قراءة في اتِّفَاق وقف إطلاق النار في غزة

https://rasanah-iiis.org/?p=37095

مقدِّمة

توصَّلت إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية «حماس»، ممثِّلةً عن فصائل المقاومة الفلسطينية، في 15 يناير 2025م إلى اتِّفَاق لوقف إطلاق النار، بوساطة أمريكية-مصرية-قطرية، ويبدأ اختبار تنفيذ الاتِّفَاق صباح الأحد 19 يناير، عبر عِدَّة إجراءات مُتبادَلة تسمح بوقف مؤقَّت إطلاق النار، وتبادُل الأسرى، وتراجُع إسرائيل عن تمركزاتها في قطاع غزة. ويأتي وقف إطلاق النار بعد خمسة عشر شهرًا من القتال الدامي غير المسبوق في تاريخ الصراع مع إسرائيل، الذي راح ضحيته ما يقارب خمسين ألفًا من الفلسطينيين، فضلًا عن تدمير شامل لقطاع غزة، ناهيك بتأثيراته الإقليمية الممتَدَّة، التي شملَت لأول مرة ساحات مختلفة وفاعلين جُدُدًا لم يسبق لهم خوض المواجهة على هذا النحو مع إسرائيل، الأمر الذي كاد يضع المنطقة على شفا حربٍ إقليمية واسعة النطاق. فكيف يمكن قراءة هذا الاتِّفَاق، وقراءة تداعياته وإشكالياته؟

أولًا: السياق وملامح الاتِّفَاق

جاء الاتِّفَاق بعدما باء عديد من المحاولات بالفشل، بسبب إصرار حكومة بنيامين نتنياهو على تأمين انتصارٍ حاسم على فصائل المقاومة، وتفكيك قُدرتها على تهديد إسرائيل مرَّةً أخرى، إضافة إلى استشعار الفُرصة التاريخية السانحة في ظل الدعم الأمريكي غير المسبوق من أجل تغييرٍ جوهري في مسار القضية الفلسطينية، في ظل تأييدٍ شعبي واسع النطاق لتوجُّهات اليمين الحاكم، فضلًا عن رغبة نتنياهو في حماية ائتلافه الحاكم من التفكُّك، وبالتالي انهيار الحكومة واحتمال تعرُّضه للمساءلة، سواء لجرائم الفساد المتّهَم بها هو وزوجته، أو توجيه الاتّهامات له بالمسؤولية والإهمال عن هجوم السابع من أكتوبر، الذي شنّته «حماس» وفصائل المقاومة الفلسطينية.

في المقابل، رفضت حركة «حماس» جميع المبادرات السابقة لوقف إطلاق النار، إذ جعلت من قضية الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة مسألة جوهرية، فضلًا عن التمسُّك بنقاط محدَّدة في ما يتعلَّق بعملية تبادُل الأسرى، وهو الأمر الذي كانت ترفضه إسرائيل مستندةً إلى تفوُّقها العسكري الهائل والضغط بورقة استهداف المدنيين، وعدم فاعلية الضغوط الدولية، لا سيّما الأمريكية، على الرغم من الخسائر الإنسانية الهائلة الناجمة عن هذا الصراع.

لكن بعد جهودٍ من جانب قطر ومصر والولايات المتحدة، جرى الوصول إلى اتِّفَاق متعدِّد المراحل، ولم يُعلَن حتى الآن سوى عن تفاصيل المرحلة الأولى، وتبلغ مدَّتها 42 يومًا، مع وجود ضمانات من الوسطاء بالضغط لأجل الوصول إلى المراحل التالية. وتتضمَّن المرحلة الأولى ما يأتي:

1. وقْف إطلاق النار مؤقَّتًا، بما في ذلك تعليق النشاط الجوِّي الإسرائيلي للأغراض العسكرية والاستطلاع في قطاع غزة بمعدل 10 ساعات يوميًّا، و12 ساعة في أيام إطلاق سراح المحتجزين والأسرى، كما يتضمَّن الاتِّفَاق تفكيك المنشآت العسكرية بالكامل داخل القطاع.

2. انسحاب قوّات الاحتلال الإسرائيلي شرقًا، وبعيدًا عن المناطق المأهولة بالسُّكّان، مع التمركُز على بعد 700 متر داخل الحدود، اعتمادًا على حدود ما قبل 7 أكتوبر، وخفْض القوّات بمحور فيلادلفيا، وفقًا للخرائط التي اتّفق عليها الجانبان.

3. تبادُل الأسرى، إذ ستُفرِج إسرائيل في المرحلة الأولى عن نحو 2000 أسير، بينهم 250 من المحكومين بالسجن المؤبَّد، ونحو ألف من المعتقلين بعد 7 أكتوبر 2023م، وستُفرِج «حماس» عن 33 أسيرًا يوزَّع الإفراج عنهم على مدار المرحلة الأولى، بما يمثِّل ضمانة مهمَّة ومسارًا متوازيًا بين عملية الإفراج وتنفيذ بنود المرحلة على الأرض.

4. عودة النازحين إلى مناطق سكنهم، وذلك بعد انسحاب القوّات الإسرائيلية من وادي غزة، ومنحهم حرِّية التنقُّل داخل القطاع.

5. فتْح معبر رفح، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، بما في ذلك منطقة شمال القطاع، كما تضمَّن الاتِّفَاق عديدًا من البنود والتفاصيل الخاصَّة بالجدول الزمني لتنفيذ عملية التبادل والانسحاب، فضلًا عن التزام إسرائيل الانسحاب الكامل من القطاع قبل مرور 50 يومًا من بدء التنفيذ.

ثانيًا: أدوار حاسمة

لا شكَّ أنَّ الولايات المتحدة قد لعِبَت دورًا حاسمًا في الوصول إلى الصفقة الحالية، بما في ذلك إدارة جو بايدن أو إدارة دونالد ترامب القادمة، فبايدن قدَّم خُطَّته لوقف إطلاق النار في مايو من العام الماضي 2024م، وعكفت إدارته على متابعة عِدَّة جولات بين القاهرة والدوحة من أجل الوصول إلى صفقة. ويقول بايدن إنَّه جرى التوصُّل إلى الاتِّفَاق بموجب «الخطوط العريضة الدقيقة» للخُطَّة، التي وضعها في أواخر مايو، كما يدّعي بلينكن أن الدعم الذي قدّمته إدارة بايدن لإسرائيل أسهم في الضغط على «حماس» وصولًا إلى قبول الاتِّفَاق.

من جانبه، حاول ترامب أن ينسب النجاح إلى نفسه في الوصول إلى الصفقة، استنادًا إلى تهديداته بـ«الجحيم» للمنطقة و«حماس» في حال عدم الوصول إلى اتِّفَاق قبل موعد تَسلُّمه السُّلْطة في 20 يناير 2025م، وكذلك ضغوطه على إسرائيل عبر مبعوثه إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، الذي شارك في المفاوضات الأخيرة، وزار إسرائيل وضغَطَ على نتنياهو من أجل قبول الصفقة. وبصرف النظر عن هذه المناكفة الحزبية، فإنَّ الاتِّفَاق في النهاية يُشير إلى الدور الفاعِل للولايات المتحدة.

كمالعِبَت مصر وقطر دورًا فاعلًا في الوصول إلى الصفقة الحالية، ويُعتبَر هذا الاتِّفَاق ترجمة للجهود التي بذلتها الدولتان على مدار 15 شهرًا منذ اندلاع الصراع. وتستنِد مصر في هذا الدور إلى دورها في الصراع، بحُكم موقعها الجغرافي وارتباطاتها بالقطاع، وأهمِّية القضية الفلسطينية كقضية تخُصّ الأمن القومي المصري بالأساس، وترتبط باتِّفَاقات سلام مع إسرائيل من جانب آخر. كذلك تكتسب قطر أهمِّيتها في ظل دورها في النزاعات الإقليمية، وارتباطاتها بحركة «حماس» والفصائل الفلسطينية، ولا يزال لدي البلدين دور في إنجاح هذه الصفقة، حيث تضمَّن الاتِّفَاق تشكيل لجنة مصرية-قطرية تشرف على عودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله.

ومع أهمِّية أدوار القُوى الخارجية في الأزمة، فلا يفوت التنويه بأنَّ قناعات طرفَي الصراع قادت إلى هذا الاختراق، فإلى جانب فِقدان سياسة كسْب الوقت، التي تابع نتنياهو فاعليتها، تَأكَّد لدى الجانب الإسرائيلي صعوبة تحقيق أهداف إسرائيل من خلال استمرار الحرب، إذ بلغت ضغوط عائلات الأسرى الإسرائيليين ذروتها، وفي الوقت نفسه فشِلَ نتنياهو وحكومته في إنقاذ أيٍّ من هؤلاء الأسرى عن طريق استمرار الحرب، كما أصبحت أزمة داخلية وتكلفة اقتصادية تهدِّد المجتمع الإسرائيلي، فضلًا عن تآكُل الصورة عالميًّا، والضغوط الشعبية من أجل وقْف صادرات السلاح إلى إسرائيل.

من جانبها، وجدت حركة «حماس» بجانب الأزمة الإنسانية المتفاقِمة، والرغبة في التقاط الأنفاس واستعادة ترتيب أوضاعها التنظيمية والميدانية، فُرصةً قبل قدوم ترامب، من أجل الوصول إلى صفقة تحقِّق أهمّ أهدافها، وهو وقْف الحرب، خصوصًا أنَّ «حماس» تُدرِك جَدِّية تهديد ترامب وانحيازه وإدارته المُطلَق إلى إسرائيل، وما قد يرتِّبه ذلك من سياسات لا يمكن توقُّعها.

ثالثًا: ردود الفعل على الاتِّفَاق

أحدَثَ الاتِّفَاق ردود فعل واسعة النطاق، لأنَّه يمكن أن يكون نقطة تحوُّل مهمَّة في الصراع، الذي كانت له تأثيراته الكبيرة في الساحتين الإقليمية والدولية. ويمكن تقسيم ردود الفعل إلى اتّجاهين رئيسيين، يوضِّحان حسابات المكسب والخسارة للأطراف المرتبطة بالأزمة:

1. الاتّجاه الأول: المرحِّبون بالاتِّفَاق

يأتي في مقدِّمتهم الفلسطينيون، الذين تَكبَّدوا خسائر غير مسبوقة منذ بداية الحرب، ولم تتوقَّف فيهم آلة القتل والتدمير، حتى لم يعُد القطاع مكانًا آمِنًا للعيش. مِن ثمَّ انطلق أهالي القطاع بعد الإعلان عن الوصول إلى الاتِّفَاق في شوارع غزة المُهدَّمة من أجل الاحتفال، لأنَّ هذا الاتِّفَاق يقف آلة القتل والتدمير، ويمنحهم الأمل في العودة إلى مناطقهم، وإدخال المساعدات في ظل انتشار الجوع والفقر، ويفتح الباب أمام إعادة الإعمار، والأهمّ انسحاب القوّات الإسرائيلية من القطاع، وهو ما قد تصوِّره الفصائل الفلسطينية والتيّار المحسوب عليها على أنَّه انتصار، الأمر الذي يفسِّر احتفالها وترحيبها بالاتِّفَاق، إذ تعتبِر الفصائل هذا الاتِّفَاق ثمرة لصمود الشعب الفلسطيني ولتضحياته. وشارك الفلسطينيين ترحيبهم بوقف الحرب قطاعاتٌ شعبيةٌ في عدد من دول المنطقة والعالم، إذ نُظَّمت مظاهرات احتفالية في بريطانيا والمغرب والأردن وتركيا، وعددٍ من دول المنطقة.

يشارك الفلسطينيين في هذا الترحيب قطاعٌ يُعتَدّ به من الجمهور الإسرائيلي، من بينهم أهالي الأسرى الذين فتَحَ الاتِّفَاق الباب أمام عودتهم، فضلًا عن اليسار المناهِض لنتنياهو وحكومته المتطرِّفة، والذي قد يستفيد من وقْف الحرب، من أجل فتْح ملف محاسبة نتنياهو وحكومته على الإخفاق في مواجهة السابع من أكتوبر، فضلًا عن الاستفادة من التصدُّع المُحتمَل لحكومة نتنياهو، واحتمال انهيارها وإجراء انتخابات مبكِّرة قد تُعيد المعارضة إلى السُّلْطة. بالإضافة إلى تلك الأطراف المباشرة المرتبطة بالأزمة، لقِيَ الاتِّفَاق ترحيبًا إقليميًّا ودوليًّا، إذ رحَّبت به القُوى الإقليمية، لأنَّه يفتح الأُفُق أمام حل أزمة كادت تعصف بالأمن والاستقرار الإقليمي، كما لقِيَ صدىً على الصعيد العالمي، في ظل الاهتمام الكبير بهذا الصراع على الصعيدين الرسمي والشعبي.

ولقِيَ الاتِّفَاق أيضًا ترحيبًا من القُوى الإقليمية، في مقدِّمتها السعودية، التي بذلت جهودًا كبيرة لاحتواء هذا الصراع، وبذلت جهودًا مضنية من أجل الضغط على إسرائيل والولايات المتحدة لوقف الحرب، إذ رحَّبت المملكة بالاتِّفَاق، وثَمَّنت الجهود التي بذلها الوسطاء، وشدَّدت على ضرورة التزام الأطراف الاتِّفَاق، وأكدت أهمِّية أن يقود هذا الاتِّفَاق إلى معالجة جذرية للصراع، وتمكين الشعب الفلسطيني الشقيق من حقوقه، وفي مقدِّمتها قيام دولته الفلسطينية المستقِلَّة على حدود عام 1967م وعاصمتها القدس الشرقية.

2. الاتّجاه الثاني: المستاؤون من الاتِّفَاق

يبدو أنَّ حكومة إسرائيل تعرَّضت لضغوطٍ كبيرة من أجل الوصول إلى هذا الاتِّفَاق، وهو ما ظهَرَ من ردّ فعل رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي لم يظهر للجمهور من أجل الإعلان عن الاتِّفَاق، كما أنَّه اضطُرّ تحت وطأة الضغوط الأمريكية إلى الضغط على المتطرِّفَين في حكومته، بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، من أجل قبول الصفقة، على الرغم من عدم رضاهم عن ذلك. فوزير المالية سموتريتش، وصفها بأنَّها «صفقة سيِّئة وخطيرة على الأمن القومي لدولة إسرائيل»، كما قال عنها عضو الكنيست من حزب الصهيونية الدينية تسفي سوكوت، إنَّها «صفقة كارثية»، وهي استسلام إسرائيلي لـ«حماس»، وأضاف أنَّها ستكون سببًا لانسحابهم من الحكومة. ويبدو أنَّ لدي اليمين الإسرائيلي عمومًا خيبة أمل، إذ نظَّم مناصروه مظاهرات ضدّ الاتِّفَاق، وأغلقوا مدخل مدينة القدس المحتلَّة، خصوصًا أنَّ هذا التيّار كان يعوِّل على قدوم ترامب للحصول على ضوء أخضر من أجل تنفيذ سياساتهم العنصرية تجاه الفلسطينيين في القطاع، وفي مجمل الأراضي الفلسطينية، بل وفي المنطقة ككُلّ، لكن يبدو أنَّهم أُصيبوا بخيبة أمل كبيرة بعد توقيع الاتِّفَاق.

رابعًا: تداعيات وإشكاليات

على الرغم من أنَّه تأخَّر كثيرًا بسبب استغلال إسرائيل ظروف الانتخابات الأمريكية وتلاعُبها بالحزبيْن والمرشَّحَيْن، فإنَّ الاتِّفَاق في النهاية يمثِّل نجاحًا دبلوماسيًّا أمريكيًّا، ويؤكِّد فاعلية الدور الأمريكي في الشرق الأوسط، ورُبَّما محدودية الدورَين الروسي والصيني. فبحسب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أدرك حُلفاء أمريكا وشركاؤها، بخاصَّة في الشرق الأوسط، على مَن يمكنهم أن يعتمدوا للوقوف معهم، وعلى مَنْ لا يمكنهم، أي القُوى التي تعمل على نزْع فتيل الأزمات، والقُوى التي تقِف مكتوفة الأيدي ولا تفعل شيئًا أو تزيد المشكلات تعقيدًا.

كما يصُبّ الاتِّفَاق في مصلحة ترامب، ويرفع عن كاهله أزمة حادَّة قبل تَسلُّمه السُّلْطة، كما أنَّ استخدام نفوذه في هذا الاتِّفَاق سيُظهِر قوَّة تأثيره، ورُبَّما توظيفه لأجل مزيد من المكاسب على الصعيد الدولي، بما في ذلك دفْع عملية التطبيع الإسرائيلي-السعودي قُدُمًا، وتغيير المشهد في المنطقة لصالح الولايات المتحدة، ورُبَّما الاستفادة منه في دفْع عملية السلام بين روسيا وأوكرانيا، ناهيك بأنَّه يُرضِي غرور ترامب، ويدعم سياسة السلام من خلال القوَّة، التي يتبنّاها على الصعيد العالمي.

ومع أنَّ إسرائيل ألحقت ضررًا كبيرًا بفصائل المقاومة الفلسطينية، لا سيّما «حماس»، بما في ذلك استهداف قياداتها التاريخية والسياسية والميدانية، فإنَّها فشلت في تمرير مشروع التهجير الذي كانت تتبنّاه بحقِّ الفلسطينيين، وفشلت في القضاء النهائي على المقاومة، وفشلت عسكريًّا في احتلال شمال غزة وتهجير سُكّانه نحو الجنوب وفرْض أمرٍ واقع جديد على القطاع.

ولا شكَّ في أنَّ الاتِّفَاق خلَقَ بين إسرائيل و«حماس» فُرصةً لوضْع حدٍّ للحرب الدائرة على قطاع غزة، ووضع حدٍّ لتفاقُم الأزمة الإنسانية غير المسبوقة في التاريخ المعاصر. كما قد يكون الاتِّفَاق بداية النهاية لتاريخ نتنياهو السياسي، بل لتَراجُع هيمنة اليمين الإسرائيلي على السُّلْطة، وتراجعهم عن توجُّهاتهم الراديكالية الخاصَّة بالقضية الفلسطينية، وتصوُّراتهم لأمن المنطقة ولمستقبل الشرق الأوسط، الأمر الذي قد يفتح الأُفُق أمام حكومة أكثر تَفهُّمًا وانفتاحًا على المبادرات الإقليمية والدولية القائمة على التنمية والعيش المشترك، بدلًا من الإملاءات الأيديولوجية التي تغذِّي التوسُّع والصراعات.

أما «حماس» وفصائل المقاومة، فستواجه تحدِّيًا في إدارة القطاع، في ظلّ محاولات الدفع بسُلطة جديدة من أجل إدارة القطاع. هذه السُّلْطة سيكون همّها هو السيطرة على الفصائل وعلى السلاح، لكن مع ذلك الاتِّفَاق يبقى لـ«حماس» والفصائل أمل في المعادلة الفلسطينية، إذ فشلت الحملة الإسرائيلية المدعومة أمريكيًّا في استئصال هذه القُوى والقضاء عليها نهائيًّا، وقد تتمكَّن هذه الفصائل، من خلال قُدرتها التنظيمية الفائقة وتغلغُلها الشعبي في غزة، من الاحتفاظ بسُلطةٍ ما في إدارة القطاع في مرحلة ما بعد الحرب، ورُبَّما إعادة تأهيل قُدراتها.

وقد يقود الاتِّفَاق إلى مرحلة من الاستقرار والهدوء، لن يقتصر صداها على الأراضي الفلسطينية بما في ذلك إمكانية تحريك ملفّ التسوية، لكنَّه أيضًا سيُسهِم في وضْع حدّ للصراع الأوسع في الشرق الأوسط، بما في ذلك الهجمات التي يشنّها الحوثيون على الناقلات في البحر الأحمر.

بهذا، فقد يكون الاتِّفَاق رافعة لاستعادة الهدوء والاستقرار الإقليمي، كما سيُزيل الضغوط على حركة الشحن عبر البحر الأحمر بما يُسهم في إعادة تدفُّق حركة التجارة، إذ تَضرَّر بعض الدول جرّاء هذا التصعيد، كمصر التي تراجعت فيها عوائد قناة السويس تحت تأثير هجمات الحوثيين، كما تكبَّدت الشركات تكاليف إضافية جرّاء استخدام مسارات بديلة حول القارة الإفريقية، ناهيك بالأضرار البيئية نتيجة غرق ناقلات النفط بسبب الاستهداف.

لكن مع ذلك يبقى بعض الإشكاليات التي قد تعرقل فاعلية هذا الاتِّفَاق، منها:

1. غياب الضمانات: لم يحدِّد الاتِّفَاق تفاصيل المرحلتين الثانية والثالثة من الاتِّفَاق، ولا يضمن تنفيذها، واكتفت الأطراف (الولايات المتحدة ومصر وقطر) بتقديم ضمانات شفهية لـ«حماس» بأنَّ المفاوضات سوف تستمِرّ، وأنَّ الأطراف الثلاثة ستضغط للتوصُّل إلى اتِّفَاقٍ من شأنه أن يشهد تنفيذ المرحلتين الثانية والثالثة، قبل انقضاء فترة أوّلية مدَّتها ستَّة أسابيع.

2. الوقف المؤقَّت لإطلاق النار: لا يقضى الاتِّفَاق بالوقف الفوري لإطلاق النار، ولا يعني وَضْع نهاية حاسِمة للحرب، بل سيختبر الطرفان فُرَص إنهاء الحرب خلال مراحل تنفيذ الاتِّفَاق، وهو ما يعني وجود احتمال للتراجع، خصوصًا أنَّ إسرائيل أصرَّت على عدم تقديم أيّ ضمانات مكتوبة تمنع استئناف هجماتها بمجرَّد انتهاء المرحلة الأولى وعودة أسراها المدنيين. وقد ظهر بعض المؤشِّرات على ذلك، إذ واصلت إسرائيل هجماتها على سُكّان القطاع، كما اتّهم مكتب نتنياهو «حماس» بالتراجع عن أجزاء من الاتِّفَاق، وحتى دخول الاتِّفَاق حيِّز التنفيذ تظهر إشكاليات، إذ تستمِرّ الهجمات الإسرائيلية على سُكّان القطاع، وهو ما قد يؤدِّى إلى انهيار الاتِّفَاق في أيّ لحظة.

3. الانسحاب المؤجَّل: لم يحدِّد الاتِّفَاق وقتًا محدَّدًا لانسحاب إسرائيل من القطاع بما يسمح بعودة النازحين، وهو ما قد يخلق إشكاليات أمنية، ورُبَّما تراجُعًا من جانب إسرائيل، التي كانت لديها خُطَط من أجل تغيير الوضع في القطاع إلى الأبد.

4. مستقبَل الحُكم في القطاع: ولم يُتوصَّل إلى اتِّفَاق حتى الآن بشأن من سيتولَّى إدارة غزة بعد وْقف إطلاق النار. وقد ضغطت الولايات المتحدة من أجل تشكيل نسخة معدَّلة من السُّلْطة الفلسطينية، لتتولَّى هذه المهمَّة. ويوجد موقف دولي وإقليمي، فضلًا عن موقف إسرائيلي حاسم، بشأن إحداث تغيير جوهري في السُّلْطة في القطاع، الأمر الذي تنتهي معه سيطرة الفصائل المسلَّحة، بما في ذلك «حماس». وهذا أمرٌ يواجه تحدِّي قوَّة الفصائل على الأرض، واحتفاظها ببعض قُدراتها، التي قد تمكِّنها من السيطرة على القطاع.

5. قضية إعادة الإعمار: في ظلّ سيطرة الفصائل، تظَلّ مسألة إعادة الإعمار عملية معلَّقة، لأنَّ إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة رُبَّما لن تسمح بأيّ جهود للإعمار، في ظل سيطرة «حماس» على القطاع، خشية أن تذهب المساعدات المخصَّصة لعملية الإعمار في إعادة بناء الفصائل المسلَّحة لقوّتها العسكرية وقُدراتها القتالية.

6. نيات حكومة نتنياهو: تتبنَّى حكومة نتنياهو المتطرِّفة مشروع استيطان استعماريًّا، وليس من المتوقَّع أن تلتزم بقية مراحل الاتِّفَاق، إذ تتعارض شروط الاتِّفَاق مع المواقف المُعلَنة لعديد من أعضاء اليمين المتطرِّف في حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التي يعتمد عليها للحصول على الدعم، فضلًا عن مواقف نتنياهو السابقة، التي استخدم فيها مرارًا وتكرارًا وجود «حماس» في غزة لإطالة أمد الصراع.

7. الغموض المحيط بتسوية القضية الفلسطينية: سؤال ما بعد الحرب في غزة معلَّق، فلا إسرائيل غيَّرت رأيها بشأن القضية الفلسطينية ومسألة الدوليتين، ولا الدول العربية تنازلت عن شروطها وعن التمسُّك بالمبادرة العربية، ومن ثمَّ فإنَّ أحد العوامل، التي تدفع مسار وقْف إطلاق النار قُدُمًا، هو وجود مبادرة شاملة من أجل السلام. لكن شروط ذلك الأمر ليست متوفِّرة، وهو ما قد يجعل الصراع أكثر احتمالًا من التسوية والتهدئة، خصوصًا في ظل المساعي الإسرائيلية لتوسيع الاستيطان في الضفة وضمّ مزيد من الأراضي، والانتهاكات بحقِّ المسجد الأقصى، ومحاولة تكريس أمر واقع جديد.

8. إزالة الآثار المادِّية والنفسية للعدوان: على مدار 15 شهرًا من الإبادة، أصبحت غزة مدمَّرة بالكامل، واختفت أُسَر وعائلات بأكملها من السِّجِلّات، فأجزاء كبيرة من القطاع لا تصلُح للسكن، بعد تدمير ما يقرُب من 80% من مساكنها، في ظلّ غيابٍ كامل للخدمات، من مياه وصرف صحي وكهرباء ووقود، ولا مدارس ولا جامعات ولا خدمات صحية، يأتي كل هذا مع انتشار الأمراض والأوبئة. من ثمَّ فإنَّ التحدِّي الأكبر هو كيفية إعادة تأهيل القطاع للحياة، لا على مستوى البنية التحتية وحسب، لكن نفسيًّا وإنسانيًّا بعد هذه المأساة الكُبرى.

خلاصة

مثَّل اتِّفَاق وَقْف إطلاق النار انتصارًا للدبلوماسية، وإخفاقًا لرغبة إسرائيل في تسوية الأزمة الفلسطينية من خلال الحرب والإبادة والتهجير. ويتوفَّر عديد من العوامل التي تدعم نجاح هذا الاتِّفَاق، بما في ذلك الإرادة الأمريكية، التي تجسَّدت في إدارتَي بايدن الراحلة وترامب القادمة، الأمر الذي يعني وقوف الحزبين بثقلهما خلف هذا الاتِّفَاق، وبما يضمن فاعليته. ولا تفوت الإشارة إلى عامل مهمّ، هو رغبة ترامب في أن يعزِّز هذا الاتِّفَاق رأسماله السياسي، وإظهار قوَّته العالمية، فضلًا عن رغبة واشنطن في التخلُّص من عبء الأزمة، التي أثَّرت سلبًا في صورتها عالميًّا، بالإضافة إلى الأُفُق الذي يفتحه هذا الاتِّفَاق من أجل تفعيل الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة، ومحاولة تغيير هيكل العلاقات وموازين القوَّة في المنطقة، بعد أن نجحت في تحييد الدورين الصيني والروسي، وبعد أن وجَّهَت ضربة قوية إلى إيران وحلفائها الإقليميين. لكن لا يعني ذلك أنَّ وصول الاتِّفَاق إلى وقْفٍ كامل لإطلاق النار مضمون، في ظلِّ عديد من التحدِّيات، ولعلَّ أبرزها الإحباط بين اليمين الإسرائيلي من الاتِّفَاق، والمعالجات القاصرة والمجزَّأة التي تضمَّنها الاتِّفَاق والتي لا تضمن وقْفًا مُستدامًا لإطلاق النار.

ختامًا، يمكن القول إنَّ هذا الاتِّفَاق يمثِّل اختراقًا مهمًّا لأزمة مستعصية، ورُبَّما يوفِّر فُرصة لالتقاط الأنفاس ومراجعة دروس ما حدَث، ورُبَّما يفتح المجال لإقرار اتِّفَاق شامل للسلام يراعي حقوق الفلسطينيين ويعطي الأمل لقيام الدولة الفلسطينية، ويلبِّي تطلُّعات الشعوب العربية. لذلك، من المهمّ استمرار الجهود والعمل مع الإدارة الأمريكية الجديدة، لإيجاد حلول تصحِّح من أخطاء الماضي، ترفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير