زارَ الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، مؤخرًا باكستان، حيث التقى برئيس الوزراء شهباز شريف، والرئيس الباكستاني آصف علي زرداري. وخلال اللقاء، ناقش الجانبان القضايا الثنائية والإقليمية ووقّعا عِدةَ اتفاقياتٍ لتعميق التعاون بين البلدين. وتأتي الزيارة في توقيت بالغ الأهمية، إذ شهدت العلاقات بين البلدين خلال السنوات الأخيرة توترًا متكرّرًا بسبب الاضطرابات الحدودية المزمنة، والمخاوف المستمرة من الجماعات المسلحة عبر الحدود.
وخلال الزيارة، تعهد الطرفان برفع حجم التبادل التجاري إلى عشرة مليارات دولار، وإحياء مشروعات الطاقة والربط الحيوي، كما شارك بزشكيان في مؤتمر الأعمال الباكستاني-الإيراني في إسلام آباد. حيث جرى الانتهاء من مسودة اتفاقية التجارة الحرة ومناقشة خطط عقد الدورة المقبلة للجنة الاقتصادية المشتركة في طهران، إلى جانب مشاريع جديدة للبنية التحتية الحدودية مثل معبر جدكي–كوهك. كذلك توصّل الجانبان إلى اتفاق مبدئي لإنشاء منطقة تجارة حرة مشتركة عند معبر ريمدان-غبد. وجرى توقيع 12 مذكرة تفاهم في قطاعات متعددة؛ شملت: «الزراعة والعلوم والتجارة والتكنولوجيا والابتكار والاتصالات وأمن الملاحة البحرية». وكان الزعيمان قد استعرضا خلال لقائهما على هامش قمة منظمة التعاون الاقتصادي في أذربيجان مطلع العام الجاري الاتفاقيات السابقة، وأكدا مجددًا أهمية تعزيز الروابط التجارية والدبلوماسية. كل تلك المحاولات المستمرة للتواصل الثنائي، وكذلك عبر المنصات المتعددة الأطراف، تعكس إصرار البلدين على الحفاظ على زخم العلاقة ودفع المصالح الاقتصادية والأمنية المشتركة في ظل التحديات الإقليمية.
ولعلَّ الجانب الأهم في هذه الزيارة كان أمن الحدود والإقليم. إذ يتشارك البلدان حدودًا بريةً تمتد لنحو 900 كيلومتر عبر إقليم بلوشستان، وهي منطقة تُعاني منذ عقود من تمرد «الانفصاليين». وقد نفّذت جماعات مسلحة مثل «جيش العدل» المتمركزة في إيران و «جيش تحرير بلوشستان» في باكستان عِدة هجمات، فيما اتهم كل طرف الآخر بإيواء جماعات «انفصالية». ففي يناير 2024م شنّت إيران غارات جوية داخل بلوشستان الباكستانية بزعم استهداف مسلحين، ما دفع إسلام آباد إلى تنفيذ ضربات انتقامية. هذه التصعيدات المتقطعة تعكس حجم الاضطرابات وانعدام الثقة، وكانت سببًا رئيسيًا في التوتر بين البلدين. وقد تعهد الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي بتحسين العلاقات مع باكستان، بيد أنَّ فترة حكمه اتسمت بالعديد من الأزمات، خصوصًا في سيستان وبلوشستان. ومنذ وصول بزشكيان إلى السلطة، شدّد على ضرورة إصلاح العلاقات الإيرانية-الباكستانية.
وبعيدًا عن الهاجس الأمني، تُثير عمليات التهريب والجرائم المرتبطة بالمخدرات عبر الحدود قلقًا مشتركًا لكل منهما، ولطالما تقاطعت مصالح طهران وإسلام آباد في التصدي لهذه التحديات، لكن محاولات الحد من التهريب في الآونة الأخيرة أثارت استياء السكان المحليين، لا سيما بسبب محدودية الفرص الاقتصادية المتاحة للسكان في القطاعات الرسمية. وغالبًا ما أعربت الحكومة الباكستانية عن قلقها إزاء تهريب الوقود الإيراني، إذ حذّر رئيس المجلس الاستشاري لشركات النفط (OCAC) في باكستان، العام الماضي من دخول ما يقرب من أربعة آلاف طن من المنتجات البترولية الإيرانية المهربة يوميًا إلى السوق، وهو ما يضر بسلسلة التوريد القانونية ويتسبب بخسائر اقتصادية جسيمة. وطالبت الهيئات الصناعية آنذاك الحكومة بتدابير عاجلة بسبب تراجع المبيعات وتضرر الأعمال، لكن تعرقل العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران من التجارة الرسمية مع باكستان، ما أدى إلى تجميد مشروعات الطاقة والتبادل التجاري.
ويُعد التعاون في مجال الطاقة من أكثر الملفات إشكالية بين البلدين. فقد ناقش الجانبان خلال زيارة بزشكيان الأخيرة سُبل إحياء مشروع خط أنابيب إيران-باكستان الذي اتُفق عليه عام 2009م. حيث أنجزت إيران حصتها من المشروع الممتدة 900 كيلومتر وافتتحته عام 2013م، فيما واجهت باكستان تحديات بفعل العقوبات الأمريكية التي أجّلت تنفيذ حصتها. وفي عام 2014م طلبت إسلام آباد مُهلة 10 سنوات لتجنّب دفع غرامات.
ومع اقتراب انتهاء المهلة في مطلع 2024م، هدّدت طهران باللجوء إلى التحكيم الدولي مطالبةً بتعويضات تصل إلى 18 مليار دولار. وردّت باكستان بالموافقة في مارس 2024م على بناء المرحلة الأولى الممتدة 80 كيلومترًا من الحدود الإيرانية إلى «جوادر». وبرغم تقاطع المصالح، من غير المرجح أن تتخذ باكستان خطوات سريعة لتعزيز التعاون في مجال الطاقة ما لم تُرفع العقوبات الأمريكية. لذا سيبقى استئناف هذه المشروعات رهنًا بمصير العقوبات.
وفي السياق الجيوسياسي الراهن، تسعى باكستان إلى تحقيق موازنة دقيقة بين تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة، والحفاظ على تعاون اقتصادي واستراتيجي عميق مع الصين، واستكشاف مجالات تعاون أوسع مع طهران. وتُدرك إيران أن لباكستان دورًا محوريًا في أي محادثات غير مباشرة أو عبر قنوات خلفية مع واشنطن، وهو ما أشار إليه مؤخرًا وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو الذي رحّب باستعداد إسلام آباد للوساطة بين الجانبين. كما أن استضافة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لرئيس أركان الجيش الباكستاني عاصم منير، في مأدبة خاصة يونيو الماضي، تعكس إعادة ضبط واقعية وانتهازية العلاقات الأمريكية-الباكستانية. وتُدرك طهران الموقع الذي تحتله باكستان في حسابات السياسة الخارجية الأمريكية ضمن المشهد الجيوسياسي الحالي، خصوصًا مع عودة إدارة ترامب للتعامل مع إسلام آباد من منظور براغماتي مصلحي.
وبالنسبة لإيران، فإن الانخراط الأمني مع باكستان يكتسب أهميةً خاصة في هذه المرحلة، لا سيما أن طهران تخشى من إمكانية استغلال الولايات المتحدة موقع باكستان في حال نشوب صراع أو تصعيد مستقبلي مع إيران. وتسعى طهران إلى الحصول على ضمانات من إسلام آباد، إلى جانب تعزيز التعاون الأمني الثنائي، كما ترغب في تجنب استنزاف موارد إضافية في إدارة التوترات الحدودية المزمنة، التي قد تخرج عن السيطرة. ومن هنا تحرص القيادة الإيرانية على بناء تفاهم واضح مع باكستان لضمان استقرار الحدود ومنع استغلالها كورقة ضغط من خصومها. وكان الاجتماع الذي جمع قادة الجيش في البلدين في مايو الماضي، قد ركّز على تعزيز أمن الحدود واستقرارها. وفي الظروف الراهنة، سيكون أي تصعيد حدودي بمثابة ضربة خطيرة للمصالح الإيرانية.
ورغم تراكم الشكوك السابقة، تبقى القدرات العسكرية الباكستانية حافزًا رئيسيًا لإيران لتعميق تعاونها مع جارتها، خاصةً في ظل القيود التي برزت في عقيدتها الدفاعية خلال حربها مع إسرائيل والإخفاقات التي واجهتها أذرعها الإقليمية. فوجود شريك دفاعي قوي ومجاور يُمثل قيمةً استراتيجية لطهران بالنظر إلى التحديات المشتركة.
وفي ظل اقتصاد متعثر وقيود خانقة بسبب العقوبات، لدى إيران مصلحة قوية في توسيع شراكاتها الاقتصادية مع باكستان؛ ولأنها دولة مجاورة، تمنح باكستان إيران ميزة القرب الجغرافي والوصول الاستراتيجي. ومن خلال الممر «الاقتصادي الصيني-الباكستاني |CPEC»، تستطيع إسلام آباد أن تُتيح لطهران الارتباط بشبكات البنية التحتية التي تقودها الصين، وهو ما يتماشى مع هدف إيران في تخفيف عزلتها والانخراط في ممرات التجارة والنقل الإقليمية الأوسع. ويكتسب ذلك أهميةً أكبر كون الصين الشريك التجاري الأكبر لكل من إيران وباكستان، كما أن انضمام إيران إلى الممر قد يفتح الباب أمام ممر تجاري–طاقي ثلاثي: الصين–باكستان–إيران، يعزز الربط الإقليمي. وبالاستفادة من بنية مُبادرة الحزام والطريق وميناء «جوادر»، يمكن للجانبين زيادة الصادرات وخفض تكاليف النقل.
ورغم العراقيل الكثيرة، يمضي البلدان قُدمًا في مسعى تحسين العلاقات انطلاقًا من احتمالية أنَّ تقاطع المصالح قد يتجاوز خلافاتهما التاريخية، ويمهّد لتعاون أمني أعمق في ظل تحولات موازين القوى الإقليمية. وفي ظل إدراك الطرفين محدودية توسعهما في الشراكات الاقتصادية في السياق الحالي، يضعان أولويةً لتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي كأساس للتعاون المستقبلي.