تعرّضت الشبكة الوطنية للكهرباء العراقية لعُطلٍ شبه تام وانهيار أجزاءٍ واسعة من منظومتها فجر يوم 02 يوليو 2021م، أدى إلى عجزٍ كبير في إنتاج الكهرباء بحدوث أزمةٍ مُفاجئة في إنتاج الشبكة من نحو 16 ألف ميجاوات إلى 4 آلاف ميجاوات تقريبًا؛ نتيجةَ انقطاع خط كهرباء رئيسي يربط بغداد بالمحافظات الجنوبية ليُخيَّم الظلام على العديد من المحافظات ولا سيَّما الجنوبية ذات الغالبية الشيعية، فضلًا عن تعدُد عمليَّات تخريب وتفجير أبراج نقل الطاقة والأسلاك الناقلة للطاقة وإضرام النيران في محطات توليد وتوزيع الكهرباء خلال الأيام القليلة الماضية، وهو ما أثار مخاوفَ من تجدّد الاحتجاجات الحاشدة وانتشار الاضطرابات الأمنية في المحافظات العراقية في ظل تجاوز درجات الحرارة نصف درجة الغليان.
كشف عطلُ الشبكة العراقية للكهرباء عن أعقد الأزمات التي يواجهُها ثاني أكبر مُصدِّر للنِّفط في منظمة أوبك وثاني أكبر احتياطيٍّ نفطي في المنطقة العربية، تلك الأزمة التي شكَّلت اختبارًا حقيقيًّا أمام الحكومات العراقية المتعاقبة، وتزداد شدّتها في فصل الصيف نظرًا للارتفاع الشديد في درجات الحرارة والتي تصل أحيانًا إلى 50 درجة مئوية في الظل و60 درجة تحت الشمس، بالإضافة إلى تفاقم العجز الشديد الناتج عن نقص الكمية المعروضة من الكهرباء مقابل زيادة الطلب من الاستهلاك الكهربائي في فصل الصيف وزيادة عدد السكان، وهو ما يستدعي النقاش حول أبعاد هذه الأزمة، وحجم الدور الإيراني في تعقيدها وسُبُل مواجهتها، ودور الربط الكهربائي مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في التخفيف من حجمها.
أولًا: المسببات الجوهرية لأزمة الكهرباء العراقية
لم تكُن أزمة الكهرباء في العراق وليدة اليوم؛ بل يعاني هذا البلد من عجزٍ في إنتاج الكهرباء منذ تسعينيات القرن الماضي، لكنَّ العجز تفاقم بشكلٍ كبير للغاية خلال الفترات ما بعد عام 2003م، تلك المرحلة التي شهدت تدخلًا إيرانيًا في الساحة العراقية للهيمنة على مفاصل الدولة ضمن إستراتيجية إيرانية محكَّمة تضمنُ لطهران تمرير مخططاتها وتنفيذ مشاريعها التوسعية في دول المجال الحيوي الأول لإيران، وفي مقدمتها العراق، ويبدو أنَّ أزمة الكهرباء اتجهت وما زالت باتجاهِ مزيدٍ من التعقيد، في ظل الأسباب التالية:
- الاعتماد على الطاقة الإيرانية (الغاز/الكهرباء):
تنتجُ العراق حاليًّا نحو 16 ألف ميجاوات من الكهرباء حسب تصريحات وزير الكهرباء المستقيل ماجد مهدي حنتوش في مايو 2021م، بما فيها الحصة الإيرانية في وقتٍ تبلغُ فيه الحاجة العراقية على الأقل إلى الضعف تقريبًا بنحو 30 ألف ميجاوات لكي تتمكَّن البلاد من تأمين الكهرباء على مدار اليوم، ما يعني أنَّ هناك عجزًا كهربائيًّا يصل تقريبًا إلى 14 آلاف ميجاوات (عجز 49%) رغم وجود الحصة الإيرانية كاملة، وظهر أثرُ هذا العجز في عدد ساعات انقطاع الكهرباء على مدار اليوم لتصل لنحو 8 ساعات؛ الأمر الذي يغذّي المخاوف من اندلاع تظاهرات حاشدة بالعراق.
تمثّلُ الحصة الإيرانية (الغاز والكهرباء الإيرانييْن المصدرين للعراق) الثلث تقريبًا من إجمالي إنتاج العراق من الكهرباء البالغ 16 ألف ميجاوات، فقد بلغت الحصة الإيرانية على سبيل المثال خلال العام 2019م أقل من ثُلث الإنتاج العراقي من الكهرباء تقريبًا، حيث أشار مركز «إدارة معلومات الطاقة» الأمريكي خلال العام 2019م أنَّ 28% من الكهرباء العراقية تعود لإيران، ( 23% منها من إمدادات الغاز والـ 5% من حصة الكهرباء المستوردة من إيران والتي تقدّر بنحو 5000 -6000 ميجاوات)، ومِن ثَمَّ، فإنَّ إيران تمتلك ورقة ضغط قوية على الحكومات العراقية المتعاقبة منذ العام 2003م؛ لذلك يشكّلُ خفضُ إيران لإمداداتها من الغاز للعراق منذ أكتوبر 2020م، ثُم إيقافها يوم 29 يونيو 2021م خطوط إمداد الكهرباء للعراق بشكلٍ كامل بذريعة الديون المتراكمة على العراق من ناحية، ومواجهتها أزمة كهرباء في الداخل الإيراني من ناحية ثانية، أحد أهم أسباب معضلة الكهرباء العراقية؛ لأنها تعادل الثلث تقريبًا، بالإضافة إلى العجز العراقي المقدَّر بنحو النصف تقريبًا، ليتراجع الإنتاج العراقي بالامتناع الإيراني إلى مستوياتٍ غير معهودة منذ سنوات إلى أقل من 10 آلاف ميجاوات في الأوقات الطبيعية بخلاف الأوقات غير الطبيعية التي تتعطل فيها شبكة الكهرباء العراقية لأسبابٍ مُختلفة.
- التوظيف السياسي الإيراني للأزمة:
تدرك إيران مدى تأثير الأزمة ولا سيَّما في فصل الصيف على المعادلة السياسيَّة العراقية منذ 2003م؛ لذلك تستخدمها كورقة ضغط ضد الحكومات المتعاقبة لديمومة العراق ضمن دائرة النفوذ الإيراني، ولا سيَّما في ظل ارتفاع الطلب على الكهرباء بالزيادة السكانية المستمرة؛ كما أنَّ الدعم الإيراني بالطاقة لـ 4 محطات عراقية في الجنوب العراقي: الناصرية والبصرة وديالي والسماوة، يشكّل ميزةً إضافية لإيران تستطيع من خلالها تحريك المحافظات العراقية ذات الغالبية الشيعية.
يمكن تفسير الأزمة بأنها سياسية بامتياز بالنظر إلى توقيتها، والأذرُع الموالية لإيران المستفيدة من عمليَّات تخريب المنظومة الكهربائية، فقد امتنعت إيران عن تصدير الطاقة بشكلٍ كامل للضغط على مصطفى الكاظمي لإيلائه التوازن في العلاقات الخارجية وعودة العراق لمحيطه العربي الأولوية، وذلك من خلال العمل على رفع درجة السخط والغضب الشعبي تمهيدًا لخروج الشارع ضد الكاظمي، كما حدث في احتجاجات 2018م واحتجاجات 2020م ضد حكومتيْ حيدر العبادي وعادل عبد المهدي.
أيضًا يأتي الامتناع الإيراني عن تصدير الطاقة للعراق في ظل التصعيد ضد الغرب لتعظيم الشروط التفاوضية ورفع العقوبات الاقتصادية، ومع بدء العدّ التنازلي للانتخابات البرلمانية العراقية المزمع إجراؤها في أكتوبر 2021م، ومع العودة العراقية للمُحيط العربي بالتوجّه نحو الدول العربية والخليجية للربط الكهربائي، واستضافة العراق قمةً مصرية-أردنية-عراقية في بغداد لتنفيذ مشاريع تكامل اقتصادي وتجاري تتضمنُ تزويد مصر والأردن للجانب العراقي بالكهرباء؛ ما أربك الجانب الإيراني لظهور بوادر الخلاص العراقي من الهيمنة الإيرانية في مجال الطاقة، وأنَّ إفلات العراق من الفضاء الإيراني بدأ يلوح في الأفق؛ لذلك يسعى صانع القرار الإيراني لإرباك الداخل العراقي من خلال تعقيد الأزمة.
وفيما يُعَد إدراكًا عراقيًّا للدور الإيراني في تعقيد الأزمة، تساءل الكاظمي خلال اجتماعه بأعضاء خلية أزمة الكهرباء يوم 03 يوليو 2021م عن أسباب اكتفاء الحكومات طيلة الـ 17 سنة الماضية فقط على الربط مع إيران في ظل تنويع كافة دول العالم مصادرها من الكهرباء، ولذلك بادرت حكومته بطرح مشروع الربط الكهربائي مع دول الخليج والأردن ومصر لتنويع مصادر الطاقة وعدم الاكتفاء بمصدرٍ واحد.
- الفساد المستشري في مفاصل الدولة العراقية:
يحتلُّ العراق تصنيفًا مُقلِقًا في مؤشِّر مدركات الفساد للعام 2020م، حيث احتل المرتبة 160 من بين 180 دولة خلال 2020م ضمن تقرير «منظمة الشفافية العالميَّة»، ويحرمُ الفساد المستشري في العراق المواطنين من حقوقهم الأساسية ولا سيَّما في عنصر مهمٍ للحياة هو الكهرباء دون انقطاع.
في مايو 2021م كشف الوزير السابق للكهرباء ماجد حنتوش، أنَّ تكلفة إنتاج الكهرباء في العراق عاليةٌ للغاية في إشارةٍ إلى عمليَّات فساد، حيث صرفت الدولة نحو 80 مليار دولار على قطاع الكهرباء منذ 2003 وحتّى مايو 2021م، كموازنة تشغيلية واستثمارية في كل مفاصل المنظومة الكهربائية، ويرى مهندس الكهرباء العراقي معن الدليمي أنَّ «من حق الناس التساؤل عن مصير تلك المبالغ الطائلة.. هل صُرفت فعلًا في خدمة قطاع الكهرباء أم أنها ذهبت أدراج رياح الفساد والمحسوبيات والهدر والصفقات المشبوهة والوهمية؟».
أوضح تقرير اللجنة البرلمانية التي ترأسها نائب رئيس البرلمان العراقي حسن الكعبي أنَّ المبالغ المالية التي صُرفت على قطاع الكهرباء خلال الـ17 عامًا الماضية قياسية، مُشيرًا إلى أنَّ هناك دولًا صرفت أقل من ربعها وتمكنت من تأمين طاقة كهربائية تتجاوز 30 ألف ميجاوات مثل مصر والمغرب.
يُعَد النفوذ الإيراني في العراق السببَ الرئيس في انتشار الفساد في مفاصل ومؤسَّسات الدولة العراقية، فقد عمدت السياسة الإيرانية إلى استبعاد الشخصيات العراقية الوطنية المؤهلة من صُنع القرار العراقي أثناء تشكيل الحكومات العراقية المتعاقبة، مقابل دعم شخصيات غير ذات كفاءة موالية لطهران وتأتمر بأمرها وتلتزم بأجندتها، وذلك لضمان استمرار النفوذ الإيراني في العراق ضمن إستراتيجية إيران التوسعية، ومِن ثَمَّ، فإنَّ محاربة الفساد بكل أنواعه في العراق تبدأ من محاربة الفساد السياسي، الذي يترتب عليه فسادٌ ماليٌ وإداري، ومحاربة الفساد السياسي تبدأ من اقتلاع جذور إيران وميليشياتها من الساحة العراقية، وهو ما يصعبُ تحقيقه خلال السنوات القليلة القادمة، ومِن هُنا تتعقد الأزمة.
- استهداف منظومة الكهرباء كورقة ضغط:
اعتادت الميليشيات الموالية لإيران وكذلك التنظيمات الإرهابية الأخرى، على استهداف منظومة الكهرباء العراقية بشكلٍ ممنهج -هدف مشترك- (ما يسمى بإرهاب الكهرباء، الذي يستهدفُ محطات توليد الكهرباء وأبراج وخطوط نقل الطاقة) إمَّا للضغط على الحكومات لتقديم تنازلات لصالحها أو لإفشالها أمام الرأي العام حتّى يستمر العراق في براثن الفوضى وعدم الاستقرار بما يتيحُ لها تنفيذ مخططاتها.
بلغ عددُ الهجمات التي استهدفت منظومة الكهرباء العراقية منذ بداية 2021م نحو 35 هجومًا، منها ما يعود لداعش بدليل إعلان التنظيم يوم 27 يونيو 2020م تبنيه الهجمات الصاروخية على محطة سامراء الحرارية لإنتاج الطاقة الكهربائية، ووقوع الهجمات في المناطق السابقة لانتشار التنظيم مثل صلاح الدين وكركوك وديالي نتيجةَ الهزائم المتلاحقة التي مُني بها التنظيم حسب خلية الإعلام الأمني العراقية.
ومنها ما يعود للميليشيات المسلحة حيث كشف مصدرٌ أمنيٌّ عراقي في 02 يوليو 2021م لشبكة أخبار العراق أنَّ ميليشيات الحشد الشعبي هي التي استهدفت الأبراج الكهربائية تنفيذًا لأوامر إيرانية لغاياتٍ سياسية واقتصادية، موضحًا أنَّ البيانات التي تصدِّرُها إيران وتحمّلُ داعش المسؤولية، غير دقيقة؛ لأنَّ جميع الأبراج التي تمَّ تفجيرها تقع في الوقت الراهن ضمن قواطع فصائل الحشد الشعبي في ديالي وكركوك وصلاح الدين والموصل، وكذلك صواريخ الكاتيوشا التي استهدفت الأبراج والمحطات تمتلكها الميليشيات.
ترتب على تفجير وتخريب العديد من المحطات ارتفاعُ ساعات انقطاع الكهرباء واعتمادُ العديد من الأهالي على مولدات الطاقة الأهلية ما أدى إلى خلق ظاهرة تُجار المولدات الصغيرة المتربّحين والمستفيدين من أزمة الكهرباء، وربما يُعَد الاستهداف المُمنهج لأبراج ومحطات الطاقة رسالةً للشركاء الجُدد من الدول الخليجية والعربية مع العراق في المجال الكهربائي بأنَّ محطاتكم لن تكون بعيدةً عن التفجيرات والتخريب؛ لدفعهم نحو إعادة النظر في مسألة مدِّهِم للعراق بالكهرباء، لتظل ورقة ضغطٍ إيرانية.
- ضعف السياسات العراقية في إدارة أزمة الكهرباء:
تفتقر وزارة الكهرباء العراقية لرؤية إستراتيجية وطنية لتعظيم الاستفادة من الموارد العراقية الكبيرة لحل معضلة الكهرباء، حيث لم تعتمد الحكومات المتعاقبة على الغاز المحلي المُتمثّل في الغاز المصاحب والغاز الحُر المتوفر لدى العراق لحل أزمة الكهرباء، وهو ما يُعَد من أبرز صور الهدر المالي والفساد في مِلف الكهرباء، حيث يشكل الغاز المصاحب للنِّفط نسبة 70% من الغاز العراقي، ورغم ذلك يتمُ إهدار أكثر من 60% منه بالحرق منذ سنوات لعدم وجود البُنية التحتية المطلوبة لاستغلاله، ومن المفارقة أنَّ العراق يحرق 10 أضعاف ما يستورده من إيران بحسب معهد «واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، ويمكنه أن يوفر نحو 75% من حاجة العراق من الغاز إذا ما تمَّ استغلاله، حيث أفاد التقرير الصادر عن «الشراكة العالميَّة للحد من حرق الغاز» التابعة للبنك الدولي (GGFR) عن العام 2020م أنَّ العراق أحد الدول الرائدة في حرق الغاز عالميًّا، حيث يصنف كثاني بلد عالميًّا بعد روسيا في إحراق الغاز المصاحب للنِّفط، وقد أشارت أرقام البنك الدولي أنَّ العراق أحرق عام 2016م نحو 17.73 مليار متر مكعب من الغاز ارتفع عام 2019م ليصل إلى 17.91 مليار متر مكعب. من ناحيةٍ أخرى، يشكّلُالغاز الحر المنتشر في ديالى وغرب الأنبار نحو 30% من الغاز المتاح للعراق، ولكن يصعب الاعتماد عليه للتكلفة العالية المطلوبة للحفر والتنقيب والاستخراج، ما يحولُ دون استثماره، وهو ما يشكّلُ هدرًا ماليًّا كبيرًا بمليارات الدولارات في الوقت الذي يستورد فيه العراق الغاز من إيران بملايين الدولارات، وقد أشارت شركة «سيمنز» الألمانية خلال 2020م أنه بإمكان العراق توفير 5 مليارات ومئتي مليون دولار تقريبًا خلال السنوات الأربع المقبلة إذا ما قلَّص نسبة الغاز المهدور بالحرق وتحقيق اكتفاءٍ ذاتي من الغاز لتشغيل محطات توليد الطاقة الكهربائية.
وقد كشف وزير الكهرباء العراقي السابق قاسم الفهداوي عن وجود أيادٍ خارجية في إشارةٍ إلى إيران وأذرعها في تعطيل لجوء العراق إلى استثمار الغاز المصاحب للنِّفط قائلًا: «إنَّ هناك صراعات رهنت استقرار تجهيز الطاقة الكهربائية بالشريان الإيراني»، مضيفًا «أنَّ وزير الكهرباء الأسبق عبدالجبار لعيبي حاول استثمار الغاز المصاحب للنِّفط في حقل نهران عمر لكنه واجه صعوباتٍ كبيرة وتحديَّاتٍ تتمثَّلُ بمصالح بعض الأحزاب السياسية والتأثير الخارجي على هذا المِلف»، مُبيِّنًا أنَّ «هذا الحقل كان بإمكانه توفير 75% من كمية الغاز القادم من إيران وبتكلفة بسيطة جدًّا».
افتقاد التنسيق بين وزارة الكهرباء المتعاقبة منذ 2003م ووزارة النِّفط العراقية، لتحديد ما يمكن الاستفادة منه محليًّا بالصورة الأمثل، فضلًا عن الهدر الكبير من الطاقة المولدة الذي يصل نحو 40% نتيجة تقادم شبكات وخطوط النقل والتوزيع للطاقة المولدة. فمِن المفارقات أنَّ قُدرة العراق الإنتاجية من الكهرباء تقترب من 32 ألف ميجاوات بينما ينتجُ فقط النصف تقريبًا (16 الف ميجاوات) لعِدَّة أسباب، بينها: تقادم شبكات النقل والتوزيع حسب تقرير لـِ «وكالة الطاقة الدولية» للعام 2019م، كما أوضح الكاظمي في مناسباتٍ عِدَّة أنَّ منظومة نقل الكهرباء تسبَّبت في فقدان 40% بالفعل من الإنتاج نتيجةَ تقادمها وتهالكها وعدم تطويرها بمنظومة نقل وتوزيع حديثة.
ثانيًا: الربط العربي والخليجي كأحد الحلول المطروحة لمعالجة الأزمة
في إطار مساعيها للتخفيف من التداعيات السلبيَّة للأزمة على المواطنين من ناحية، ووضع حلول عمليَّة لمعالجتها من ناحية ثانية، أبرمت وزارة الكهرباء العراقية خلال 2019م اتفاقيَّةً مع دول مجلس التعاون الخليجي لتزويد العراق بالطاقة الكهربائية، وقد أعلن الكاظمي عن بدء الربط الكهربائي مع دول الخليج وإنجاز بلاده نحو85% من العمل، وأنَّ الربط الكهربائي مع دول الخليج سيكتمل بحلول عام 2022م.
وفي أغسطس 2020م كشف المتحدث باسم وزارة الكهرباء العراقية أحمد العبادي عن وصول الأعمال الفنيَّة الخاصة بربط الشبكة الكهربائية مع السعودية إلى مراحل متقدمة، علمًا بأنَّ خط الربط الأول بين العراق والسعودية سيكون تُجاه البصرة، وسيزودها بنحو 500 ميجاوات، والخط الثاني سيكون تُجاه السماوة، وسيزودها بنحو 300 ميجاوات لتقليل انقطاع الكهرباء عن المحافظتين.
ويُعَد مشروع الربط الكهربائي السعودي-العراقي الذي يأتي ضمن إطار حرص المملكة على تنمية العراق وتعزيز عُمقه العروبي من أهم المشروعات التنموية البينيَّة، ويهدفُ المشروع إلى التخفيف من أزمة الكهرباء وتعزيز قدرات العراق على تلبية احتياجاته الكهربائية المتنامية، والمساعدة في تقليص معاناة العراقيين من الانقطاع الدائم للتيار الكهربائي في فصل الصيف.
أما الربط الكهربائي مع الأردن، فقد كشف المتحدث باسم الوزارة أحمد العبادي أنَّ السقف الزمني لإنجاز المرحلة الأولى من مشروع الربط الكهربائي مع الأردن يبلغ 26 شهرًا، وتوفير طاقة للمحافظات الغربية تقدَّر بـ 150 ميجاوات وستصل إلى 900 ميجاوات خلال المراحل اللاحقة، وكذلك، كشفت وزارة الطاقة والثروة المعدنية الأردنية عن توقيع اتفاقية عقد تزويد العراق بالكهرباء من الأردن، وتمَّ البدء في المرحلة الأولى من المشروع، والتي سيتمُ بموجبها تصدير 1000 ميجاوات من الأردن للعراق.
وعلى صعيد الربط الكهربائي بين مصر والعراق، كشف وزير الكهرباء والطاقة المتجددة المصري محمد شاكر الاتفاق على مشروع الربط الكهربائي أثناء القمة الثلاثية، حيث ترتبط مصر كهربائيًّا بالأردن، وكشف مصدرٌ بوزارة الكهرباء المصرية أنه سيتمُ رفع سعة خط الكهرباء مع الأردن ليصل إلى 2000 و3000 ميجاوات بدلًا من 450 ميجاوات الحالي ليصل مستقبلًا إلى العراق.
وتواجهُ التحركات الخليجية والعربية للربط الكهربائي مع العراق تحديَّ الرفض الإيراني والميليشياوي؛ لما لهذه التحركات من تأثيرٍ كبير على النفوذ الإيراني في العراق من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ ذلك يحرمُ إيران وميليشياتها من تحقيق مكاسب مادية تجنيها من احتكار تزويد العراق بالطاقة بأسعارٍ مرتفعة للغاية، حيث أشار أستاذ الاقتصاد بالجامعة العراقية الدكتور عبد الرحمن المشهداني، للفارق الكبير في فرق السعر لتصدير الوحدة الكهربائية للعراق، ففيما يستوردُ العراق من إيران بسعر 9 سنت للوحدة عرضت السعودية الوحدة تقريبًا بـ2 سنت، وهو ما يفسّرُ تعدّد زيارات المسؤولين الإيرانيين للعراق خلال الآونة الأخيرة لثنيِ العراق عن توجهاته تُجاه الدول العربية والخليجية للربط الكهربائي، ولذلك سيكون هناك متضرّرين، ومِن ثَمَّ سيواجه الربط تحدياتٍ سياسية وأمنية من هؤلاء المتضررين.
ثالثًا: الحلول البديلة المطروحة للتخفيف من الأزمة
التعاقدات العربية والخليجية السابقة للربط الكهربائي مع العراق لتزويده بالكهرباء يمكنُها أن تخفّف من حجم الأزمة عند اكتمالها على أقل تقدير بدخول صيف 2022م، ولكنها غير كافية لمعالجة الأزمة في بلدٍ يعاني نقصًا شديدًا للغاية؛ لأنَّ حجم العجز المطلوب تغطيته لمعالجة الأزمة كبيرٌ للغاية يقدَّر بنحو نصف الإنتاج تقريبًا 16 ألف ميجاوات، ومِن ثَمَّ يطرح البعض حلولًا للتخفيف من وطأة هذه المشكلة، والتي قد يتطلب تنفيذها أكثر من عامٍ على الأقل لجني ثمارها في المساهمة بمعالجة الأزمة؛ نظرًا لأسبابها ومعطياتها المعقدة، ومِن هذه الحلول:
- إعداد الحكومة خطة محددة زمنيًّا لاستخدام الغاز المصاحب للنِّفط والغاز الحُر كبديل للاعتماد على استيراد الغاز من دول الجوار، ومِن ثَمَّ إفقاد إيران ورقة الضغط التي تمتلكها، ما يستدعي تفعيل عقد شركة «سيمينز» الألمانية للاستثمار في الغاز المصاحب للنِّفط؛ لأنه الأقل تكلفة ويحتاج وقتًا أقل من مسألة بناء أنابيب لاستيراد الغاز، فعند استيراد الغاز مثلًا من دولة مثل روسيا أو كازاخستان سيتطلب ذلك تكلفةً مرتفعةً للغاية، مقارنةً بوجود الغاز في العراق.
- رفع المخصصات المالية لموازنة وزارة الكهرباء التشغيلية والاستثمارية للعام 2022م؛ للقيام بأعمال الصيانة وإصلاح الأعطال بالمحطات والأبراج العاطلة عن العمل وخطوط النقل والتوزيع المتهالكة، مع ضرورة بناء محطات جديدة تعتمدُ على الطاقات المتجدّدة والموارد المتاحة محليًّا.
- تبنِّي نهج البدائل المتعدّدة بتحويل مسألة تحقيق التوازن في العلاقات الخارجية وعدم الاعتماد على بديلٍ واحد، والخروج من طور التبعية في الموارد الحيوية لدولٍ إقليمية بعينها، والعمل على برنامجٍ حكوميٍ وطنيٍ شامل بغض النظر على التحالفات السياسية.
- التواصل مع شيوخ العشائر المؤثِّرين في المجتمع العراقي للتعاون مع الجهات الأمنية المعنيَّة بتأمين محطات وأبراج نقل الطاقة بسرعة إبلاغهم عن أية نشاطات أو تحركات مُسلَّحة تحاول استهداف محطات أبراج أو مولدات الطاقة.
- أزمة الكهرباء يدخل وراء أسبابها عِدَّة جهات حكومية، ولا تعود فقط لوزارة الكهرباء، ولذلك تظهر أهمية التنسيق بين الوزارات، مثل وزارة المالية لتوفر المخصَّصات المالية، ووزارة النِّفط لوضع خطة حول الموارد المحليَّة المتاحة، ووزارة الداخلية لتأمين الشبكة من أعمال التخريب المتكررة.
يتطلب تنفيذ بعض هذه الحلول مثل استخدام الغاز المصاحب أو امتلاك طاقة نووية كحقٍ للعراق لتوليد الكهرباء ، مُددًا طويلة للتنفيذ قد تصل من 2-4 سنوات لجني ثمارها، وكما يقول الكاظمي يوم 03 يوليو 2021م: إنَّ «كل خطوة لحل أزمة الكهرباء في العراق تتطلَّب سنوات لأنَّ العراق لم يبدأ فعليًّا بأي خطوة طوال السنوات السابقة»، مُضيفًا: «لو استثمرنا في الطاقة الشمسية لأصبحت قضية الكهرباء خلفنا ولو استثمرنا في إنتاج الغاز لصدَّرَ العراق اليوم الغاز بدلًا من أن يستورده، ولو استثمرنا في المحطات غير الغازية لأصبح العراق اليوم قادرًا على توفير الكهرباء، ولو استثمرنا في إصلاح شبكات نقل الكهرباء لما حدثت أيّ أزمة، ولو استثمرنا بالربط الكهربائي مع كلِّ جيراننا لتمكنَّا من معالجة الأزمات الطارئة وسد النقص خصوصًا في الصيف».
خاتمة
تكشفُ المعطيات السابقة أنَّ معضلة الكهرباء العراقية، والتي قدَّم بسببها العديدُ من وزراء الكهرباء العراقيين استقالاتهم منذ العام 2003م، معقدةٌ للغاية وموروثةٌ وسياسيَّة في طبيعتها بوقوف إيران وميليشياتها المُسلَّحة الموالية لها صاحبةَ الدور الأكبر في الأزمة وراء كافة أسبابها لكونها أحد أهم أوراق الضغط الإيرانية على الحكومات المتعاقبة في الساحة العراقية؛ ليظلَّ العراق تابعًا وخاضعًا للنفوذ الإيراني.
وكذلك تكشفُ أيضًا زيادة تعقُّد أزمة الكهرباء خلال فصل الصيف الحالي؛ لأنَّ معدل العجز أصبح يعادل ضعف الإنتاج تقريبًا بنحو 16 ألف ميجاوات رغم إنفاق أكثر من 80 مليار دولار على هذا القطاع الحيوي، في ظل عدم قدرة الحكومة العراقية على معالجة أسباب الأزمة على الأمد القريب والبعيد، فقد سبق استقالة ماجد حنتوش، استقالة العديد من وزراء الكهرباء دون جدوى؛ لوجود مافيا ميليشياوية إرهابيَّة تعيش وتتربَّحُ على ديمومة الأزمة، وينبغي اقتلاع جذورها لمعالجة الأزمة.
ومِن المفارقات التي كشفت عنها المعطيات السابقة أنَّ العراقيين يعيشون ساعاتٍ طويلة في انقطاعٍ للتيار الكهربائي، وعجزٍ مستمر في الشبكة الكهربائية، رغم أنهم يعيشون في بلدٍ يُعَدُ من أكبر منتجي ومصدِّري النِّفط في العالم، والثاني إنتاجًا للنِّفط في المنطقة العربية بعد السعودية، ورغم امتلاكه لمليارات المكعبات من الغاز المصاحب الذي يتمُ حرقُه والغاز الحُر، والذي كان من المفترض أنَّ العراق في ظلِّ هذه المعطيات مُصدِّرًا للكهرباء والغاز، لكنَّ الفساد والميليشيات الموالية لإيران عقباتٌ أمام ذلك.
وفي حال استمرار سيناريو التخريب والتفجير المُمنهج لمكونات منظومة الكهرباء العراقية، وتسييسها، فإنَّ من المتوقع عدمُ صبرِ المواطنين العراقيين على قادتهم، وخروجُ التظاهرات الحاشدة في مختلف المحافظات ولا سيَّما الجنوبية ذات الغالبية الشيعية للبحث عن حلولٍ عاجلة للأزمة المزمنة، في ظلِّ زيادة الطلب على الكهرباء وارتفاع درجات الحرارة لمستوياتٍ قياسية.