراف أو حواف أو إطار الأرض «نظرية حزام الأرض» Rimland Theory للعالم الأمريكي نيكولاس سبيكمان N. J. Spykman، والتي ذهب فيها على خلاف ما ذهب ماكيندر تجاه كيفية السيطرة على العالم ومقدراته، حيث يرى سبيكمان ضرورة السيطرة على الجزيرة العالمية من خلال السيطرة على الهلال الخارجي «Rimland» (كما هو موضح في الخريطة رقم 2)، لا كما يرى ماكيندر ضرورة السيطرة على قلب الأرض، أي الـ «HeartLand». وقد جاء في أطروحة سبيكمان: «أنه من يتحكم في منطقة الأطراف (الهلال الخارجي) أو الحافة يحكم أوراسيا، ومن يتحكم في أوراسيا يتحكم في أقدار ومصائر العالم». حيث أن قلب الأرض في نظر سبيكمان، أجزاء واسعة منها عبارة عن مناطق مُتجمدة أو صحراوية، ومن ثَم فإن منطقة القيادة ذات الثقل الرئيسية لا تتمثل في قلب الأرض، وإنما تتركز في منطقة الهلال الخارجي، وذلك لِما تتمتع به من موارد وثروات هائلة. ويقصد بها سبيكمان، الدول ذات المناطق الساحلية الأوراسية من أوروبا الغربية وأجزاء شرق أوسطية والشرق الأقصى وجنوب ووسط وغرب القارة الآسيوية ثم القارة الأسترالية. واعتبر سبيكمان، أن الهلال الخارجي منطقة حاجزة بين قوى البر وقوى البحر، وتتميز بمواقع جيواستراتيجية وحيوية هامة عالميًا.
ويدخل موقع الممر بنسبة كبيرة في منطقة «الريم لاند» التي ربما تحكم النظرة الأمريكية في السيطرة على العالم، وعودة الهيمنة الأمريكية المُنفردة على العالم من جديد. وهُنا يُمكن الإشارة إلى تَبني العديد من مُستشاري الأمن القومي الأمريكيين السابقين، وأبرزهم بريجنسكي، لأطروحات تلك النظرية لاستمرارية الهيمنة الأمريكية على الشؤون والقيادة الدولية، وليس ببعيد أن يكون الفريق الرئاسي للرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب ومستشار الأمن القومي، متأثرين بأطروحات تلك النظرية لتعزيز القوة والقدرة والانتشار الأمريكي العالمي عبر التحكم في مفاصل ما اصطُلح على تسميته بـ «حواف الأرض»، لا سيما أن السيطرة على الممر، فيه مصالح تهم ترامب ذاته، حيث لا يُحقق السيطرة على الممر مكاسب جيوسياسية وجيواستراتيجية فحسب، وإنما مكاسب جيواقتصادية بالأساس.
الخريطة رقم (2): الفرق بين حواف الأرض وقلب الأرض

Source: Heartland, Rimland, & Organic Theories, Accessed: Mar.30, 2021, https://bit.ly/2xPGRfn
2. أمنيًا: لطالما اعتبرت إيران أن تنفيذ الممر «خط أحمر»، حيثيُشكل تنفيذ الممر -حال التنفيذ الفعلي- خطورةً أمنيةً على إيران، لكونه سيُشكل «قاعدة نفوذ أمريكية» على الحدود الشمالية لإيران، حيث سيجعل القوات الأمريكية منتشرةً على طول الحدود الإيرانية، وتصبح واقعيًا الولايات المتحدة الجار المُطوق لإيران على حدودها الشمالية لمدة 99 عامًا، ليس فقط من الحدود الأرمينية، بل من طول الحدود الأذربيجانية الممتدة من أذربيجان إلى إقليم نخجوان الأذربيجاني، حيث ستتولى شركة أمريكية تابعة للجيش الأمريكي إدارة الممر، كذلك سيسمح الممر بالتبعية بحضور إسرائيلي مُكثف على الحدود الشمالية لإيران ضمن استراتيجية إسرائيلية واضحة تهدف لتطويق إيران من كل جانب بعد الإجهاز على الأذرع الإقليمية، وتوجيه ضربات استراتيجية للنظام دمرت العديد من قُدراته وقياداته وعلمائه النوويين، تمهيدًا كما تطمح إسرائيل لـ «الإطاحة بالنظام الإيراني» بعد تطويقه وخنقه من كل جانب، كما أن هُناك إمكانية لتواجد حلف شمال الأطلسي «الناتو» باعتبار أن الولايات المتحدة التي ستمتلك الممر عضوًا في الحلف، وربما تُعزز لاحقًا محور: «الناتو-أذربيجان-تركيا».
كذلك تتخوف إيران من تنامي معدلات القوة الجيوسياسية لثنائي صاعد: «تركيا-أذربيجان»، على نحو يُتيح للدولتين الطامحتين تعزيز أدوارهما على الحدود الأرمينية-الإيرانية، وفي جنوب القوقاز على حساب إيران لا سيما في ظل تنامي العلاقات العسكرية بين باكو وأنقرة منذ الحرب الأذربيجانية-الأرمينية التي غيرت نتائجها موازين القوى في جنوب القوقاز لصالح تركيا-أذربيجان. كذلك ربما يُنهي الممر ذلك الوضع الإقليمي المستقر عبر عقود من الزمن على الحدود الشمالية لإيران، وإمكانية تحول تلك البقعة الجُغرافية إلى ملف مُشتعل مُتقدم في جنوب القوقاز وعلى الحدود الشمالية لإيران، حال تدخلات إيرانية روسية مُحتملة لإفشال تنفيذ الممر، وربما تحديات صينية، حيث يتعارض الممر إلى حدٍ كبير مع الحزام والطريق الصيني، لكونه سيؤدي إلى عرقلة مرور طريق الحرير، عبر إيران إلى أرمينيا وأوروبا؛ وبالتالي سيؤدي إلى تعزيز فرص التنافس الأمريكي-الصيني في منطقة القوقاز.
3. اقتصاديًا: يربط الممر أذربيجان وإقليم نخجوان بطول يبلغ نحو 43 كيلومترًا عبر أرمينيا مباشرةً، بدلًا من المرور بإيران، وبذلك يتم اختصار نصف المسافة التي كانت تبلغ 86 كيلومترًا عبر الأراضي الإيرانية، مما يعني توفير نصف الوقت والتكلفة على أذربيجان، والربط المباشر مع جُزء من أراضيها الغربية دون الوسيط الإيراني، كما قد يُقلل زمن عبور البضائع عبر أوراسيا بمقدار ما بين 12 و15 ساعة، مما يعني خفض تكاليف التجارة الدولية المستخدمة لهذا الممر.
وفي المقابل، على الجانب الإيراني يعني إتمام الممر فُقدان رسوم عبور الترانزيت من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى وجود عراقيل أمام مرور التجارة الإيرانية إلى الشمال، نظرًا لوجود الولايات المتحدة -التي ستدير الممر- والتي من الممكن أن تضع عراقيل أمام عبور التجارة الإيرانية إلى أرمينيا، ويعزلها بريًا عن دول جنوب القوقاز مثل جورجيا وما يليها من دول الشمال والتي كانت تمر عبر الأراضي الأرمينية. وسجلت صادرات إيران إلى أرمينيا قرابة 600 مليون دولار خلال عام 2023م (تمثل 4.5% من إجمالي الصادرات الإيرانية)، وجورجيا (شمال أرمينيا) 241 مليون دولار خلال نفس العام، بينما استوردت منهما في نفس العام بقرابة 100 مليون دولار، و30 مليون دولار على التوالي.
ومن ناحيةٍ أخرى، فإن وجود هذا الممر يُقلل اعتماد أذربيجان على نقل الغاز عبر إيران، والذي تحتجز الأخيرة منه 15% كمستحقات مقابل المرور، وتستخدمه في تغذية المنازل الإيرانية خلال فصول الشتاء عند زيادة الاستهلاك عن الإنتاج المحلي.
كما يكسر الممر احتكار طرق النقل التقليدية التي تمر عبر إيران، ويحد من قُدرتها التفاوضية في المعادلات الجيواقتصادية، والمبادرات الإقليمية كطريق الحرير وممر الشمال-الجنوب، إذ يُمكن أن يخلق الممر طُرقًا وممراتٍ بديلة لعبور الطاقة، والتجارة، بعيدًا عن إيران، أو يُسرع إنشاء ممرات تجارية ولوجستية من الشرق إلى الغرب وبالعكس، لتستفيد منه تركيا ودول أوروبا المتلهفة لاستيراد مصادر الطاقة التي تذخر بها دول آسيا الوسطى مثل غاز تركمنستان، ونفط كازاخستان وغيرهما كبدائل لمصادر الطاقة الإيرانية والروسية، في مقابل نقل التجارة والتركية والأوروبية إلى هذه الدول بعيدًا عن إيران، مما يخلق منافسةً شرسةً أمام التجارة وقطاع الطاقة الإيراني، ويُقلل فُرص توغل إيران في هذه الأسواق لصالح دول أخرى.
المخاوف الإيرانية من هذه التداعيات، أجبرت الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى إجراء زيارة إلى أرمينيا، بعد نحو عشرة أيام فقط من توقيع الاتفاق، في خطوة قد تُقرأ بأن إيران قد قبلت بالواقع الذي فرضته الولايات المتحدة على حدودها الشمالية، لكنها بصدد الحد من انعكاساته المستقبلة على الأمن الإيراني، حيث تحدث بزشكيان عن ضرورة عدم تدخل المؤسسات العسكرية -أي الجيش الأمريكي- في تنفيذ المشروع، كما حاول الحصول على تطمينات أرمينية بلعب دور في تبديد المخاوف الإيرانية، ويبدو أن بزشكيان قد حصل على هذه التطمينات، بعدما أكد رئيس الوزراء الأرميني بأن إيران حريصة على سيادة أرمينيا وسلامة أراضيها، وأن أرمينيا لن توقع على أي اتفاق دون مراعاة مصالح إيران، وحساسياتها تجاه «ممر زنغزور». كما حصلت إيران وفقًا لوزير الخارجية عباس عراقجي، على تأكيدات بأن شركات الأمن الخاصة الأميركية لن تتواجد في أرمينيا بحجة هذا الممر.
ورغم هذه الوعود التي قد تساهم في تبديد القلق الإيراني، لكن الواقع الذي قد تفرضه الولايات المتحدة عند البدء في تنفيذ المشروع، ستكون له تداعيات جيوسياسية واقتصادية وأمنية كبيرة على إيران، كما أن المصالح التي تجنيها أرمينيا من الممر، والضغوط المحتملة التي قد تمارسها واشنطن على يريفان، قد تجبر الأخيرة على رسم تحالفات جديدة، بعيدًا عن إيران التي لطالما تمتعت بعلاقات متميزة مع أرمينيا.
ثالثًا: الموقفان الروسي والتركي تجاه المشروع الأمريكي
يكتسب الموقفان الروسي والتركي من مشروع ممر «زنغزور»، أهميةً خاصةً نظرًا لوقوع الممر في الحديقة الخلفية لروسيا وقلقها من تمدد نفوذ القوى الكبرى فيه، خاصةً الولايات المتحدة والناتو. أما تركيا، فيبدو أنها تُراقب هذا التطور بارتياح شديد، لكونها ستكون من أكبر المستفيدين من الممر.
1. الموقف الروسي من اتفاق الممر:
مبدئيًا، من مصلحة روسيا نهاية النزاع بين أذربيجان وأرمينيا لخدمته أمن واستقرار المنطقة، والذي سينعكس إيجابيًا على الأمن القومي الروسي. تبعًا لذلك، فإن ممر «زنغزور» يخدم أيضًا المصالح الروسية، كونه يُعزز علاقاتها بأذربيجان ويتيح لها طريقًا مباشرًا إلى أرمينيا بعد غلق الطريق عبر جورجيا، وقد كان تأييد روسيا للممر سببًا في أزمة ديبلوماسية مع إيران في سبتمبر 2024م، حيث أبلغت وزارة الخارجية الإيرانية، السفير الروسي لديها أليكسي ديدوف، انزعاج طهران من تصريحات مسؤولين روس بشأن إنشاء ممر «زنغزور» بمنطقة القوقاز. لكن نظرًا لكون المنطقة فضاءً جيوسياسيًا لروسيا وكانت في السابق جزءًا من الاتحاد السوفيتي، فهي ترفض تمدد نفوذ القوى الكبرى فيه، خاصةً الولايات المتحدة و «الناتو»، وتريد أن تكون الترتيبات الأمنية حِكرًا لها ولدول المنطقة. وقد تجلى ذلك في اتفاق 2020م، الذي رعته روسيا، ومن بين البنود التي تضمنها إشراف حرس الحدود الروسي على أمن خطوط النقل الجديدة بين البلدين التي كانت مَطلبًا جوهريًا لأذربيجان للوصول إلى جمهورية نخجوان التابعة لها إداريًا. ولذلك؛ فإن رعاية واشنطن لاتفاق السلام شكَّل انتكاسةً رمزيةً للدبلوماسية الروسية، بنجاح واشنطن حيث فشلت روسيا. ويُعد هذا التطور امتدادًا للانتكاسات التي عرفها النفوذ الروسي منذ التورط في الحرب مع أوكرانيا، وهو أحد تداعياتها غير المباشرة.
ولعل هذا ما يُفسر موقف الخارجية الروسية التي أبدت تحفظاتها، مُشيرةً إلى «استمرار عضوية أرمينيا في الاتحاد الأوراسي، حيث ينظم أيضًا نقل البضائع العابرة»، وضرورة مراعاة «وجود حرس الحدود الروسي على الحدود الأرمينية-الإيرانية». إذ أوضحت الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، أن «الاتفاقيات الثلاث المُبرمة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020م بمشاركة روسيا لا تزال سارية المفعول في هذا المجال»، والتي لم ينسحب منها أي من الطرفين. ومن الناحية الاقتصادية، قد يتحول الممر إلى شريان ضخم لنقل البضائع من آسيا الوسطى وأفغانستان إلى أوروبا والشرق الأوسط عبر تركيا متجاوزًا الأراضي الروسية، كما سيُعزز النفوذ الغربي والتركي في الاقتصاد الأرميني على حساب النفوذ الروسي.
2. الموقف التركي:
من الطبيعي أن يَحظى تنفيذ الممر بدعم أنقرة الكامل، لا سيما في مرحلة علاقات أمريكية-تركية تتسم بالدفء الشديد بين الرئيسين ترامب وأردوغان، لكونها المستفيد الأول ضمن محور الرابحين. حيث سيضمن تنفيذ الممر تعزيز المكانة الجيوسياسية لتركيا في منطقة القوقاز، ويربطها بريًا بحليفها الأذربيجاني نحو بحر قزوين وآسيا الوسطى، ويحول تركيا إلى مركز للطاقة وإعادة توزيعها نحو أوروبا، بما يزيد من وزنها وثقلها في الاستراتيجية التركية، ومنها لتعظيم المصالح والمكاسب التركية، وربما تعزيز زخم مسألة العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي، ذلك الحلم التركي القديم المتجدد، وربما تمكين تركيا من تشكيل العالم التركي عبر الترابط التركي الأذربيجاني نحو بحر قزوين وإقليم آسيا الوسطى، ذلك العالم الذي يطمح أردوغان في تشكيله وقيادته.
رابعًا: الخيارات الإيرانية للتعامل مع تطوير ممر «زنغزور»
أبدت طهران رفضها الشديد لإنشاء الممر على حدودها الشمالية، نظرًا لتداعياته الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية على إيران، ولوقف المشروع أو تغيير مساراته بصورة تتوافق مع طموحاتها وتبدد مخاوفها، قد تلجأ إيران إلى الخيارات التالية أو بعضها:
- التصعيد ضد أذربيجان وأرمينيا: المعارضة العلنية التي تبديها طهران، تعكس قلقًا إيرانيًا متعاظمًا من تداعيات قيام هذا المشروع على حدودها الشمالية، لكونه سيؤدي إلى خسارة حدودها مع أرمينيا واختلال التوازن الإقليمي لصالح تقوية الحلف الذي يجمع تركيا وأذربيجان، وفي حال التصعيد الإيراني ضد أذربيجان وأرمينيا، قد تلجأ هذه الدول للضغط على الولايات المتحدة للتخلي عن فكرة المشروع أو البحث عن مسارات بديلة.
- خلق قلاقل أمنية على الحدود: قد تقود إيران عمليات تخريب ممنهج لمشروع الممر،عبر الاستهداف المباشر للأفراد والمواقع والشركات المشرفة على تنفيذه، بهدف عرقلة عمليات التطوير والاستجابة للضغوط الإيرانية في هذا الشأن، وقد تُقرأ تصريحات مستشار المرشد الإيراني، في هذا السياق، حيث أكد علي أكبر ولايتي، بأن إيران ستمنع الولايات المتحدة من تطوير ممر «زنغزور» «سواء بالتعاون مع روسيا أو بدونها»، واعتبر أن الممر يُشكل تهديدًا لأمن المنطقة ويُغير خريطتها الجيوسياسية.
- المطالبة بإنشاء ممرات وجسور: قد تكون مسألة عبور إيران للأنفاق والطُرق الفرعية فوق هذا الممر أو تحته، أحد مطالب إيران في أي مفاوضات مُستقبلية بين إيران وكل من الولايات المتحدة وأرمينيا وأذربيجان. وقد تكون الموافقة على إنشاء الممر داخل الأراضي الأرمينية أو إنشاء جسور أو أنفاق، فوق أو تحت الممر المقترح، دافعًا قويًا لإيران لوقف أي محاولات للتصعيد ضد أذربيجان وأرمينيا أو افتعال الأزمات الأمنية والقلاقل عند الشريط الحدودي، ومن المُرجح أن تضغط أرمينيا في هذا الاتجاه نظرًا لرغبتها في الحِفاظ على التواصل البري مع إيران من ناحية، والاستمرار بالتمتع بعائدات عبور البضائع الإيرانية عبر حدودها من ناحية أخرى.
- إيران جزء من تحالف مناوئين ضد الممر: الموقف الروسي المرن في التعامل مع مشروع ممر «زنغزور»، يكشف عن رغبة موسكو في التنازل -ربما مؤقتًا- عن رفض هذا المشروع، للموازنة بين مصالحها في القوقاز والجهود الأمريكية لإنهاء الحرب مع أوكرانيا. لكن في المستقبل القريب قد تقود تحالفًا مناوئًا مع إيران للضغط على الولايات المتحدة وأذربيجان وأرمينيا؛ بهدف إفشال المشروع أو فرض شروط تمكنها هي وإيران من التقليل من تبعاته الأمنية والجيوسياسية والاقتصادية.
الخُلاصة:
تُفيد المعطيات المذكورة أعلاه، أن تنفيذ الممر يترتب عليه أبعادٌ وتداعيات جيوسياسية واقتصادية وأمنية طويلة الأمد، تزيد إيران خنقًا وعزلةً وحِصارًا -حال تنفيذه- وتُعد نقطة إخفاق إضافية للنظام الإيراني تُضاف لسلسلة إخفاقاته التي كادت أن تعصف به في الهجمات الإسرائيلية الأخيرة. وبينما تُعد إيران وروسيا في مقدمة الخاسرين حال تنفيذ الممر، تُعتبر الولايات المتحدة وتركيا وأذربيجان وإسرائيل وأرمينيا الأطراف الرابحة حال تنفيذه، كذلك هُناك فُرصٌ لتنفيذ الممر تتمثل في وقوف القوة الممسكة بزمام النظام الدولي خلفه، لا سيما في ظِل فترة حكم رئيس يتسم بحزمه وشدته في تنفيذ الاتفاقيات الدولية، خاصةً التي تحمل صفقات تعود بالنفع على الولايات المتحدة، فضلًا عن التحول في الموقف الأرميني بالانضمام إلى المُعسكر الغربي بقيادة أمريكية بعدما كان يُحسب على إيران وروسيا، وضغط الطرفين التركي والأذربيجاني لتنفيذ الممر، وضعف النظام الإيراني وربما الانكفاء على الداخل بعد الضربات التدميرية التي لحقت به وأذرعه الإقليمية. أما فيما يخص تحديات تنفيذ الممر، فعلى ما يبدو أنها ضعيفة وتتمثل في القبول التكتيكي الإيراني، وربما الرفض الصيني وقدرة إيران على إثارة القلاقل قرب الممر، لكن بالطبع سيكون تحديًا ضعيفًا في ظل التواجد العسكري الأمريكي المحتمل على الممر.