تزداد أهمية العراق سواء من حيث استراتيجيته الإقليمية أو مستقبل استقراره ونموه في ظل تشكل تحالفات وتحولات سياسية جديدة غيرت ميزان القوى في الشرق الأوسط. وخلال فترة تداعي نظام الأسد في سوريا، شهد العراق مُناقشات وانقسامات سياسية حول ما إذا كان ينبغي إرسال دعم عسكري للأسد. داخليًا، ما زالت السياسة العراقية ساحة معركة للنفوذ الإيراني مما يؤثر على تقاسم السلطة ويعمق الانقسامات الداخلية؛ فعلى مدى العقدين الماضيين، رسخت إيران نفوذها داخل الهياكل السياسية والأمنية في العراق، وسيطرت بقوة على مختلف الجماعات المُسلحة التي تعمل إلى حدٍ كبيٍر بما يتماشى مع مصالحها، لكن مع أفول «محور المقاومة» الإيراني، أعادت العراق النظر في نهجها، ولاسيما في ظل تنسيق الدول في المنطقة جهودها لمعالجة مخاوفها الأمنية المشتركة والعمل سَويًا نحو التكامُل الاقتصادي وتغير التحالفات التي يمكن أن يُعيد تشكيل النظام الإقليمي. وفي هذا الصدد، يُواجه العراق تحدي كبير، إذ عليه أن يُثبت للولايات المتحدة والدول الإقليمية أنه يعمل على كبح النفوذ الإيراني مع تجنب المواجهة المباشرة مع طهران في نفس الوقت.
وفي هذا الصدد، ستكون الانتخابات المقبلة في العراق عامِلًا حاسمًا في تحديد كيفية موازنة بغداد لمصالحها، وتعكس بعض التطورات الأخيرة حالة الصراع المستمر على النفوذ بين الفصائل السياسية، ولاسيما دور قوات «الحشد الشعبي». وذلك بعد الأزمة السياسية في عام 2022م وانسحاب زعيم التيار الصدري مُقتدى الصدر من الساحة السياسية، إذ شكلت كتلة برلمانية شيعية ائتلاف «الإطار التنسيقي» المقرب جدًا من «الحشد الشعبي». وبهذا أصبح «الحشد الشعبي» قوًة أمنيًة وسياسية مُهمة في العراق كما يتجلى في التصاعد المطرد لمخصصاته من الميزانية، مما يسلط الضوء على قوته المؤسسية المتنامية في العراق. ومن نقاط الخلاف الرئيسية التي هيمنت على المشهد السياسي في العراق وأثارت الانقسامات داخل «الإطار التنسيقي» قانون تقاعد هيئة «الحشد الشعبي»، لأنه إن طُبق سيجبر زعيمه فالح الفياض على التنحي. وفي هذا المسعى، يقود ائتلاف «دولة القانون» بزعامة نوري المالكي و«عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي الجهود الرامية إلى فرض القانون؛ فيما قام فياض مؤخرًا بزيارة طهران، حيث التقى وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي.
يعكس الخلاف على رئاسة فلاح فياض لـ «الحشد الشعبي» انقسامات عميقة داخل «الإطار التنسيقي» على عدة مسائل متشابكة، لاسيما السعي لمزيد من السُلطة وطبيعة علاقة العراق بإيران. وفي الجانب الآخر، حثَّ رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في مؤتمر «الحوار الدولي» الذي عُقد مؤخرًا في بغداد، على الحوار من أجل تحقيق الاستقرار الإقليمي ووعد بحياد العراق، كما أشار زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، إلى عودته السياسية، وحثَّ أنصاره على تحديث سجلات الناخبين، ومن الممكن أن يُشكل ترشح الصدر، الذي يؤكد على القومية والتحالف مع السنة والأكراد، تحديًا لـ «الإطار التنسيقي»، لذلك اقترح المالكي مؤخرًا التحالف مع التيار الصدري، رغم أن بعض الزعماء رفضوا هذا الاقتراح بسرعة.
وقال وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، مؤخرًا إن من غير المقبول عمل جماعات مسلحة خارج نِطاق سُلطة الحكومة، وذلك في محاولة منه لطمأنة واشنطن في ظِل تصاعُد مخاوفها بشأن قدرة بغداد على كبح جماح هذه الجماعات، لاسيما بعدما كثفت قوات «الحشد الشعبي»، في السنوات الأخيرة هجماتها التي استهدفت المصالح الأمريكية في العراق، لذا حثت إدارة ترامب بغداد على تفكيك قوات «الحشد» أو دمجها في قوات الأمن العراقية، لكن السوداني رفض هذا الطلب سابقًا، وأكد المالكي في مقابلة أجريت معه أن «قوات الحشد الشعبي لا يمكن تفكيكها»، مُشيرًا إلى أهميتها في الحفاظ على الأمن. وقد حذرت إدارة ترامب العراق من أن الفشل في طمأنتها من هذا الملف قد يُؤدي إلى فرض عقوبات وتدابير عقابية أخرى من شأنها أن تُؤدي إلى تفاقُم الصعوبات الاقتصادية التي تواجه العراق. وفي ظل التطورات الأمنية والسياسية الإقليمية والقيود الداخلية، من الصعب على الحكومة العراقية اتخاذ إجراءات حاسمة ضد قوات «الحشد الشعبي» دون المُخاطرة بزعزعة الاستقرار السياسي وإثارة ردود أفعال عنيفة من الفصائل الشيعية النافذة في الساحة العراقية. بالإضافة إلى ذلك، أصبح موقف العِراق من الصراعات الإقليمية قضيًة خلافية داخل الحكومة العراقية، كما يتضح من ردود أفعال بعض القادة في العراق، مثل المالكي الذي دعا للتدخل في سوريا، حيث أثار انتقادات بسبب خطابه الطائفي.
وأثرت التطورات في سوريا بشكل كبير على العراق، لذلك على العراق أن تَصطف بجانبها وأن تتصرف بسرعة للحيلولة دون نشوب أزمة سياسية طويلة. وفي الوقت نفسه، تَزيد تُركيا من ضغوطِها على العراق فيما يتعلق بحزب «العمال الكردستاني»، إذ يسعى أردوغان إلى تأمين تعاون أوسع مع حكومة «إقليم كردستان». وقد أثار نفوذ تركيا في سوريا ومحاولاتها لتعزيز نفوذها في المنطقة مخاوف بين المسؤولين العراقيين، ولاسيما فيما يتصل بالعمليات العسكرية التي تنفذها أنقرة وطموحاتها الإستراتيجية على المدى البعيد، كما يُواجه العراق تحديًا يتمثل في قُدرته على موازنة علاقاته مع تركيا مع معالجة التحديات الأمنية المستمرة في المنطقة.
ومع عودة إدارة ترامب إلى سُدة الحكم، تفاقمت المخاطر التي تواجه العراق، لاسيما بعدما كثفت الولايات المتحدة من جهودها للحد من نفوذ إيران من خلال إلغاء إعفاء العراق لاستيراد الغاز والكهرباء من إيران. وقد أصدرت واشنطن أمرًا تنفيذيًا بهدف اتخاذ خطوات فورية «لضمان عدم استخدام إيران للنظام المالي العراقي للتهرب من العقوبات أو التحايل عليها». والجدير بالذكر هنا، أن العراق يعتمد على إيران في تأمين احتياجاته من الكهرباء، لذلك وفي ظل هذا القرار، من المتوقع أن تتفاقم أزمة الطاقة في العراق. وتضغط واشنطن على العراق لكبح تهريب النفط الإيراني واستئناف صادرات النفط من إقليم كردستان الذي توقف منذ عام عام 2023م بعدما أغلقت تركيا خط الأنابيب مع العراق إثر حكم المحكمة الجنائية الدولية. وخولت الحكومة العراقية شركة تسويق النفط الحكومية «سومو» بإدارة الصادرات النفطية، لكن لا تزال الخلافات قائمة مع حكومة إقليم كردستان بشأن المدفوعات والتسعير، ولم تؤكد تركيا بعد استعدادها لإعادة فتح خط الأنابيب. وفي الوقت نفسه، حذر رئيس وزراء إقليم كردستان مسرور بارزاني من الانسحاب الأمريكي الكامل، وهو موقف يتعارض مع قوات «الحشد الشعبي» وكذلك العديد من الفصائل داخل «الإطار التنسيقي».
تستخدم القوى الإقليمية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات وقطر نفوذها الدبلوماسي والاقتصادي في ظل التحولات التي تشهدها المنطقة، وعلى الرغم تقارب العراق الوثيق مع دول الخليج في العامين الماضيين، لكن مازالت المخاوف ماثلًة بشأن النفوذ الإيراني في العراق. ونظرًا لإدراك العراق حجم المخاطر المترتبة على العقوبات الأمريكية، ناهيك عن العُزلة الإقليمية، أعطى الأولوية لتوطيد علاقاته مع الجهات الفاعلة الإقليمية وتعزيز التعاون مع الغرب في الوقت نفسه. وهنا تعكس زيارة السوداني الأخيرة إلى لندن وتعزيز العلاقات مع المملكة المتحدة من خلال التجارة والاستثمار والتعاون الأمني محاولات بغداد للمُضي قدمًا نحو المشاركة البناءة مع أوروبا، لكن ما تزال مخاوف المستثمرين المستمرة والتوترات السياسية الداخلية والمخاطر الأمنية تُقيد مساعي بغداد في هذا المضمار. يعتمد مستقبل مسار العراق السياسي على قدرته على التعامل مع الضغوطات الإقليمية مع الحفاظ على استقراره الداخلي، وستمثل الانتخابات المقبلة ومصير قوات «الحشد الشعبي» مؤشرات رئيسية حول الاتجاه الاستراتيجي لبغداد، وسوف تختبر ما تشهده القوى الإقليمية من ترتيبات في اصطفافاتها قُدرة العراق على تأكيد استقلاليته. ومع تصاعُد التوترات الجيوسياسية، سيكون لقرارات بغداد في الأشهر المقبلة آثار طويلة الأجل على مستقبله ودوره في الشرق الأوسط.