دلالات مناورات «زاباد 2025» في ظِل مشاركة الهند

https://rasanah-iiis.org/?p=38183

أثارت مناورات «زاباد-2025» المشتركة بين روسيا وبيلاروسيا، والتي أُقيمت في سبتمبر 2025م، توترًا حادًا على الحدود الشرقية لأوروبا، وجدّدت النقاشات الدولية حول الأمن والتحالفات وإعادة تشكّل الاصطفافات الجيوسياسية. فرغم وصفه رسميًا بأنه تدريب دفاعي لمواجهة «غزو خارجي افتراضي»، فقد وجّه التمرين رسائل إستراتيجية واضحة إلى حلف شمال الأطلسي «الناتو» والاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي بأسره، خاصةً في ظل مشاركة دول جديدة مثل الهند.

شارك في المناورات نحو 100 ألف جندي، من بينهم وحدات من «بنغلادش، وبوركينا فاسو، والهند، وإيران، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ومالي»، إضافةً إلى 1000 جندي روسي و7000 بيلاروسي. وشملت التدريبات محاكاة لهجمات نووية باستخدام منظومة صواريخ «أوريشنيك» ومنصّات «إسكندر-إم»، في إشارةٍ إلى إصرار موسكو على استعراض جاهزيتها وقُدرتها على التصعيد. وقد تابع المناورات مراقبون من «الناتو» والولايات المتحدة وتركيا والمجر، ما يعكس الأهمية العالمية التي أُحيط بها الحدث، ويؤكد أن المناورات تجاوزت نطاقها الثنائي المُعتاد.

ومن بين المشاركين، برزت الهند باعتبارها الدولة التي شاركت للمرة الأولى بشكل فعلي، بإرسالها فريقًا يضم 65 عنصرًا من قوات الجيش التابعة لفوج «كومان»، إضافة إلى عناصر من سلاحي الجو والبحرية. وتُعدّ هذه المشاركة الهندية نقطة محورية تُسلط الضوء على تنامي العلاقات الإستراتيجية بين نيودلهي وموسكو، وتُثير تساؤلات حول التوازنات الجيوسياسية في ظل الضغوط الغربية المتزايدة.

شكّلت هذه المشاركة بالنسبة لروسيا مكسبًا رمزيًا بالغ الأهمية، في ظل سعيها المستمر لاستقطاب دول الجنوب العالمي، وكسر العزلة الدبلوماسية المفروضة عليها، بسبب حرب أوكرانيا. أما الهند، فقد عكست مشاركتها توازنًا دقيقًا في سياستها الخارجية: فهي من جهة تعتمد على موسكو في نحو 60% من تسليحها، وتواجه في الوقت نفسه توترات متصاعدة مع الصين على حدودها. ومن جهة أخرى، تحرص نيودلهي على عدم الإضرار بعلاقاتها مع شركائها الغربيين، لا سيما فرض واشنطن رسومًا جمركية بنسبة 50% على السلع المرتبطة بالنفط الروسي؛ مما يزيد من تعقيد موقفها الإستراتيجي.

قدّمت نيودلهي مشاركتها على أنها محُايدة، مُركّزة على التدريب في بيئات مفتوحة ومكافحة الإرهاب، ووضعتها في إطار رؤيتها الأشمل لـ «عالم متعدد الأقطاب»، لا كاصطفاف مع روسيا ضد «الناتو». غير أن هذه المشاركة كشفت حدود النفوذ الغربي على الهند؛ إذ إن محاولات الضغط عليها قد تُضعف التعاون في ملفات أخرى وتدعم في الوقت نفسه السردية الروسية حول بناء تحالف من الشركاء غير الغربيين. والمفارقة أن الانتقادات الغربية التي وُجهت إلى الهند كانت أشدّ من تلك التي طالت مشاركة مراقبين من الولايات المتحدة وتركيا والمجر في المناورات نفسها، مما يضع علامات استفهام حول معايير الغرب المزدوجة في التعامل مع الحلفاء.

لقد زاد التوقيت والجغرافيا من حساسية «زاباد-2025»؛ إذ أُجري بالقرب من الجناح الشرقي لحلف «الناتو»، وتزامن مع اختراق طائرة مُسيّرة روسية للأجواء البولندية، ما أثار مخاوف من استفزازات هجينة. وردّت بولندا بعملية انتشار عسكرية واسعة، حملت اسم «المدافع الحديدي-25» شارك فيها 40 ألف جندي، إلى جانب إغلاق مؤقت للحدود، في إشارةٍ إلى هشاشة التوازن، واحتمال انزلاق الحوادث المحدودة إلى مواجهات أوسع. وتُضاعف بيلاروسيا من المخاطر، بحكم سيطرتها على مسارات الطاقة الحيوية المارة إلى الاتحاد الأوروبي، ما يمنحها قدرة على ممارسة ضغوط عسكرية واقتصادية متزامنة. وتكشف هذه التطورات أن الفاصل بين المناورات التقليدية والحرب الهجينة بات ضبابيًا أكثر من أي وقت مضى.

بالنسبة إلى حلف «الناتو»، شكّل التمرين تحديًا عمليًا وسياسيًا في آنٍ معًا؛ إذ حاكى سيناريوهات ضربات ضد «توغلات من الناتو»، في تشكيك مُباشر بفاعلية مبدأ الدفاع الجماعي. ويأتي هذا التحدي في وقت حرج، لا سيما وسط حالة عدم اليقين السياسي في الولايات المتحدة في عهد الرئيس ترامب، مما يضع ضغوطًا إضافية على وحدة الحلف ومصداقية التزاماته الأمنية.

ورغم أن الحلف أطلق مناورات مضادة مثل «كوادريغا 2025» في ألمانيا بمشاركة 8000 جندي، ومناورات «تاراسيس» التي نفّذتها القوة الاستكشافية المشتركة وتجاوزت «زاباد» في الحجم، إلا أن الانقسامات لا تزال قائمة:

– دول أوروبا الشرقية تُطالب بتعزيز فوري للقوات، وبأنظمة دفاع صاروخي متكاملة.

-تتحفّظ بعض الدول الغربية خشية التصعيد.

كما يواجه الحلف معضلة في سمعته؛ فبينما ينتقد مشاركة الهند، يتغاضى عن وجود مراقبين من داخل صفوفه (تركيا والمجر)، ما يُعزّز حجّة نيودلهي في الدفاع عن استقلالها الإستراتيجي في سياستها الخارجية.

وقد ركّزت المناورات بشكل ملحوظ على الدفاع الجوي والحرب الإلكترونية، ما يُعزّز قُدرات روسيا في الحرب الهجينة، ويعقّد تخطيط «الناتو» في مناطق البلطيق والشمال الأوروبي. كما يُظهر كيف تستغل موسكو تحولات الاصطفافات الدولية لبناء علاقات مع دول الجنوب العالمي. وتُجسّد مشاركة الهند هذا التحوّل بوضوح، إذ تمنحها المناورات فرصة لاكتساب خبرة عسكرية جديدة، وتُظهر استقلاليتها، وتُرسل إشارة بأنها لن تُحصر في الأطر الغربية التقليدية، حتى وإن كانت تُدرك أن هذا الخيار محفوف بالمخاطر السياسية والاقتصادية.

ولا تُشير مناورات «زاباد-2025» إلى اقتراب مواجهة عسكرية مُباشرة، بقدر ما تعكس تحولًا إستراتيجيًا في معادلات القوة. فهو يُظهر قدرة روسيا على التكيّف رغم العقوبات، ويكشف عن مواطن ضعف في الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو»، خاصةً في مجالات: (الأمن السيبراني، والتنسيق الحدودي، والدفاع الصاروخي والإلكتروني المتكامل)، وهي المجالات التي يشعُر الحلف بأنها الأكثر تهديدًا في جناحه الشرقي. في المقابل، تُسلط هذه المناورات الضوء على التحدي الذي تُمثّله مشاركة دول الجنوب العالمي، ولا سيما الهند، في معادلات الأمن الدولي، إذ يُعقّد ذلك من إستراتيجيات الغرب، ويُعيد تعريف دور القوى الوسطى في النظام العالمي الجديد. وبالنسبة للهند، جسّدت مشاركتها في مناورات «زاباد» تمسّكها بمبدأ الاستقلال الإستراتيجي، وتعزيز شراكتها مع روسيا مع إبقاء مسافة مدروسة عن الحرب في أوكرانيا. وهو ما يؤكد مكانتها المتنامية كفاعل دولي مستقل قادر على صياغة خياراته دون أن يخضع بالكامل لتوقعات الغرب. لقد أظهرت مناورات «زاباد-2025» أن المناورات العسكرية التقليدية لم تعُد بمعزل عن التكتيكات الهجينة وصراعات النفوذ الكبرى. فبإجرائه على عتبة «الناتو» ومشاركة الهند فيه للمرة الأولى، يُشير التمرين إلى عالم دولي متحوّل، تُختبر فيه التحالفات، وتكتسب الشراكات غير الغربية أهمية متزايدة، ويضيق فيه هامش الخطأ. هذه المناورات ليست بروفة لحرب وشيكة، بل عرضٌ للقوة والإرادة، وتجسيد لصلابة الموقف الروسي، وتكشف في الوقت ذاته عن التعقيدات التي تواجه خصوم موسكو وشركائها على حد سواء. وبهذا، تُشير مناورات «زاباد-2025» إلى التحولات العميقة والغامضة، التي تُعيد رسم خريطة الأمن العالمي اليوم.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير