أخذت المُعطيات على الساحة العراقية مُنحنًى جديدًا بتهديد الولايات المتحدة، الحكومة العراقية في سبتمبر 2020م بإغلاق سفارتها، في حال عدم قدرة بغداد على وقف هجمات الميلشيات المسلَّحة التابعة لإيران على البعثات الأمريكية والأجنبية والفِرَق اللوجستية الداعمة للبعثات ولقوّات التحالف الدولي ضد «داعش» في العراق، وعلى شركات النِّفط في المحافظات النِّفطية.
بيْد أنّ أهمِّية العراق في الإستراتيجية الأمريكية لاعتبارات السياسة والاقتصاد والجغرافيا، تطرحُ التساؤلات حول دوافع الولايات المتحدة وجدِّيتها في تنفيذ التهديد بإغلاق السفارة في بغداد؟ والتداعيات المُحتمَلة على تنفيذه على الأوضاع الأمنية والاقتصادية والسياسية بالعراق؟ ومَن سيكون الطرف الكاسب أو الخاسر من أطراف الصراع حال إغلاق السفارة الأمريكية؟ وما المُتوقَّع حدوثه على الساحة العراقية خلال الفترة المقبلة؟ وما هي اتّجاهات الموقف الأمريكي بالعراق في المدى المنظور؟
أوّلًا: دوافع التهديد الأمريكي بإغلاق السفارة
دوافع علنية وأُخرى مُستتِرة تقفُ وراء التهديد الأمريكي بإغلاق واحدة من كُبريات السفارات الأمريكية في العالم. ترتبط الدوافع العلنية بالارتفاع المستمرّ في معدَّل ونطاق الهجمات المسلَّحة للميلشيات الموالية لإيران، منذ بداية العام 2020م، ضد ّكُلﱟ من الأهداف الأمريكية من قوّات وقوافل وبعثات، وقوّات وقوافل ومنشآت التحالُف الدولي ضد «داعش»، والبعثات الأجنبية العربية والأوروبية، وقوافل ومنشآت مكاتب برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، وقوافل الشركات النِّفطية، وذلك في مناطق جغرافية متعدِّدة بالعراق.
وقد بلغ عدد الهجمات الميليشياوية بصواريخ الكاتيوشا والطائرات بدون طيّار خلال الرُبع الأوّل من العام 2020م ضدّ الأهداف الأمريكية والأجنبية والأُممية نحو 11 هجومًا، وقد ارتفع معدَّل الهجمات خلال الرُبع الثاني من العام الجاري إلى ما يصل قرابة الضعف تحديدًا بنحو 19 هجومًا، كما ارتفع خلال الرُبع الثالث بنحو 27 هجومًا.
وكذلك ارتفع عدد الهجمات بالعبوّات الناسفة على القوافل والشاحنات الأمريكية والأُممية، من 14 هجومًا خلال الرُبع الأوّل إلى نحو 27 هجومًا خلال الرُبع الثاني من العام 2020م، وخلال شهري أغسطس وسبتمبر 2020م (شهران فقط)، بلغ عدد الهجمات نحو 49 هجومًا (24 هجومًا خلال أغسطس، و25 هجومًا خلال سبتمبر 2020م)، حسب تقرير لمعهد واشنطن.
بينما ترتبطُ الدوافع المًستتَرة برؤية العديد من الخُبراء بأنّ إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تخشى تكرار سيناريو أحداث السفارة الأمريكية في بنغازي عام 2012م، وكذلك أزمة الرهائن الشهيرة التي كانت من بين أبرز أسباب فشل الرئيس الأسبق جيمي كارتر بالفوز بولاية ثانية مطلع ثمانينيات القرن العشرين مقابل فوز غريمه رونالد ريجان، وذلك بدفع إيران وكلائها في العراق بتكرار السيناريو باحتلال السفارة واختطاف رهائن للتأثير على حظوظ ترامب الانتخابية، بما يعزِّز من حظوظ فوز المرشَّح الديمقراطي جو بايدن، على أمل العودة للاتفاق النووي وإيجاد حلولٍ لقضية العقوبات القاسية التي أفقدت إيران – حسب تصريحات الرئيس حسن روحاني – نحو 150 مليار دولار. ولذلك يبدو أنّ إدارة ترامب أرادت استباق الأحداث لتكثيف الحماية بالتهديد بإغلاق السفارة؛ لضرب أيّ مُخطَّط ضدّ البعثة الأمريكية في العراق، وذلك على الرغم من أنّ العديد من الكُتّاب الإيرانيين يروْن على نحوٍ مُغاير أنّ إيران حريصة كُلّ الحرص على عدم استفزاز الإدارة الأمريكية في الساحة العراقية؛ حتّى لا تمنحها المبرِّر بتوجيه ضربةٍ عسكرية لها ووكلائها، يحقِّق من خلالها الرئيس دونالد ترامب انتصارًا انتخابيًا على منافسه الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ثانيًا: الجهود العراقية لإدارة الأزمة
اتّخذت حكومة مصطفى الكاظمي عدَّة إجراءات للحيلولة دون تحويل العراق إلى ميدان صراعٍ مباشر بين الولايات المتحدة وإيران، والنأي بالساحة العراقية عن العودة إلى المربَّع الأوّل، بعقده اجتماعًا رباعيًّا مع رئيس الدولة ورئيس البرلمان ورئيس مجلس القضاء، أسفر عن ضرورة المُضي قُدُمًا في مسار الانتقال نحو مرحلة الدولة بحصر السلاح في يد الدولة، وتقليص مساحات وجود الميليشيات المسلَّحة بالمواقع الهامَّة في العراق، طالبًا دعم جهود الحكومة في تنفيذ برنامجها للانتقال نحو سيادة الدولة وصيانة أمنها واستقرارها.
من بين أبرز الإجراءات الأمنية، إصدار الأوامر بإغلاق مكاتب «الحشد الشعبي» الموالي لإيران في مطار بغداد الدولي، وإعفاء قائدين بارزين في الحشد تابعين لـ «سرايا الخرساني» المتّهمة بقتل عشرات المتظاهرين؛ حامد الجزائري وَوعد القدو المصنَّف ضمن قوائم الإرهاب الأمريكية، في محاولة لتغيير الوجوه غير المقبولة في الحشد، بما يخفِّف من حدَّة الموقف مع الولايات المتحدة.
وكذلك أصدر أوامرَ لجهاز مكافحة الإرهاب بالقيام بحملة تفتيش في كافَّة أحياء العاصمة بغداد؛ لتوقيف مُطلِقي الصواريخ باتّجاه المنطقة الخضراء لمنع الهجمات المسلَّحة وتوفير المظلَّة الأمنية للبعثات الأجنبية، وتكثيف الحضور الأمني بالمنطقة الخضراء بنشر الفرقة الخاصَّة داخل حدود المنطقة الخضراء، وإصداره تعليمات مشدَّدة لكافَّة الأجهزة الأمنية بضرورة التصدِّي للميليشيات المسلَّحة.
لم تقِف حكومة الكاظمي عند حدّ اتّخاذ إجراءات داخلية لمنع تصعيد الهجمات الميليشياوية ضدّ الأهداف الأمريكية فحسب، بل أوفد الكاظمي وزير خارجيته فؤاد حسين يوم 26 سبتمبر 2020م إلى إيران، في زيارة عدَّها مراقبون مناسبة لإقناع إيران بالضغط على الميليشيات المسلَّحة لإيقاف الهجمات على البعثات الأجنبية، باعتبار أنّ إيران هي المموِّل والراعي الرسمي لهجمات الميليشيات المسلَّحة ضدّ الأهداف الأمريكية.
وكذلك عقد الرئيس العراقي برهم صالح اجتماعًا مع قادة الكُتل والأحزاب الشيعية؛ لإبلاغهم بالتهديدات الأمريكية التي تمحورت: أولًّا، حول إغلاق السفارة حال تعرُّض أهداف أمريكية لعدوان مسلَّح، وهذا من شأنه أن يحوِّل العراق إلى دولة معادية للولايات المتحدة، بالتزامُن مع اتّخاذ نحو 12 سفارة أجنبية قرارات بالإغلاق تضامنًا مع السفارة الأمريكية، بما يجعل البلاد في حالة عُزلة دولية تامّة حسب تصريحات صالح، ثانيًا، استهداف الزعامات الشيعية وقادة الفصائل المسلَّحة بنفس طريقة استهداف قائد فيلق القدس الإيراني السابق قاسم سليماني ونائب قائد «الحشد الشعبي» أبو مهدي المهندس، ثالثًا، توجيه غارات جوِّية مكثَّفة على مواقع الفصائل المسلَّحة حتّى تدميرها كلِّيةً.
وفي هذا السياق، كشفت بعض الأوساط الإعلامية أنّ واشنطن أبلغت بغداد بأنّها ستهاجم 120 موقعًا، حال تعرُّض أهداف أمريكية لاعتداءات مسلَّحة وسقوط قتلى أمريكيين، ورابعًا، تجفيف الأموال الخاصَّة ببعض السياسيين الضالعين أو المتواطئين مع الميليشيات المسلَّحة في تنفيذ هجمات ضدّ أهداف أمريكية وملاحقتهم دوليًّا.
على خلفية اجتماع صالح وتحذيره من ردّ فعل أمريكي عسكري صارم، وقَعت تغييرات مفاجئة في مواقف قادة الميليشيات والتحالُفات الموالية لإيران في العراق، حيث لم تنتظر طويلًا لتعلن رفضها لأيّة هجمات ضدّ البعثات الدبلوماسية خوفًا على مستقبلها السياسي بالعراق، إذ سارع كُلٌّ من هادي العامري ونوري المالكي وفالح الفيّاض في مؤتمر صحفي مشترك بإدانتهم للاعتداءات على البعثات الأجنبية، في لغة مفاجئة وغير مسبوقة للشارع العراقي وللخُبراء والمتخصِّصين، الذين تعوَّدوا على سماع لغة عدائية ضدّ الولايات المتحدة وكيْل الاتّهامات لها في الساحة العراقية، والأدهى أنّ كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق المنضوين تحت لواء هيئة الحشد الشعبي، كانتا تمجِّدان الهجمات المسلَّحة ضدّ الأهداف الأمريكية بالعراق.
بيد أنّ هذه التغيُّرات في مواقف قادة الميليشيات والتحالُفات الموالية لطهران، لم تتمّ بمعزل عن الجار الشرقي للعراق – بحُكم تحكُّمه في مواقف وتحرُّكات قادة الميليشيات بالعراق؛ يحرِّكهم ويجِّمدهم متى شاء ولا يمكن إعلان مواقف دون التنسيق مع قادة الحرس الثوري، إذ يدينوا بالولاء العقائدي لـ «قُم» – الذي ندَّد بالهجمات المسلَّحة ضدّ البعثات الدبلوماسية في العراق، ودعوته حكومة الكاظمي بتشديد الإجراءات الأمنية لمنع تكراراها.
ثالثًا: التداعيات المحُتمَلة على العراق حال إغلاق السفارة
على الرغم من فوائد التهديد الأمريكي في الضغط على الحكومة العراقية للتعجيل بقضية حصر السلاح بِيَد الدولة، غير أنّه يثير عدَّة مخاطر وتحدِّيات كارثية أمام الحكومة العراقية، على النحو التالي:
- الدفع نحو الاقتتال الداخلي: التهديد بإغلاق السفارةيشكِّل تحدِّيًا كبيرًا للكاظمي؛ لكونه يريد حصر السلاح بيد الدولة وكبح جماح الميليشيات المسلَّحة بدون عملية عسكرية تخلقُ حالة حرب شوارع واقتتال أهليﱟ وطائفيﱟ. فإذا ما لجأ الكاظمي إلى الخيار العسكري لِلَجم الميليشيات، فمن المُرجَّح أن ترُدّ الميليشيات بعنف مضادّ بإيعاز إيراني؛ ما قد يؤثِّر على أمن العراق وانهيار حكومة الكاظمي، التي اتّخذت خطوات جريئة وغير مسبوقة في هذا الاتّجاه، وكذلك التوقيت ليس في صالح الكاظمي، حيث خرج آلاف العراقيين في العاصمة والمحافظات الجنوبية ذات الظهير الشيعي ومحافظات الوسط لإحياء الذكرى الأولى لانتفاضة أكتوبر 2019م، ومطالبين بالإصلاح الشامل ومحاربة الفساد ورفض التدخلات الخارجية.
2. إفشال جهود مسار الانتقال نحو الدولة: عند إغلاق السفارة، ستزعُم إيران ووكلاؤها الإقليميون عبر منابرها الإعلامية أنّها حقَّقت انتصارًا سياسيًّا ودعائيًّا كبيرًا بإجبارها الولايات المتحدة على إغلاق مقارّها الدبلوماسية في العراق؛ ما من شأنه تقويض الجهود التي اتّخذها الكاظمي للتضييق على الميلشيات المسلَّحة للانتقال نحو الدولة وتجاوز مرحلة اللا دولة، مع عودة قوّة وسطوة وسيطرة الميليشيات المسلَّحة بشكل أقوى على مفاصل الدولة، وتوجيه دفَّة قرارات الحُكم فيها داخليًّا وخارجيًّا.
وإذا ما تحقَّق الإغلاق سيكون قرارًا كارثيًا على العراق، يتجاوز في مداه وأثره الانسحاب الذي قامت به إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عام 2011م، والذي ترتَّب عليه ولادة ظهور تنظيم «داعش»، وعودة ظهور العديد من التنظيمات والعمليات الإرهابية في المحافظات العراقية، وولادة المزيد من الميليشيات المسلَّحة الموالية لإيران على الساحة العراقية وسيطرتها على مساحات أوسع من العراق؛ ما يعزِّز النفوذ الإيراني في العراق وسوريا.
وكذلك سيُشعر هذا التهديد الكاظمي أنّ ما قامت به حكومته لم يلقَ قبولًا أمريكيًّا، حيث اتّخذت حكومته عدَّة إجراءات قوية وجريئة منذ تسلُّمها مهامها ضدّ وكلاء إيران في العراق، بدءًا من اعتقال عناصر تابعة لحزب الله، ومرورًا بإعفاء فالح الفيّاض من مستشارية الأمن القومي، وتشديد الرقابة على الحدود العراقية-الإيرانية، وإصدار أوامر بدخول العراق بتأشيرة دخولٍ لكافّة العسكريين والدبلوماسيين الأجانب حيث كان الهدف العسكريين الإيرانيين.
3. عُزلة العراق دوليًّا: إغلاق السفارة لن يتوقَّف عند انتهاء كافَّة العمليات الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية في بغداد فحسب، بل من المُرجَّح أن تتّخذ العديد من الدول خطوات مشابهة، وهو ما كشف عنه الكاظمي صراحةً في جلسة مجلس الوزراء يوم 29 سبتمبر 2020م، بقوله إنّ الهجمات المستمرَّة على البعثات الأجنبية دعت «المؤسسات والهيئات الدبلوماسية إلى التفكير بإغلاق سفاراتها، وأوّلها الولايات المتحدة، وكذلك الاتحاد الأوروبي». وبتاريخ 18 سبتمبر 2020م، أعربت 18 دولة أوروبية وغربية عن قلقها من سلسة الهجمات الميليشياوية على المصالح والأهداف الأجنبية بالعراق، ومن المُرجَّح أيضًا أن تتوقَّف كافَّة عمليات التحالُفات الدولية، وأن تتّخذ العديد من القُوى الأجنبية خطوات مُمَاثلة للخطوة الأمريكية حال وقوعها؛ لاعتمادها بشكلٍ مركزي على الحضور الأمريكي في العراق، باستثناء روسيا والصين، وهو ما سيُلقي بظلاله السلبية على الأوضاع الأمنية والاقتصادية العراقية؛ لكونه سيُنهي التعاوُن بين العراق وهذه الدول اقتصاديًّا أيضًا، في ظلّ ظروف حرجة يمُرّ بها العراق يحتاج فيها للدعم الخارجي، ويقوِّض فُرص الخروج بالعراق إلى برّ الأمان، علمًا بأنّ هذه الخطوة قد لا تخدم الولايات المتحدة بشكل لا إستراتيجي ولا تكتيكي.
4. احتمالية اندلاع قتال أمريكي-إيراني على الأراضي العراقية: يضعُ التهديد الأمريكي العراق أمام إمكانية تحدِّي تحمُّل تكلُفة السيناريو الكارثي، إذ ما كان ذلك مقدِّمةً لسلسلة غارات جوِّية أمريكية مكثَّفة على مقرَّات الميليشيات المسلَّحة؛ ما يحوِّل العراق بدوره لساحة حرب حقيقية لتصفية الحسابات الأمريكية-الإيرانية؛ لأنّ الإدارة الأمريكية قد تستغلّ ذلك لتحقيق انتصارات ساحقة ضدّ إيران في الانتخابات المقبلة، عِوضًا عمّا انتابها في ملفّات تتعلَّق بإدارة أزمة كورونا وملفّ العنصرية وملفّ الأزمة مع الصين، وإن كانت إيران تدرك ذلك وتريد تفويت الفرصة على الإدارة الأمريكية.
رابعًا: اتّجاهات تطوُّرات الأحداث على الساحة العراقية
يرسُم ما تقدَّم صورةً واضحة عن حجم وخطورة التهديدات الميليشياوية للأهداف الأمريكية في فترة دقيقة للغاية لدى الإدارة الأمريكية قُبيل الانتخابات الرئاسية، لا تريد خلالها هذه الإدارة استخدام إيران ورقةَ ضغطِ إعادة سيناريو حصار السفارة الأمريكية ببغداد نهاية 2019م، وكذلك يطرح اتّجاهين فيما يمكن أن تؤول إليه الأحداث على الساحة العراقية خلال الفترة المقبلة، التي تشهد انتخابات رئاسية أمريكية في نوفمبر 2020م، وتحركُّات عراقية لإجراء انتخابات مبكِّرة 2021م:
السيناريو الأول: تنفيذ التهديد بإغلاق السفارة تفاديًا لوقوع عمليات اختطاف رهائن، بحسب الرواية الأمريكية، وهو سيناريو غير مُرجَّح؛ لأنّ قرار إغلاق السفارة يُترجَم عمليًّا بعد تخفيض عدد القوّات الأمريكية في العراق من 5500 إلى 3000، بالدخول في السيناريو الكارثي وتصفية الحسابات مع إيران في الساحة العراقية، لكنّ واشنطن تعلم وكذلك طهران أنّ الحرب في العراق لن تكون نزهة، ولا يُمكن حسمها لصالح أيّ طرف ولا تحديد سقفها الزمني، والتكلُفة ستكون صعبة على جميع الأطراف.
وكذلك تُعَدّ السفارة الأمريكية في العراق بمثابة قاعدة عسكرية عملاقة، تضُم الآلاف من قوّات المارينز، وتحتوي على عددٍ كبير من بطاريات باتريوت ومطار ورادارات تغطِّي ليس بغداد فقط بل مساحاتٍ كبيرة من الدولة العراقية ذاتها، ومِن ثمَّ ما هو وجه الاستفادة من قرار إغلاق السفارة، علمًا بأنّ إيران ستكون الطرف الرابح، كونها تجيد السيطرة على المساحات الفارغة من النفوذ، ومِن ثمَّ قد يكون التهديد الأمريكي مناورةً لاختبار جدِّية العراق في قضية إخراج القوّات الأمريكية من العراق، وفي قضية حصر السلاح بيد الدولة. وأضِف إلى ذلك أنّ إطلاق الميليشيات المسلَّحة الموالية لإيران ستة صواريخ على مطار أربيل يوم 30 سبتمبر 2020م، رسالةً إلى واشنطن بأنّ «الكاتيوشا» قادرة على ضرب الأهداف الأمريكية في أيّ بقعة على الأراضي العراقية، وهو ما يجعل الإدارة الأمريكية تحجم عن تنفيذ فكرة نقل السفارة إلى مكان آخر داخل الأراضي العراقية.
السيناريو الثاني: عدم إغلاق السفارة أو إغلاق أبوابها مؤقَّتًا، لحين تكثيف التأمين الخارجي للمنطقة الخضراء ومحيطها لصدّ أيّة هجمات في المستقبل، مع اللجوء لسيناريو الضربات المحدودة ضدّ الميليشيات المسلَّحة الموالية لإيران، وهو السيناريو المُرجَّح لإدراك مخاطر ترك الساحة للعدو اللدود، وتجنُّب توفير ورقة ضغط قوية للديمقراطيين، إذ من المُرجَّح ترويج الديمقراطيين لذلك على أنّه فشلٌ أمريكي في عهد ترامب في مواجهة إيران ودفع البلاد نحو حربٍ لم تربح فيها الولايات المتحدة أيّة مكاسب إستراتيجية، وهو ما يجعل الإدارة الأمريكية توالي دعمها بقوّة لحكومة الكاظمي لمواجهة الميليشيات المنفلتة. وعليه يتوقع استمرار الضغط الإيراني على الجانب الأمريكي في العراق خلال فترة ما قبل الانتخابات الأمريكية والعراقية عبر الأذرع العسكرية الموالية لإيران في العراق باستمرار التفجيرات وإطلاق الصواريخ على الأهداف الأمريكية والأجنبية بشكلٍ متقطع لإثارة حالة عدم الاستقرار وإظهار عجز ترامب في التعامل مع الملف العراقي؛ بهدف التأثير على حظوظه الانتخابية دون أن تصل الهجمات الميليشياوية إلى حد قتل أمريكيين حتى لا تعطي الفرصة للإدارة الأمريكية لتوجيه ضربة حاسمة لمواقع وتمركزات الميليشيات الموالية لإيران، إذ يبدو أنّ طهران أدركت رسائل الردع الأمريكية القوية منذ استهداف الولايات المتحدة لقائد فيلق القدس الإيراني السابق قاسم سليماني ونائب قائد «الحشد الشعبي» أبو مهدي المهندس بداية يناير 2020م، مع إمكانية توجيه الولايات المتحدة ضربات محدودة للميليشيات هذا من ناحية، علاوةً على الضغط على الكاظمي لثنْيِهِ عن برنامجه وجهوده في الانتقال نحو مسار الدولة المستقلة ذات السيادة من ناحيةٍ أخرى، لأنّ من شأن ذلك بناء حائط صد قوي ضد النفوذ الإيراني في العراق وفقدان نفوذها ومكاسبها أو تقليصها في أهم دولة في مشروعها التوسعي الإقليمي، مع توقع دعم الولايات المتحدة لجهود حكومة الكاظمي حتى إجراء الانتخابات البرلمانية المقبلة رغم ضغطها بملف إغلاق السفارة، حيث إنّ العراق سيكون هو الطرف الخاسر من هذه الخطوة، والذي تسعى حكومته برئاسة الكاظمي في حدود قُدراتها وإمكانياتها وفُرصها المتاحة وتتحرَّك نحو مسار الدولة، وإن كان المطلوب أكثر ممّا حققت حكومته في مسار كبح جماح الميليشيات؛ ما يفرض على واشنطن إعادة النظر في هذا التهديد والوقوف بجانب العراق لإنجاح مسيرة الكاظمي، خاصّةً أنّ واشنطن تمتلك مظلَّة حمايةٍ قادرة على حماية سفارتها، كما فعلت أثناء محاصرتها من قِبل المحسوبين على إيران في سبتمبر 2019م.
وأخيرًا، بينما نرى ضرورة عدم ترتيب قرار إغلاق السفارة ببغداد أيّة مزايا للولايات المتحدة والعراق، غير الدفع نحو الدخول في السيناريو الكارثي المُكلِّف على جميع الأطراف والذي يبدو أن كافة الأطراف لا تريده، غير أنّه ينبغي على الحكومة العراقية استغلال الموقف وسرعة التحرُّك؛ لإبراز جدِّيتها في قضية حصر السلاح بيد الدولة، وكبح جماح الميليشيات التي تعبثُ بأمن العراق وسيادته، وإن كُنّا نعلم بنفس القدر أنّه ليس بالأمر الهيِّن توقُّع نتائج إيجابية في هذه المسألة على المدى المنظور، لاعتبارات تتعلَّق بأوراق الضغط الإيرانية على الساحة العراقية.