يُلقي هذا المقال نظرةً على أرقام ميزانيّات الدفاع الإيرانية، خلال الفترات التي تخلّلها الحظر، وما قبلها، وما بعد الاتفاق النووي مع دول «P5+1» عام 2015م، والتي بموجبها أُفرِج عن مبالغ ماليّة تُقدَّر بنحو 110 مليارات دولار. وكذلك يحاول المقال فَهْم إعلان إيران بشكلٍ مُتكرر عن إنجاز أنشطة عسكريّة خلال السنوات القليلة الماضية، ومِن ذلك رفع الستار عن أسلحة متنوعة جديدة، وتدشين مشاريع عسكريّة ضخمة، مع استمرار دعمها الماليّ والعسكريّ لأذرعها الخارجيّة. كل ذلك في ظلّ ميزانيتها الدفاعيّة السنويّة المعلنة التي لم تتجاوز 20 مليار دولار حسب مزاعمها. نحاول أيضًا تتبُّع صفقات التسليح الخارجيّة التي أبرمتها إيران، وأنشطتها العسكريّة الخارجيّة، والأنشطة العسكريّة غير الموضّحة في الميزانيات المعتمدة.
ولِفَهْم هذا التناقض الواضح، نسعى إلى حلّ هذا اللغز والبحث في احتمالية وجود مصادر ماليّة غير مُعلَنة تغذّي الميزانيّة الدفاعيّة الإيرانيّة بعيدًا عن الأرقام الرسميّة في الميزانيّة السنويّة للدولة، أو أنّ الدولة تنشر أرقامًا مُضلِّلة في ميزانيتها المعلَنة.
يُلاحَظ من بيانات الميزانيّة العسكريّة الإيرانيّة خلال الفترة «2010-2020م» انخفاض ميزانيّة الدفاع خلال الفترات التي تخلّلها عقوبات كبيرة على إيران، وتراجُع في قيمة العملة المحلّية أمام العملات الأجنبية، أي خلال الفترة «2013-2014م»، إذ تراجعت من 14.220 مليار في عام 2012م إلى 11.233 مليار في عام 2013م، ثُمّ عادت إلى أرقامها الطبيعية خلال الفترة «2016-2017م»، في حين تراجعت مجددًا خلال الفترة «2018-2020م» بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات الأمريكية الأُحادية على إيران.
فخلال عام 2016م، وبعد توقيع الاتفاق النووي، قفزت المشتريات الإيرانية من الأسلحة إلى قيمة 413 مليون دولار، مقابل 13 مليون دولار في العام الذي قبله (2015م)، في مؤشّر ٍيدلُّ على استغلال إيران لفترة إبرام الاتفاق النووي الذي أفضى إلى تخفيف العقوبات، كما أنّ إيران أبرمت عقد شراء نظام الدفاع الجوي الروسي «S300» في عام 2007م بقيمة 800 مليون دولار، وبعد مفاوضاتٍ مع روسيا، ونظرًا إلى تأخُّر روسيا في التسليم حتى 2016م، حصلت إيران على النسخة المطورة من النظام ودفعت مقابل الحصول على ذلك مبالغ إضافية، وكل تلك التكاليف الإضافية لم تظهر في قيمة المشتريات الخارجيّة، وهذا يعطي مؤشّرًا بأنّ تكاليف تلك الصفقة تُسدَّد خارج الموازنة وبآليات غير معروفة.
جدير بالذكر أيضًا أنّ إيران تبيع بعض المنتجات العسكريّة، فتُشير تقارير موقع «World Data Atlas» إلى أنّ عائدات إيران من مبيعات الأسلحة خلال الأعوام بين 2010 و2017م قد بلغت نحو 270 مليون دولار، وقد أعلنت إيران مؤخرًا أنها سوف تستأنف بيع أسلحتها بعد 18 أكتوبر.
كما أنّ في الميزانيّة العسكريّة تكاليفَ أنشطة عسكريّة إيرانية غير مُدرَجة، مثل: مصروفات الحرب في سوريا، تكاليف البرنامج النووي الإيراني، دعم فيلق القدس، دعم حزب الله اللبناني والميليشيات المختلفة في العراق وسوريا واليمن، دعم برامج الصواريخ المختلفة التي تتجاوز في مجموعها ووَفقًا للمعلومات الشحيحة المتوفرة 19 مليار دولار أمريكيّ تقريبًا، مِمّا يدل على ضبابية إعلانات الميزانيّة الإيرانيّة، التي قد يعود أحد أهمّ أسبابها إلى التغطية على أنشطتها غير الشرعيّة التي قد تضعها تحت وطأة حظرٍ دوليٍّ شامل وتصنيفها كدولة راعية للإرهاب، نتيجةً لدعم الميليشيات التي يُصنَّف بعضها إرهابيًّا مِن قِبل عديد من الدول، مثل تنظيم حزب الله اللبناني.
علاوةً على ذلك، فإنّ قيمة النفقات العسكريّة التي تتحمّلها إيران في سبيل المحافظة على زَخْم نشاطها الخارجي وأنشطتها التقنيّة العسكريّةتتجاوز بمقدار الضِّعف تمامًا حدود الميزانية المُخصّصة للدفاع. لذا، نعتقد أنّ الأرقام المعلَنة للميزانية الدفاعيّة الإيرانيّة غير صحيحة مطلقًا، وأنّ هناك تضليلًا إعلاميًّا مُتعمَّدًا عبر نشر أرقام متواضعة جدًّا للميزانية الدفاعية، أو أنّ هناك مصادرَ تمويلٍ أخرى لا تُدرَج في المخصّصات الدفاعيّة المعلَنة. ونميلُ إلى أنّ الاحتمال الثاني أقرب إلى الحقيقة لأسبابٍ عدّة، أهمُّها: امتلاك الحرس الثوري إمبراطورية استثمارات ضخمة، ولا تخضع أنشطتها للمراجعة ضمن الميزانيّة الرسميّة، ومِن خلال تلك المشاريع الاستثمارية يتحكّم النظام الثوري في نحو 50% من الأعمال التجاريّة والصناعيّة والبنوك داخل إيران، ويُدار ضمن هذا النشاط ما بين 500 و800 شركة ومؤسَّسة في المجالات الحيوية الاستثمارية الهامّة تسيطر على مفاصل الاقتصاد الإيراني، وهذه الأعمال جميعها لا تخضع عوائدها للبيانات المقدرة في ميزانية الحكومة الإيرانيّة، وكذلك تتمتع باستثناء أنشطتها من الضرائب ورسوم الجمارك وغيرها، وتلقى دعمًا وأولوية في المشاريع العملاقة في الداخل، مِمّا يساعدها في السيطرة على السوق الإيرانية، كما تملك تلك الشركات استثماراتٍ متعددةً ومتباينة في عديد من الدول حول العالم، وتتخفّى خلف أسماء شخصيات مرتبطة في الخفاء بالحرس الثوري، وتساعد عوائد هذه المشاريع على تكيُّف إيران مع العقوبات والصرف على الأنشطة العسكريّة والصفقات الهامّة.
أولًا: رغم عدم وجود بيانات رسميّة عن حجم المصروفات على المشاريع الدفاعيّة الإيرانيّة، فإنّ التقديرات تشير إلى أنّ ما يُصرَف يقارب 40 مليار دولار سنويًّا، بناءً على مصروفات المشاريع السنوية التي تبلغ تقريبًا 19 مليار دولار، وقد يزيد على ذلك، إضافةً إلى ما يُخصَّص في الميزانيات السنوية التي تبلغ تقريبا 20 مليار دولار، ولذا يُتوقَّع بعد رفع العقوبات أن تزيد إيران إنفاقها العسكريّ بما يوازي احتياجاتها ونظرتها التوسعية، وسعيها الحثيث لتوطين كامل صناعتها العسكرية، ويساعدها في ذلك عوائد الاستثمارات الضخمة لمشاريع الحرس الثوري، والدعم الذي تلقاه من «صندوق التنمية الوطني» عند الأزمات.
ثانيًا: لدى بعض الدول الغربية رغبة واضحة لتقليل ميزانية إيران الدفاعيّة، بناءً على البيانات المعلَنة للميزانية فقط، نظرًا إلى نشاط اللوبي الإيراني في الغرب، الذي يعمل على استخدام الأرقام المعلَنة للميزانية الدفاعية الإيرانية المضلِّلة في الترويج (البروباغندا) لمظلوميّة إيران، إذ تتعرَّض الدول المجاورة لإيران للنقد، خصوصًا السعودية، لارتفاع ميزانيات التسلُّح لديها، وإظهار أنّ إيران مظلومة وَفق البيانات المعلَنة في الصرف على التسلّح، ولا ينبغي تطبيق الحظر عليها في ظلّ ما يرونه بعد توازن القوى من حيث التسليح العسكريّ، دون الأخذ في الاعتبار أنّ إيران تصنع كثيرًا من أسلحتها وتطوِّرها داخليًّا، في انتهاكٍ لحقوق الملكية الفكرية، والتعامل بنظام المقايضة بالبترول مقابل السلاح، وبالتالي فإنّ القراءة السطحية لبيانات ميزانيات الدفاع الإيرانية تُعَدّ مُضلِّلة، فلن تستطيع ميزانية سنوية لم تتجاوز 20 مليار دولار، على مدى السنوات العشر الماضية، وتخلَّلها حظرٌ اقتصاديّ، أن تُنجِز كل هذه المشاريع دون وجود مصادر لتغطية تلك الأنشطة.
ثالثًا: بعد رفع حظر شراء الأسلحة المفروض على إيران فإنها بالتأكيد ستُنفِق مزيدًا من الأموال في مجال التسليح، فلدى بعض الدول الحليفة لإيران مثل روسيا والصين مشاريع تسليح إيرانية متوقّفة، تنتظر فترة السماح لإيران باستيراد الأسلحة وَفقًا لمقتضيات الاتفاق النووي في حال لم تُمدَّد العقوبات، وبالتأكيد فإنّ إيران ستسعى إلى مزيد من البرامج التسليحية، مثل تعزيز قدراتها الصاروخية، وتسريع العمل في البرنامج النووي، وتحديث قوّاتها الجوّية التي لم يَطَلْها التحديث منذ بداية الثورة، وتحديث قوّتها البحْرية للعمل في المياه الزرقاء.
رابعًا: تُظهِر تقارير الوكالة الدوليّة للطاقة الذرّية (IAEA) وتقارير لجنة خطة العمل المشتركة بشأن برنامج إيران النووي (JCPOA) أنّ قدرات إيران المتطورة في المجال النووي، وقدرتها على تنشيط النيوترونات المستخدمة في المفاعلات النووية، تُعَدّ مؤشّرًا على ما وصلت إليه إيران من قدرات، وإمكانية تحقيق نجاح تقنيّ نوويّ داخل إيران في حال رفع العقوبات، إذ تحدثت تقارير متخصصة عن أنّ إيران على بُعد 4-5 أشهُر من الوصول إلى المقدرة على إنتاج السلاح النووي (Break Through)، وأنّ نسبة تخصيب اليورانيوم وصلت خلال الأشهر الماضية إلى 50%.
ختامًا، لقد تمكّنت إيران من الاستمرار في مشاريعها العسكريّة في ظلّ ظروف الحظر التي فرضها المجتمع الدولي عليها، بسبب مشروعها النووي، ورغم أنها استطاعت الحصول على اتفاق مع دول «P5+1» خفّف عنها من وطأة الحظر على اقتصادها وعلى مشاريعها العسكريّة، فإنّ اتخاذ الولايات المتحدة الأمريكية قرارها بعدم الاستمرار في الاتفاق النووي مع إيران، وإعادة فرض العقوبات عليها، أفقد إيران توازنها وأعادها إلى دوّامة محاولاتها للضغط على المجتمع الدولي من خلال إظهار نفسها كقدرة مؤثّرة رغم الظروف، ومحاولاتها افتعال أزمات للضغط مرة أخرى لإيجاد طريقة لتخفيف العقوبات. ومع رفع الحظر حاليًّا، والتجاذبات السياسية بين القوى الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين، من المتوقع أن تزداد حدّة الأعمال العدائيّة الإيرانيّة في المنطقة، وتهديد الملاحة الدوليّة، ودعمها للميليشيات الإرهابية المختلفة، كما ستستمرّ إيران في التضليل بشأن حجم ميزانيتها الدفاعيّة وعدم الإعلان عن الأرقام الحقيقيّة.
المصدر: Arab News
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد