عكست قمة منظمة «شنغهاي» للتعاون، التي انعقدت في مدينة تيانجين بين 31 أغسطس و01 سبتمبر 2025م، وما تلاها من عرض عسكري في بكين في الثالث من الشهر نفسه، مشهدًا رمزيًا استثنائيًا في مسار العلاقات الدولية، وإشارةً إلى ملامح نظام عالمي جديد آخذ في التشكُل. استضاف الرئيس الصيني شي جين بينغ، في خطوة مدروسة لإظهار التماسك بين الدول الأعضاء، نظراءه الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، إلى جانب عدد من قادة أوراسيا. ورغم أن المناسبة الرسمية كانت لإحياء الذكرى الثمانين لاستسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية، إلا أن الحدث عكس التحولات الجارية في ميزان القوى العالمي، إذ بدا أن تكتلًا فضفاضًا من دول غير غربية يزداد استعدادًا لتحدي الهيمنة الأمريكية، وصياغة رؤية جديدة لعالم مُتعدد الأقطاب. وقد عكس اجتماع قادة أربع دول مختلفة المسارات: (الصين كقوة صاعدة، وروسيا كقوة محاصَرة، والهند كديمقراطية موازِنة، وكوريا الشمالية كدولة منبوذة) إمكانات هذا الاصطفاف وحدوده في الوقت ذاته.
بالعودة إلى الماضي، تأسست منظمة «شنغهاي» عام 2001م بمبادرة من الصين وروسيا وأربع دول من آسيا الوسطى كمنبر أمني إقليمي، لكنها تحولت تدريجيًا إلى منصة للتعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري. يُغطي حجم المنظمة الهائل ما يقارب 60% من مساحة أوراسيا وتضم أكثر من 40% من سكان العالم، وتشمل عضويتها الصين والهند وروسيا وباكستان والدول الكبرى في آسيا الوسطى، مما يجعلها تجمع بين موارد الطاقة الضخمة، ومسارات التجارة التاريخية والحديثة، وقوة عسكرية معتبرة. تستمر المنظمة في التوسع، خاصةً مع انضمام إيران واهتمام دول مثل تركيا وعدد من دول الخليج بالانخراط بصفة مراقبين أو شركاء حوار. ويتنامى دورها كمنصة مفضلة للدبلوماسية التي تتجاوز الأطر الغربية التقليدية، حيث يمتد شركاء الحوار والمراقبون من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا. وتُقدم المنظمة نفسها على أنها تُروج لـ «نوع جديد من العلاقات الدولية» يقوم على التعددية القطبية، والاحترام المتبادل، وعدم التدخل.
استثمرت الصين، بصفتها الرئيس الدوري لعامي 2024 و2025م، القمة للترويج لمبادرتها الخاصة في الحوكمة العالمية، الهادفة إلى إصلاح المؤسسات الدولية لمصلحة الجنوب. أما روسيا، فقد وجدت في المنظمة أداة لا غنى عنها لتوسيع قنواتها الدبلوماسية في ظل العقوبات والعُزلة المفروضة عليها بسبب حرب أوكرانيا. كما مثّلت المشاركة في القمة رابطًا حيويًا للهند مع آسيا الوسطى، ومنبرًا للحفاظ على الحوار مع موسكو في ظل تصاعد التوتر مع واشنطن بسبب الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب. في المقابل، شكّلت دعوة كوريا الشمالية، فرصة لكسر عزلتها واكتساب مكانة عبر الارتباط مع القوى الأخرى، إذ كان حضور زعيمها علامة فارقة مكانته الدبلوماسية، لكونه أول حدث متعدد الأطراف مهم يحضره، والمرة الأولى التي يُشارك فيها زعيم كوري شمالي في عرض عسكري صيني منذ 66 عامًا.
صدرت عن اجتماعات تيانجين، التي جمعت أكثر من عشرين زعيمًا، عدة بيانات كان أبرزها «إعلان تيانجين» الذي تعهد بمزيد من التعاون في مجالات الذكاء الاصطناعي، وتنظيم الفضاء السيبراني، وأمن البيانات. وأعلنت الصين إنشاء بنك تنمية خاص بالمنظمة ليكون بديلًا للمؤسسات المالية الغربية، وآلية لتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي، مع التعهد بتقديم 280 مليون دولار كمساعدات و1.4 مليار دولار كقروض خلال ثلاث سنوات. لكن الأهمية الأبرز للقمة تجسدت في رموزها أكثر من قراراتها، إذ شهدت أول لقاء ثنائي بين شي ومودي في الصين منذ سبع سنوات، مما يُشير إلى نيتهما لنزع فتيل التوترات الذي اشتعلت منذ عام 2020م. ناهيك عن المودة العلنية التي ظهرت في صور المصافحات والعناق بين شي وبوتين ومودي، والتي عكست رسالة تضامن في مواجهة الرسوم الأمريكية والعقوبات الغربية التي أعادت تشكيل الاقتصاد العالمي.
كانت مشاركة كيم جونغ أون لافتة بشكل خاص، إذ نادرًا ما يُسافر خارج بلاده. وقد أكدت هذه الزيارة اصطفاف كوريا الشمالية المتنامي مع القوى المعادية للغرب، واكتسب حضوره دلالة إضافية في ظل تقارير عن إمدادات أسلحة من بيونغ يانغ لموسكو. وفي الوقت نفسه، امتنعت الهند عن المشاركة المباشرة في العرض العسكري، في إشارة إلى استمرار تحفظها على تعميق ارتباطها بالخطاب المعُادي للغرب.
أما الصين، فقد حققت من تنظيم هذه القمة عدة أهداف: تموضعت في قلب الدبلوماسية الأوراسية عبر جمع ثلاث قوى نووية تحت رعايتها، وأظهرت قدراتها العسكرية والتكنولوجية لتكريس الردع وتعزيز مكانتها. كما أتاحت الفرصة لشي للمُضي قدمًا في تنفيذ مشروعه الأوسع المتمثل في تعزيز التعددية القطبية كسردية مضادة للهيمنة الغربية، وربط منظمة «شنغهاي» للتعاون بمبادرة الحزام والطريق ومشاريع الحوكمة العالمية الأخرى. ورغم هذه المكاسب، واجهت الصين معضلات أهمها أن دعمها لروسيا وكوريا الشمالية قد يُبعد الهند، كما أن اعتمادها الاقتصادي على الأسواق الغربية يمنعها من خوض مواجهة شاملة.
وبالنسبة لروسيا، فإنها وجدت في المنظمة متنفسًا ضروريًا، خاصةً بعد القيود التي واجهتها منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا. استغل بوتين منصة بكين لإظهار صمود بلاده وإثبات أن موسكو ليست معزولة، ولتعزيز الشراكة مع الصين، والتقرب من الهند عبر مشاريع الطاقة والدفاع، وتوثيق الروابط مع كوريا الشمالية. ومع ذلك، يعكس موقع روسيا في المنظمة خللًا بنيويًا أوسع، إذ تبدو أكثر اعتمادًا على بكين، والعلاقة بين الطرفين ليست شراكة متكافئة، بقدر ما هي ترتيب هرمي تتصدره الصين بوضوح.
وعلى الصعيد الأوروبي، تُعزز المنظمة قدرة روسيا على الصمود وتُربك الإستراتيجية الغربية في أوكرانيا. أما في آسيا، فتصعّد المنافسة على النفوذ والترتيبات الأمنية. وتشمل المخاطر المتوقعة جوانب جيوسياسية واقتصادية وتكنولوجية، خاصةً مع احتمال تفكك التجارة العالمية وزيادة هشاشة سلاسل التوريد، نتيجةً لمساعي المنظمة لخفض الاعتماد على الدولار وتقديم بدائل في الأنظمة المالية العالمية. كما تُثير مشاركة كوريا الشمالية قلقًا إضافيًا بشأن الانتشار النووي ونقل التكنولوجيا الخطيرة.
في الختام، لم تكن هذه القمة، ولا ما تَبِعها من عرض عسكري، مجرد مناسبة لتوقيع اتفاقيات، بقدر ما كانت تجسيدًا رمزيًا مهمًا. فقد شكّل اجتماع شي وبوتين ومودي وكيم على منصة واحدة، تجربةً، رغم هشاشتها، لتشكيل التعددية القطبية. وبالنسبة للصين وروسيا، كانت القمة إعلان تحدٍ أمام الضغوط الغربية. أما بالنسبة لكوريا الشمالية، فقد شكّلت فرصة نادرة للظهور. وبالنسبة للهند، عكست مشاركتها توازنًا دقيقًا بين الانخراط والتحفظ. ومن غير المرجح أن تتحول المنظمة إلى تحالف متماسك، لكن وزنها الرمزي لا ينبغي الاستهانة به، إذ يعكس تراجع الهيمنة الغربية المطلقة وصعود نظام عالمي أكثر تفتتًا وتعدديةً وتنافسيةً.