بين حركة “أمل” وحزب الله نار تحت الرماد، واشتباكات يُعتَّم عليها بين حين وآخَر، فيوجد صراع بين حركة “أمل” المسيطرة تاريخيًّا على منطقة الصرفند بعد خروج “فتح”، وحزب الله الذي يحاول توسيع سيطرته بأساليب ناعمة في مناطق نفوذ “أمل” التاريخية.
إنّ المسألة مسألة وقت فقط قبل نشوب الحرب الفاصلة بين “أمل” والحزب، ووجود برّي على رأس الحركة هو ما يضبط الأمور حتى الآن.
ومِمَّا يؤكّد أن النار تحت الرماد وقد تنشب في أي لحظة ما يُتداوَل مؤخَّرًا من أن بلدة الصرفند قضاء الزهراني جنوبيّ لبنان، شهدت إشكالًا كبيرًا بين مناصرين لحزب الله وآخرين لحركة “أمل” على خلفية تعليق وتمزيق صور في البلدة، في منتصف أغسطس 2016م.
وقد تضاربت روايتان حول أصل الإشكال، فتحدثت الرواية الأولى عن إقدام شُبَّان مناصرين لحركة “أمل” على تمزيق صورة لشهداء الحزب من البلدة قرب مجمع الإمام عليّ عند الدوار، الأمر الذي استفزّ أنصار الحزب ودفع بعضهم إلى الردّ بتمزيق صورة للسيد موسى الصدر، ذي المكانة التاريخية عند الشِّيعَة العرب، والرئيس نبيه برّي، على عكس الرواية الثانية التي تحدثت عن أن أنصار حزب الله هم من بادر إلى تمزيق الصورة مما استدعى ردًّا من مناصري حركة أمل[1].
سرعان ما تَطوَّرَت الأمور إلى عراك بالأيدي تبعه إطلاق نار كثيف في البلدة، وهو ما استدعى حضور قوة كبيرة من الجيش لفَضّ الاشتباك، في حين أكّدت مصادر من أبناء البلدة لموقع “الجديد” أن قيادتَي حزب الله وحركة “أمل” تَدخَّلَتا بشكل فوري وتعملان على حلّ القضيَّة ومنع تكرار هذا النوع من الإشكالات.
» تاريخ الصراع
تاريخ الصراع بين الجانبين يُوحِي بإمكانية نشوب معركة جديدة بينهما في أي لحظة، بخاصة مع استمرار استفزازات حزب الله واستقوائه الخارجي بإيران، ووصايته على منهج التشيُّع في لبنان وتحدثه باسم الطائفة. في حين تعتبر حركة “أمل” نفسها الحركة الأم للشِّيعَة في لبنان وأول من وحّد الشِّيعَة تحت راية واحدة، وأول من عمِل على إحياء تجمُّعات شيعية ذات صبغة خاصة تشارك في الحياة الاجتماعية والإنسانيَّة بزعامة موسى الصدر، وجاء الحزب ليزحزحها عن مكانتها التاريخية، بل ويعتبرها حركة علمانية متمرِّدة على تعاليم الإمام المعصوم وعلى دولة الفقيه/إيران.
وأول ما رفع حزب الله سلاحه كان ضدّ عناصر حركة “أمل” الشِّيعيَّة التي تعود جذور نشأتها إلى السيد موسى الصدر، المحسوب على الشِّيعَة العرب، وتُعتبر هي الحركة الأمّ للشِّيعَة في لبنان، وهي التي تتولَّى أمورهم، وتتفقَّد أحوالهم، حتى جاء حزب الله بدعم إيرانيّ ينافسها ويحتلّ مكانتها.
بدأت الحرب بين الطرفين سنة 1985م واستمرَّت أسابيع -ووقعت مناوشات متكررة بين الفريقين حتى سنة 1990م- إلى أن أحدث النِّظام السوريّ والإيرانيّ اتفاقيات وتفاهمات بين الطرفين، وقُدّرت الخسائر الناجمة عن هذه المعارك بألفين وخمسمئة ضحية، وخمسة آلاف جريح، فضلًا عن الخسائر الاقتصادية الفادحة في المنشآت والبنى التحتية، والانشقاق النفسي بين أبناء الطائفة الواحدة. لكن استطاع حزب الله المدعوم إيرانيًّا، أن يخرج منتصرًا في هذه الحرب ويكسر شوكة حركة “أمل” العسكريَّة، ويمدد نفوذه، ويستولى على ما تبقى من نفوذ وعناصر حركة “أمل”، المدعومة من النِّظام السوري وقتئذ.
وكان الحزب مدعومًا في هذه الحرب من إيران، لأن نشأته مرتبطة بنظام ولاية الفقيه الذي تَبنَّتْه إيران بعد ثورة الخُمِينيّ، لكن حركة “أمل” في نظر حزب الله وإيران هي حركة علمانية متمردة خارجة عن تعاليم المعصوم/الإمام، وهي حركة نشأت بأيادي العرب، ممَّن لهم صلة وثيقة بحوزة النجف، أما حزب الله فهو من أول يوم إيرانيّ النزعة، فارسيّ النشأة، يدور في مدار المرشد الأعلى.
الفارق بين نشأة الفريقين
أولًا: حزب الله
حزب الله هو أكبر وأقدم وأخطر تنظيم مسلَّح مُوالٍ لإيران الخُمِينيّ، وهو لا يُخفي هذه الموالاة منذ تأسيسه، لذلك كان طبيعيًّا أن يقول السيد إبراهيم الأمين الناطق الرسمي باسم الحزب، جوابًا عن سؤال حول علاقة الحزب بإيران: “نحن لا نقول إننا جزء من إيران، نحن إيران في لبنان، ولبنان في إيران”.
وجاء في الإعلان التأسيسي للحزب أو ما يُسَمَّى بـ”الرسالة المفتوحة” التي وجهها الحزب إلى المستضعفين في لبنان والعالَم في 16 شباط/فبراير 1985م: “إننا أُمَّة أبناء حزب الله نعتبر أنفسنا جزءًا من أمة الإسلام المركزية في العالَم، نلتزم بأوامر قيادة واحدة، حكيمة عادلة، تتمثل بالوليّ الفقيه الجامع للشرائط، وتتجسَّد حاضرًا بالإمام المسدَّد آية الله العظمى روح الله الموسوي الخُمِينيّ دام ظله”.
فحزب الله إذًا هو حزب إيرانيّ أو رأس الحربة الإيرانيَّة في المنطقة، فهو تابع لها فقهيًّا/اجتهاديًّا، وسياسيًّا، واقتصاديًّا، وجاءت نشأته لتتناغم مع إرادة إيران الخُمِينيّ للتوسُّع في المنطقة، والاعتماد على أجنحة مسلَّحة تدافع عن الأمن القومي الإيرانيّ خارج الحدود الإيرانيَّة، وهي النظرية التي لا زالت تنتهجها إيران حتى اليوم، بخاصة بعد فشل إيران الخُمِينيّ في الهيمنة على حركات التحرُّر في المنطقة كمنظمة التحرير الفلسطينية وحركة “فتح” بزعامة ياسر عرفات في بداية الثمانينيات[2].
أضف إلى ذلك غياب السيد موسى الصدر (1928م- 1978م) مؤسِّس حركة “أمل”، وعدم شعور حركة “أمل” وقيادتها بالفضل للخُمِينيّ وعدم خضوعها لأوامر السُّلْطة الإيرانيَّة على طول الخطّ، لأنها تعتبر نفسها الأصل والأُمّ للشِّيعَة في لبنان، ووجودها سابق على وجود الثورة الخُمِينيَّة نفسها، فأرادت طهران توليد حركة جديدة تكون هي السبب المباشر في وجودها واستمرارها بالدعم اللوجستيّ والعسكريّ، وتبقى تحت نفوذ الدَّوْلة الإيرانيَّة، ولا تخرج عن الخطّ السياسيّ لإيران، فجاء إنشاء وتوليد حزب الله الذي دان بالطاعة من أول يوم للخُمِينيّ وإيران، لذلك قال السيد الأمين: “نحن إيران في لبنان ولبنان في إيران”.
إذًا فقد بدأ الحزب إرهابيًّا بامتياز وسفك دماء اللبنانيين، وحاد عن منهجه الذي رسمه لنفسه من أول يوم وهو المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي فقط. ولا يزال الحزب إلى يومنا هذا يشارك في قتل الأبرياء في سوريا، وصار جزءًا من المخطط السِّياسيّ الإيرانيّ في المنطقة، ًوأداة لملالي طهران، فيرسل مقاتليه إلى العراق واليمن وجنوب لبنان، وصار شعاره “تحرير القدس يبدأ من اليمن”، و”يبدأ من العراق”، و”يبدأ من سوريا”، بعد أن كان تحرير القدس يبدأ من جنوب لبنان وفلسطين!
ثانياً : حركة “أمل”، النشأة وخطّ التشيُّع العربيّ
في أثناء الحرب الصليبيَّة تَجمَّع الشِّيعَة العرب من أهل جنوب الشَّام، الذين تَربَّوا في دفء دمشق وضواحيها، واختلطوا بالوسط السُّنِّيّ، وباعوا واشتروا وتعاملوا مع العرب والمسلمين يوميًّا، واعتبروا أنفسهم جزءًا لا يتجزأ من الأمة العربيَّة والإسلامية، تجمع هؤلاء بجبل عامل هربًا من الصليبيّين[3]. وهؤلاء هم بذرة شِيعَة لبنان بصبغتهم الخاصَّة التجديدية الإصلاحية إلى يومنا هذا، فلا يزال جبل عامل وشِيعَة لبنان يمثِّلون تيارًا أصيلًا للتشيُّع العربيّ في مواجهة التشيُّع الفارسيّ، التشيُّع العربيّ الذي لم يمتزج بالقوميَّة الفارسيَّة، ولا بالتُّراث الصَّفَويّ الإقصائي[4]، وإن بدا في أحايين كثيرة أن رجالًا من جبل عامل يدعمون النهج الإيرانيّ فإن وطأتهم أخفّ ولغتهم أهدأ وصدورهم أرحب، ولا يزال المصلحون الشِّيعَة يخرجون من حوزة لبنان وأصالتها العربيَّة مثل هاني فحص ومهدي شمس الدين (تلميذ السيد موسى الصدر) وفضل الله وغيرهم.
لقد كانت الصبغة العربيَّة غالبة على التشيُّع حتى انتهاء فترة الحروب الصليبيَّة وبمجرَّد ميلاد الدَّوْلة الصَّفَويَّة دخلت العلاقات السُّنِّية الشِّيعيَّة مرحلة جديدة من تاريخها المتموِّج وزادت الفجوة بين الطائفتين عمقًا واتساعًا، حينما أضحت الخطوط الطائفيَّة تسير على تخوم الخطوط القوميَّة[5] والفارسيَّة، ذلك أنّ الدَّوْلة الصَّفَويَّة قامت على دعامتين: الأولى القبائل التركية المتشيعة في شرق الأناضول، التي زحفت على بلاد فارس برفقة شيوخها الصَّفَويّين الذين كانت تقدّسهم، والثانية هجرة علماء كثيرين من جبل عامل من لبنان إلى إيران[6]، فامتزجت الثقافة الشِّيعيَّة العربيَّة بالثقافة الشِّيعيَّة التركية، على أرض فارسيَّة وثقافة فارسيَّة خالصة، فأنتج ذلك جيلًا مشوَّهًا من التشيُّع الفارسيّ الإقصائي المتطرِّف، يتمثَّل في الدَّوْلة الصَّفَويَّة ورجال دينها، وامتدادها الحالي في الدَّوْلة الإيرانيَّة[7].
ذلك ملمح مهمّ عن بَذرة شِيعة الشَّام عمومًا ولبنان خصوصًا، وكيف أن جذورهم عربيَّة، وصبغتهم إنسانيَّة، لا قوميَّة ولا فارسيَّة.
نعود فنقول إنّ حركة “أمل” التي نشأت في لبنان وأسسها موسى الصدر -وأسس كذلك المجلس الشِّيعيّ الأعلى سنة 1967م- كانت تعبِّر عن نفسها وإطارها اللبناني، وعمقها العربيّ، ولم تلوِّث نفسها بأبعاد خارجية وتصورات وخيالات آيديولوجية تؤرِّق المنطقة والإقليم، ودعت إلى “لَبْنَنَة” الشِّيعَة اللبنانيين وعدم خروجهم انتمائيًّا عن خط الدَّوْلة اللبنانية.
فقد كان السيد موسى الصدر يُؤمِن بالتعدُّدية، وبالتعايش الإنساني (الإسلامي-الإسلامي، والإسلامي-المسيحي) داخل الدَّوْلة، وكانت رؤيته في السِّياسة أقرب إلى الدَّوْلة المدنية، ودعا فئته من الشِّيعَة أن لا ينقطعوا عن المحيط التعدُّدي، وأن يتبنَّوا أطروحات تفاعليَّة وتشاركيَّة لا إقصائيَّة ولا طائفيَّة، ولا انفصاليَّة عن المجتمع والمحيط[8].
وقد حُورِب الرجل والكيانات التي أسَّسها، من الكلاسيكيين الشِّيعَة، بل ومن بعض المعتدلين، فقد رفض مشروعَه الشيخُ جواد مغنية والسيد هاشم معروف الحسني، وهذا التيَّار كان أقرب إلى كلاسيكيَّة النجف في العطاء المدرسيّ والحوزويّ، ويفضِّل بقاء الأوضاع على ما هي عليه.
قوبل نهج السيد موسى الصدر كذلك بعدم ارتياح في إيران، بخاصة من رجال الدين المحسوبين على الثَّورة الخُمِينيَّة، وزادت هذه الفجوة بعد احتفاء مجموعات شريعتي بالسيد موسى الصدر وبأفكاره ونظرياته، واعتباره ندًّا للخُمِينيّ!
كذلك سعى العلامة مهدي شمس الدين الذي خلف موسى الصدر في زعامة المجلس الأعلى إلى استقلال القرار الشِّيعيّ اللبناني عن قمّ، وطالب بالفصل التامّ بين ولاية الفقيه الإيرانيَّة وشيعة لبنان، وأسَّس نظريته الشهيرة: “العلمانية المؤمنة”، مِمَّا زاد الفجوة بين تياره ومجموعات حزب الله وروافدها التي تقدِّس نظرية ولاية الفقيه وتعلن مرارًا تبعيتها الكلية للدولة الإيرانيَّة. وفي نفس خطّ “العلمانية المؤمنة” التي أسّسها مهدي شمس الدين زعيم المجلس الأعلى، إذا بالزعيم نبيه برّي يميل إلى “عَلْمَنة” حركة “أمل”، بما يُسَمَّى “العلمانية العاقلة”، وهذان الرافدان (حركة “أمل” والمجلس الأعلى) هما ميراث موسى الصدر الذي خلّفه من بعده، مِمَّا جعلهما في مصبّ نيران حزب الله التنظيريَّة والعسكريَّة، لأنّ الحركة مارقة في نظره إذ لا تؤمن بولاية الفقيه، ولا تؤمن بالتبعيَّة لإيران، وليس لإيران أي فضل في نشأتها أو دعمها، وتسعى لتوسيع نفوذها في الجنوب اللبناني على حساب شعبيَّة حزب الله، الإيرانيّ. هذه كلها عوامل جعلت الحرب محتدمة، والعراك مستمرًّا، والمناوشات متكررة ومتقطعة كل برهة من الزمن[9].
لكن هل يشهد المستقبل القريب تمدُّدًا لحركة “أمل” الشِّيعيَّة العربيَّة على حساب حزب الله المُنهَك جسديًّا في سوريا وشعبيًّا في لبنان والخليج، بل والوطن العربيّ كله؟ وهل يمكن أن تبلور الحركة مواقفها وتكتيكاتها اللوجستيَّة والعسكريَّة وتعود حركة جامعة للشِّيعَة العرب، في وجه الغطرسة الإيرانيَّة الممثَّلة في سياسة حزب الله في لبنان وسوريا؟ وهل تستطيع حركة أمل أن تحتضن الجميع وتصير جزءًا من الدَّوْلة الوطنية الحديثة؟ هذا ما ستفسره الأيام القادمة!