بين البراغماتية والطموح.. المحادثات النووية بين واشنطن وطهران ومستقبل دبلوماسية عدم الانتشار النووي

https://rasanah-iiis.org/?p=37571

خيمَ شعورٌ بالتفاؤل الحذر في طهران وواشنطن في أعقاب الجولة الثالثة من المحادثات النووية بين الجانبين، والتي عُقدت بمسقط في 27 أبريل 2025م؛ فبعدَ أكثر من أربع ساعات من المناقشات المكثفة، اختتمَ المفاوضون الإيرانيون والأمريكيون محادثاتهم غير المباشرة، تاركينَ البابَ مفتوحًا لمزيد من الحوار رغم اعترافهم بوجود خلافات كبيرة لم تُحل بعد. ووصف كبيرُ المفاوضين الإيرانيين عباس عراقجي الأجواءَ بأنها «أكثر جدية» مما كانت عليه في الجولات السابقة، مشيرًا إلى أن مشاركة الخبراء الفنيين ساعدت في دفع المحادثات إلى «قضايا أكثر تفصيلًا وتقنية». ومع ذلك، أكد عراقجي أن «خلافًا خطيرًا» لا يزال قائمًا، شملَ مواضيع رئيسية مثل مستويات تخصيب اليورانيوم وبرنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، وكلاهما خطوطٌ حمراء إيرانية. وقال عراقجي: «هناك جدية لدى الجانبين، وأتصوَّر أن هناك إرادةً لدى الجانب الآخر أيضًا، ولكن هل يمكن التوصل إلى اتفاق؟ بالتأكيد آملُ ذلك، ولكن بحذرٍ شديد». وأكد أن المناقشات لا تزال تقتصر فقط على القضايا النووية وتدابير بناءِ الثقة مقابلَ تخفيف العقوبات. ومن المتوقع عقد جولة رابعة من المحادثات نهايةَ الأسبوع المقبل، على الأرجح في أوروبا، لكن التفاصيل النهائية لم تتَّضح بعد.

ومن الجانب الأمريكي، وصفَ مسؤولٌ كبير اجتماعَ يوم السبت بأنه «إيجابي ومثمر»، لكنه امتنعَ عن تفصيل نقاط الخلاف المحددة. وشملت المحادثات المبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف، الذي ذهبَ إلى عُمان عقبَ مشاورات في موسكو مع الرئيس فلاديمير بوتين. أما في طهران، فقد كانت أجواءُ المفاوضات مشحونةً، فلقد  حثَّ وزير الاستخبارات إسماعيل الخطيب في خطابة أمامَ لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان، الفصائلَ السياسية على عدم استقطاب الرأي العام بشأن المفاوضات وسلَّط الضوء على الجهود الجارية ضد الجماعات المناوئة للحكومة وسط التغيرات التكنولوجية في الحرب الهجينة. وعلى الجانب الأوروبي، لاتزال العلاقات بين إيران ودول الترويكا متوترة؛ وهذا ما اتَّضح في منشور لعراقجي لاقى انتشارًا واسعًا، حيث انتقد فيه موقف دول ترويكا الأخير، وجدَّد عرضهُ للحوار معهم قائلًا: «الكرة الآن في ملعبهم»، محذرًا من أن الفشل في اغتنامِ هذه اللحظة الدبلوماسية قد يخلقُ مستقبلًا قاتمًا.

وفي الداخل الإيراني، عبّرت الصُحف الإيرانية عن هذا المزاج العام بعناوين حذرة، مثل: «مساومة على مسألة فنية» (صحيفة اعتماد)، «أملٌ مُشوبٌ بالحكمة» (صحيفة شرق)، و«محادثاتٌ جادة لتضييق هوة الخلافات» (صحيفة آرمان). وسلَّطت صُحفٌ أخرى الضوءَ على التعقيدات المُقبلة مثل: «الجميع يعودون إلى ديارهم لبحث التفاصيل» (صحيفة جوان)، و«عراقجي: لن نتفاوض أبعد من القضية النووية» (صحيفة كيهان). وبينما تستعدُ كلٌّ من طهران وواشنطن للجولة القادمة، لا يزال التفاؤلُ ضئيلًا بسبب العقبات السياسية والفنية العديدةِ القائمة. ولكن بلا شك تعكسُ المحادثات التي يتوسَّط فيها دبلوماسيون عُمانيون، توازنًا دقيقًا بين إبرام الصفقات العملية والأهداف الطموحة لمنعِ الانتشار النووي عالميًا. يترقَّب العالم نتائجَ هذه المفاوضات التي قد تُعيد رسم الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، وتؤثر على الدبلوماسية النووية، وتُعيد تعريفَ العلاقة الأمريكية-الإيرانية.

دقَّ ناقوسُ الخطر في عام 2025 بعدما وصل مخزون إيران من اليورانيوم المخصَّب وقدرات أجهزة الطرد المركزي إلى مستويات غير مسبوقة، حيث قدَّرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران قادرةٌ على إنتاج مواد انشطارية لصُنع قنبلة نووية في غضون أسابيع، رغم أن مرحلةَ التسلُّح ستستغرقُ وقتًا أطول. وفي هذا الصدد، تُعد محادثات عُمان خطوةً إيجابية؛ فهي تضمن تنازلاتٍ عملية لاحتواء الأزمة مقابل تطلعات طموحة بالتوصل إلى إطار عمل مستدام بشأن منع الانتشار النووي. داخليًا، تواجهُ كلٌ من طهران وواشنطن ضغوطات تحدُ من قدراتهما على اتخاذ موقف أكثر مرونة؛ ففي الولايات المتحدة، يُقيد الاستقطاب في الكونجرس واقتراب الانتخابات النصفية لعام 2026م قدرةَ الرئيس دونالد ترامب على تخفيف العقوبات. وفي إيران، ينظر «المتشددون»، والحرس الثوري الإيراني، والدائرة المقرَّبة من المرشد الأعلى علي خامنئي، إلى التنازلات على أنها خيانةٌ للقيم الأساسية للبلاد.

يتمثَّل الهدف الأساسي من هذه المفاوضات في التوصل إلى اتفاق مؤقت لإيقاف تقدُّم إيران النووي، مقابل تخفيف محدود للعقوبات، مثل فك تجميد الأصول الإيرانية أو تخفيف قيود تصدير النفط، وسيُعطي هذا الاتفاق فسحةً ووقتًا لإجراء مفاوضات أوسع، مع منع إيران من تجاوز العتبة النووية. وللجانب الأمريكي، سيُخفف هذا الاتفاق المرتقب من احتمالية التصعيد العسكري الإقليمي، وللجانب الإيراني، يمكن أن تُفضيَ الانفراجة الاقتصادية إلى استقرار عملتها وامتصاص السخط العام بسبب ارتفاع معدلات التضخم. إلى جانب الاتفاق المؤقت، لدى كلا الجانبين أهدافٌ أبعد؛ إذ تسعى الولايات المتحدة إلى التوصل إلى «خطة العمل الشاملة المشتركة بلس» يتضمن تمديدَ القيودِ النووية المفروضة على إيران إلى ما بعد عام 2030، ويكبح نفوذ إيران في المنطقة. ومن جانبها، تطالبُ إيران بضمانات قاطعة بأن الإدارات الأمريكية المستقبلية لن تتراجعَ عن الاتفاق، وهو أمرٌ بالغُ الصعوبة بالنظر إلى وضع «خطة العمل الشاملة المشتركة» غير الملزم بموجب القانون الأمريكي. ناهيكَ أن هذه الطموحات تتعارضُ مع الواقع؛ إذ ترفضُ طهران كبح برنامجها الصاروخي الباليستي وتحجِمُ واشنطن عن تقديم التزامات ملزمة قانونًا؛ وهذا يخلق فجوةً واسعةً بين الجانبين تحولُ دون التوصل إلى اتفاق مستدام.

وفي عمان ترأس الفريق الفني الأمريكي مايكل أنطون، مدير مكتب تخطيط السياسات بوزارة الخارجية والمتحدث السابق باسم مجلس الأمن القومي خلال إدارة ترامب الأولى، حيث تناقش مع المفاوضين النوويين الإيرانيين المخضرمين مجيد تخت روانجي وكاظم غريب آبادي. ووفقًا لعراقجي، قد تضم الجولة القادمة من المحادثات أيضًا خبيرًا من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهي الهيئة الأممية المسؤولة عن مراقبة الأنشطة النووية الإيرانية.

للتغلب على الجوانب الفنية، يمكن أن يتضمن أحد الحلول الممكنة المقترح الروسي الذي من شأنه أن يسد المخاوف بشأن استمرار إيران في التخصيب النوي في حال انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق. بموجب هذه الخطة، اقترحت الولايات المتحدة نقل مخزون إيران من اليورانيوم عالي التخصيب إلى بلد ثالث، مع اقتراح روسيا بلدًا محتملًا لهذه المهمة. تهدف هذه الخطوة إلى تضيق احتمالية امتلاك أسلحة نووية. وحسب التقديرات في شهر مارس 2025م، وصل مخزون إيران من اليورانيوم حوالي 275 كيلوغرامًا – وهي كمية من الناحية النظرية يمكن تخصيبها لإنتاج مواد لأسلحة نووية متعددة. وحسب الاقتراح سوف يكون احتفاظ روسيا بمخزون إيران من اليورانيوم المخصب بمثابة ضمان لإيران؛ بحيث تُعيده لها في حال انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق مستقبلًا.

وترى إيران أن ثمة خطرٌ حقيقيٌ في التركيز حصريًا على قناة الاتصال مع الولايات المتحدة في عُمان. ورغم أنه هذا المسار من الحوار ضروري لإيران لتجنب الحرب، لكنه لا يكفي لمعالجة تحدياتها الأوسع مع أوروبا (التي لا تزال إلى حد كبير متفرجةً في المفاوضات الجارية) أو لمنع تفعيل «آلية الزناد | Snapback Mechanism»؛ إذ تسمح هذه الأداة الدبلوماسية لأعضاء «خطة العمل الشاملة المشتركة» بطلب إعادة فرض العقوبات الأممية على إيران بسرعة في حال انتهكت التزاماتها النووية. وقد أعربت مجموعة دول الترويكا بالفعل عن استعدادها لتفعيل «آلية الزناد» في وقت مبكر من يونيو 2025م، لا سيما مع عدم إحراز المفاوضات تقدمًا ملحوظًا. ومن جانبه، أكد وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو أيضًا على إمكانية قيام الدول الأوروبية بتفعيل «آلية الزناد»، واصفًا إياها بأنها جزءٌ من استراتيجية أوسع للمفاوضات التي تدور الآن مع طهران تحت استراتيجية «الضغوط القصوى». وتشكل محادثات عُمان اختبارًا حاسمًا لمستقبل دبلوماسية عدم الانتشار؛ إذ سيُعيد التوصل إلى صفقة مؤقتة الثقةَ في نجاعة الأُطر متعددة الأطراف لحل الخلافات؛ وهذا يعني أنه حتى ألد الخصام يمكنهم التفاوض سويًا تحت ضغوطات الأطراف المتعددة. وهذا من شأنه أن يعضد من موقف وعمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي طالما بذلت جهودًا مضنية لمراقبة برنامج إيران النووي رغم تقيدات الأخيرة لها. وعلى العكس من ذلك، إنْ فشلَ الأطراف في التوصل إلى اتفاق قريب، من المحتمل مواجهة عدة عواقب على رأسها تزمُّت إيراني وتصعيد عسكري في المنطقة وتراجع فعالية اتفاقية عدم الانتشار النووي. وعلى مستوى الدبلوماسية الدولية، تعكس هذه المفاوضات عدة أبعاد أوسع إقليميًا وعالميًا؛ أولاً: تؤكد على الأهمية المتزايدة للوسطاء المحايدين مثل عمان والمملكة العربية السعودية وقطر وسويسرا في رأب الفجوات حينما تكون المحادثات المباشرة غير ممكنة. ثانيًا: تكشف مدى التحدي المتمثل في مواءمة إدارة الأزمات على المدى القصير مع أهداف استراتيجية طويلة الأجل في ظل سياسات داخلية متقلبة. ثالثًا: تثير هذه المحادثات أسئلةً حول إمكانية التوصل إلى حالة عدم الانتشار النووي في عالم متعدد الأقطاب، حيث تلعب القوى الصاعدة مثل الصين أدوارًا أكبر في تشكيل ملامحه. ورغم استمرار العقبات، ثمة رغبة في الدخول في حوار يعطي بصيصَ أملٍ لحل سلمي؛ لذا يجب على المجتمع الدولي أن يدعم هذه الجهود، وأن يدرك أن مخاطر الانتشار النووي تتجاوز حدود أي دولة واحدة بعينها. وفي نهاية المطاف وبعد 22 عامًا من المفاوضات النووية مع إيران، يواجه الدبلوماسيون الأمريكيون تحديين رئيسيين هما: التوصل إلى صفقة مع إيران، وضمان استمرارها.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير