مثّلت القمة غير الرسمية للمجلس الأوروبي، التي عُقدت في كوبنهاغن بتاريخ 01 أكتوبر 2025م، نقطة تحول بارزة في مَسار السياسة الدفاعية والأمنية للاتحاد الأوروبي. استضافت القمة رئيسة الوزراء الدنماركية ميته فريدريكسن، وترأسها رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا، وسط إجراءات أمنية غير مسبوقة.
وجاء قرار إغلاق المجال الجوي الدنماركي، ونشر أنظمة مضادّة للطائرات المسيّرة، ليعكس في آنٍ واحد تصاعد الإحساس بالخطر، والرمزية الكبيرة لهذه اللحظة السياسية. وقد جمعت القمّة قادة الدول السبع والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وانعقدت بعد أيام قليلة من سلسلة انتهاكات روسية للمجال الجوي الأوروبي، شملت توغلات لطائرات مُسيّرة داخل أجواء بولندا وإستونيا والدنمارك، ما استدعى تدخّل مقاتلات «الناتو»، وأعاد إلى الواجهة المخاوف من هشاشة سماء أوروبا أمام الاختراقات. ورغم نفي موسكو أي تورطٍ لها، فقد رأى المسؤولون الأوروبيون في هذه الحوادث أعمالَ ترهيبٍ مقصودة، تهدف إلى اختبار جاهزية الاتحاد الدفاعية وتماسكه السياسي. وقال رئيس وزراء فنلندا بيتيّري أوربو، مُحذرًا: «نحن قلقون، وأنا قلق للغاية، وحان الوقت للتحرك»، مُعبرًا بذلك عن شعورٍ مشترك لدى قادة أوروبا الشرقية والشمالية.
انعقدت القمة في ظل مناخ أمني شديد التوتر. فالحرب الروسية المستمرة في أوكرانيا، والعمليات الهجينة التي تستهدف البنية التحتية الأوروبية، وانتشار تقنيات الطائرات المسيّرة منخفضة التكلفة، كشفت عن هشاشة بنيوية في المنظومة الدفاعية الأوروبية. ورغم أن الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء قد خصصوا منذ عام 2022م نحو 173.5 مليار يورو لدعم أوكرانيا، إلا أن التكيف الروسي مع العقوبات الغربية، واعتماده على أساليب غير تقليدية، دفع الأوروبيين لإدراك أن الإجراءات الارتجالية لم تعد كافية لضمان الأمن طويل الأمد.
كما يسعى القادة الأوروبيون إلى الانتقال من حالة الاعتماد إلى بناء القدرات الذاتية، اعترافًا بأن أمن أوروبا لا يمكن أن يستند إلى الضمانات الأمريكية إلى الأبد، خاصةً في ظل الغموض المتزايد حول أولويات إدارة ترامب الخارجية، واتساع نطاق عمل «الناتو» خارج أوروبا.
وفي صُلب جدول أعمال القمة، جرى تقييم التقدم المحرز نحو أهداف خطة «الجاهزية 2030»، والتي تُمثل تسعة مجالات حيوية، حددها المجلس الأوروبي في مارس 2025م كأولويات للدفاع الجماعي. وتشمل هذه المجالات: الدفاع الجوي والصاروخي، وإنتاج المدفعية والذخائر، وقدرات الطائرات المسيّرة ومكافحتها، والصمود السيبراني، والتنقل العسكري واللوجستيات، وهياكل القيادة.
ورغم الإقرار بوجود فجوات مستمرة، مثل تشتت ممارسات الشراء، والاعتماد المفرط على الموردين غير الأوروبيين، فقد أُشير إلى تقدم تدريجي، لا سيما عبر أداة «العمل الأمني من أجل أوروبا | SAFE»، التي أُطلقت مطلع العام. توفر هذه الأداة ما يصل إلى 150 مليار يورو من القروض والضمانات لمشاريع دفاعية مشتركة، تهدف إلى تحسين قابلية التشغيل البيني، وتحفيز التعاون الصناعي. كما دعا كوستا (رئيس المجلس الأوروبي) وزراء الدفاع إلى لعب دور أكثر تنفيذية، مع مراقبة ربع سنوية للمؤشرات، قبل اجتماع المجلس الأوروبي الرسمي في 23-24 أكتوبر، والذي وُصف بأنه «وقت اتخاذ القرار» بشأن آليات التمويل والتدابير المتعلقة بأوكرانيا.
ومن جانبها، سعت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إلى إعطاء مضمون عملي لخريطة طريق لخطة «جاهزية 2030» عبر الكشف عن أربع مبادرات دفاعية رئيسة، تهدف إلى تعزيز قدرة الاتحاد الأوروبي على الردع والاستجابة السريعة. أول هذه المبادرات: «جدار الطائرات المسيّرة الأوروبي»، وهو نظام مُتعدد الطبقات للرصد والاعتراض، يمتد من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، ويهدف إلى تحييد التهديدات الجوية غير المأهولة في الزمن الحقيقي. ويُعد هذا الجدار جُزءًا من برنامج «مُراقبة الجناح الشرقي» الذي يتضمن أيضًا مكونًا فضائيًا للرصد الإستراتيجي، على حدود الاتحاد الأوروبي و«الناتو» الشرقية.
كما تقود ألمانيا «مُبادرة درع السماء الأوروبي»، التي تهدف إلى تعزيز قدرات الدفاع الجوي والصاروخي الجماعي، من خلال تنسيق عمليات الشراء، وتحقيق قابلية التشغيل البيني بين الدول المشاركة. في المقابل، يسعى «درع الفضاء الدفاعي»، إلى ضمان تنافسية الدول الأوروبية في مجال الوعي الفضائي، وخاصةً فيما يتعلق برصد التهديدات المحتملة، والاستجابة لها.
وقد حظيت هذه المبادرات بتأييد مبدئي من معظم المشاركين، وتعكس طموح الاتحاد الأوروبي في الانتقال من مجرد إعلان «الاستقلال الإستراتيجي» إلى بناء قدرات عملية. وفي هذا الإطار، وصف الأمين العام للناتو مارك روتي، خلال منتدى المجتمع السياسي الأوروبي، مُبادرة الجدار المسيّر، بأنها «ضرورية وفي الوقت المناسب»، مُشددًا على تكاملها مع جهود الردع التي يبذلها الحلف.
ورغم التوافق الواسع على تشخيص التحديات، ما تزال الانقسامات قائمة بشأن آليات التنفيذ والحكم. فقد شكك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في النطاق التقني للجدار المسيّر، داعيًا بدلًا من ذلك إلى الاستثمار في قُدرات الردع بعيدة المدى، والضربات عالية الكفاءة. وانتقد المستشار الألماني فريدريش ميرتس ما وصفه بـ«الإفراط التنظيمي من بروكسل» في مجال شراء المعدات الدفاعية. في المقابل، حذّرت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، من أن التركيز المفرط على الجناح الشرقي، قد يُهمّش البُعد المتوسطي للأمن الأوروبي.
ومن منظور سياسي، تُشير قمة كوبنهاغن إلى تحرك تدريجي نحو ما بات يُعرف بـ «اتحاد الدفاع الأوروبي»، بعد أن أرست الورقة البيضاء، الصادرة في مارس 2025م حول خطة « الجاهزية 2030» الأسس الفكرية لهذا التوجه، عبر تحديد فجوات القدرات الحرجة، واقتراح تخصيص 1.5 مليار يورو لبرنامج الصناعات الدفاعية الأوروبية. ولتفعيل هذه الرؤية، تدعو المفوضية إلى مرونة مالية، تسمح بزيادة مؤقتة في العجز لتمويل الإنفاق الدفاعي، وتبسيط إجراءات الشراء، عبر صندوق الدفاع الأوروبي.
وبرزت قضية التنقل العسكري كأولوية، من خلال تطوير ممرات السكك الحديدية والطرق، بما يتيح نشرًا سريعًا للقوات عبر القارة -وهي نقطة ضعف كشفتها تدريبات الناتو مثل «المدافع الصامد». وفي الوقت نفسه، يُتوقع أن يُسهم توسيع نطاق توجيه «أمن الشبكات والمعلومات-الإصدار الثاني | NIS2» في تعزيز قدرة الاتحاد الأوروبي على الصمود السيبراني، عبر تحصين البنى التحتية الحيوية ضد الهجمات الهجينة والمتطورة.
إستراتيجيًا، لم تُسفر قمة كوبنهاغن عن تقدم ملموس، ولكنها بلورت إدراكًا مشتركًا، بأن البيئة الأمنية الأوروبية دخلت مرحلة جديدة. وأكدت أن بقاء الاتحاد الأوروبي كفاعل جيوسياسي، مرهون بقدرته على دمج الأدوات الصناعية والمالية والعسكرية، ضمن بنية دفاعية متماسكة. وفي ختام القمة، أكدت رئيسة الوزراء الدنماركية فريدريكسن، بالقول: «علينا أن نجعل أوروبا قوية بما يكفي، ليصبح شن الحرب ضدنا خيارًا غير مطروح؛ علينا بناء دفاع أوروبي أقوى، والتصدي للتهديدات الهجينة التي نواجهها».
ويبقى السؤال مفتوحًا حول قدرة الاتحاد الأوروبي على ترجمة هذا التصميم إلى تنسيق سياسي وصناعي مستدام. فالنجاح سيتوقف على تسوية خلافات القيادة بين فرنسا وألمانيا، وتوحيد المتطلبات الوطنية، والحفاظ على دعم الرأي العام لإنفاق دفاعي يُتوقع أن يصل إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2028م. والإخفاق في تحقيق ذلك سيُبقي أوروبا أسيرة التبعية الإستراتيجية، ويمنح خصومها فُرصةً لتعزيز نفوذهم، مستغلين ما يرونه من هشاشة بنيوية. لذا، لا تمثل قمة كوبنهاغن نهاية مسار، بل هي تحذير صريح: لقد دخلت أوروبا مرحلة لم يعد فيها الدفاع مجرّد خيار، ولا باتت الوحدة ترفًا يمكن تأجيله.