منذ إعلان رئيس كُتلة «التغيير» يائير لابيد عن نجاحه في الحصول على موافقات رؤساء الأحزاب من اليمين واليسار لتشكيل حكومة، بعد أكثر من عامين من الشلل الحكومي، لم تتوقَّف مظاهرات مناصري التيّار اليميني ضدّ ما بات يُعرَف بـ «حكومة التغيير»، وكذلك حملات تحريض أعضاء هذه الحكومة، خاصّةً اليمينيين منهم.
وأبرز ما حدث خلال الأيام الماضية، كانت الرسالة التي صدرت عن كبار حاخامات «الصهيونية الدينية»، ومن ضمنهم الحاخام حاييم دوركمان والحاخام شلومو أفنير والحاخام شموئيل الياهو، السبت 05 يونيو 2021م، بعنوان «نداء حاخامات إسرائيل»، دعوا فيها لـ «بذل كُلّ جُهد مستطاع لمنع قيام حكومة كهذه». وجاء في الرسالة أيضًا أنَّ «هذه الحكومة مخالفة تمامًا لرغبة الشعب، التي ظهرت بوضوح في الانتخابات الأخيرة. الوقت لا يزال متاحًا، ولا يزال ممكنًا لمنع هذه الحكومة». وحملت هذه الرسالة أيضًا توقيع عشرات الحاخامات، من ضمنهم إسحاق بن شاحر رئيس مدرسة كدوميم الدينية، ودافيد حاي هاكوهين رئيس مدرسة نتيفوت إسرائيل، وأليعازر فيلدمان رئيس مدرسة كريات أربع. وأكَّد الحاخامات في رسالتهم: «لا يمكن التسليم مع واقع تقوم فيه حكومة في إسرائيل تُلحِق ضررًا بالأمور الأساسية في شؤون الدين والدولة، والتي كانت مقبولةً منذ قيام دولة إسرائيل وحتّى اليوم، على جميع الحكومات التي تعاقبت في إسرائيل. ولا شكَّ أنَّه في ظلّ حكومة كهذه، سيطال الضرر أيضًا المسائل الأمنية المتعلقة بجوهر وجودنا؛ لأنَّ حكومةً كهذه ستقوم استنادًا على داعمي الإرهاب، وسيكون فيها وزراء يطالبون المحكمة الدولية في لاهاي بمحاكمة قادة الجيش في جرائم حرب». وبحسب الحاخامات الستة الذين نشروا هذا النداء لهذه الأسباب، «يجب العمل بكُلّ السُبل، لضمان ألّا تقوم هذه الحكومة».
وأتت هذه الرسالة لتدعم المتظاهرين من أنصار اليمين، الذين احتشدوا أمام منازل نير أورباخ وأيليت شاكيد ونفتالي بينت من حزب «يمينا»، وتردديهم لشعارات عدائية ضدّ هؤلاء تحديدًا، باعتبارهم «خانوا معسكر اليمين، بانضمامهم لحكومة مكوَّنة من اليسار وأعضاء من داعمي الإرهاب، وهُم الأعضاء العرب». كما يعتزم حزب «الصهيونية الدينية»، وهو أحد مكوِّنات كُتلة بنيامين نتنياهو، التي طالما وفَّرت له الحماية طوال العامين الماضيين، ومعه تنظيمات يمينية أُخرى، تنظيم «مسيرة الرايات» خلال الأيام المقبلة، والمتوقَّع أن تتخلَّلها صدامات عنيفة مع قوّات الأمن.
ورفع المتظاهرون من أنصار اليمين لافتات تتضمَّن تهديدًا صريحًا في معظمها لممثِّلي اليمين في «حكومة التغيير»، وهم نفتالي بينت وأيليت شاكيد وجدعون ساعر.
كذلك غصّت وسائل التواصُل الاجتماعي بالتحريض والتهديد والتهييج للشارع ضدّ «حكومة التغيير»، خصوصًا أعضاءها من اليمين الذين ينظرُ إليهم مناصرو اليمين على أنَّهم خانوا المعسكر، وتسبَّبوا في منع قيام حكومة يمين في إسرائيل.
ومن ذلك الرسالة التي تلقّاها رئيس حزب «أمل جديد» المُنشَقّ عن الليكود جدعون ساعر على حسابه في «فيسبوك»، يعِد فيها مرسلُها بأنَّ ساعر سيرى جنازة أبنائه خلال هذه السنة. هذه الأجواء المشحونة والتحريضية، دفعت رئيس جهاز الأمن العام «الشاباك» نداف أرغمان إلى إصدار بيان «خطير»، مساء السبت 05 يونيو 2021م، يحذِّر فيه من تفشِّي لغة التحريض في الحوار الجماهيري مؤخَّرًا، مرجِّحًا أنَّ هناك من سيُفسِّر الشعارات التحريضية والخطابات الحماسية، على أنَّها دعوة للاعتداء الجسدي.
وجاء في بيان أرغمان الذي لم يصدُر بالتنسيق مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو: «إنّ دولة إسرائيل ملتزمة بمبدأ حرِّية التعبير؛ لأنَّ هذا المبدأ مهمّ وضروري في دولة ديمقراطية. ومع ذلك، لاحظنا مؤخَّرًا تزايُدًا خطيرًا في حدَّة الحوار العنيف والمحرِّض، خاصَّةً في وسائل التواصُل الاجتماعي. ويتضمَّن هذا الحوار عبارات ومقولات خطيرة ومصطلحات إقصائية وتحريضية، وكذلك دعوات للعنف والاعتداء الجسدي».
وأضاف أرغمان: «بحُكم كوني رئيسًا للجهاز المسؤول عن أمن الدولة والنظام الديمقراطي ومؤسَّساته، فإنَّني أدعو وأحذِّر من أنَّ لغة الحوار هذه قد تُفسِّرها قريبًا مجموعةٌ معيَّنة أو أفراد على أنَّها رُخصة لتنفيذ أعمال عُنف غير قانونية قد تؤدِّي للمسّ بالأنفُس».
ودعا أرغمان نُّخَب الجمهور وقادة الرأي للوقوف ضدّ هذه الأقوال والدعوات، وقال: «إلى جانب المسؤولية المُلقَاة على جهاز الشاباك وأجهزة فرض القانون الأُخرى، فإنَّ مسؤوليةً كبيرة تقع أيضًا هذه الأيام على عاتق النُّخب الجماهيرية من جميع الأطياف السياسية، وقادة الرأي، ورجال الدين، والمعلِّمين، ومواطني إسرائيل جميعهم. واجبنا الخروج بدعوة واضحة وصارمة للوقف الفوري لهذا الحوار العنيف والمحرِّض. إنِّ مسؤولية تهدئة النفوس، ولجْم هذه اللغة الحادَّة مسؤوليتنا جميعًا».
وفي هذا السياق، ذكر مسؤولون أمنيون أنَّ بيان رئيس جهاز «الشاباك» غير العادي في هذا التوقيت يعكس الصورة الاستخبارية العامَّة، وليس فقط ما يُنشَر في وسائل التواصُل الاجتماعي، وقالوا: «هناك لغة حادَّة تجعل الدماء تغلي، وليست موجَّهةً فقط ضدّ سياسيٍ معيَّن». وتابعوا: «وهذا ليس مقصورًا على تويتر وشبكات التواصُل الاجتماعي. وهذا يشبه حريقًا تصعب السيطرة عليه. وهناك منشورات فظيعة في الشبكات، ولا نعرف من يتابعها ومن يعمل لتنفيذها. يتحمَّل الناس مسؤولية وضع صورة أيّ شخص على أيّ شيء، والخوف أنَّ يزداد الأمر سوءًا، وهذا يجب ألَّا يستمرّ، وعامل الوقت مهمٌّ جدًّا».
كذلك تطرَّق وزير الدفاع بيني غانتس لبيان رئيس «الشاباك»، وقال: إنَّ «على قادة الجمهور مسؤوليةٌ خاصَّة. وكشفت الأيام الماضية أنَّنا لم نتعلَّم دروسَ أحداث الماضي. وكُلّ من يحاول نزع الشرعية عن الإجراءات الديمقراطية الأساسية ويُشعِل نار التحريض، سيتحمَّل أيضًا المسؤولية. وأنا أدعو الجميع إلى الامتناع عن أيّ مظهر من مظاهر العنف. وهذا وقت خروج قادة الجمهور علنًا وبشكلٍ صارم وفعَّال ضدّ العُنف بشكلٍ عام، والعُنف على خلفيةٍ سياسيةٍ خصوصًا”.
ويُضيف معلِّق الشؤون العسكرية رون بن يشاي أنَّ تحذير رئيس «الشاباك» يذكِّرنا بتحذير مماثل صدر عن رئيس «الشاباك» في 1994م كرمي غيلون قبل مقتل إسحاق رابين، إذ طلب غيلون آنذاك الالتزام بالحوار مع رئيس المعارضة حينها بنيامين نتنياهو، وحذَّره من أنَّ مظاهرات اليمين والمستوطنين، وفتاوى رجال الدين ضدّ رابين، والصور التي تُظهِر رابين معتمرًا الكوفية، أو بالزي النازي، والبيانات النارية في ميدان «تسيون» قد تُشعِل عنفًا ينتهي بالقتل. وذكَّرَ غيلون حينها بمقتل الناشط اليساري أميل غرونزويك على يد يونا أفروشمي، خلال مظاهرة لحركة «السلام الآن» في 1983م. ورغم امتناع نتنياهو حينها عن الخطابات الحماسية، إلّا أنَّه لم يقُم بما طلبه منه غيلون، في حديث جرى بينهما. ويبدو أنَّ رئيس «الشاباك» الحالي أرغمان استخلص الدرس، وكغيلون آنذاك هو يخشى من المظاهر الحماسية الاندفاعية والعُنف في الشوارع، خاصَّةً من جانب عناصر اليمين، الذين يحاولون بتشجيعٍ من رئيس الحكومة الضغط لمنع إقامة حكومة التغيير برئاسة نفتالي بينت ويائير لابيد.
وأعادت شعارات المتظاهرين السبت 05 يونيو 2021م أمام منازل نير أورباخ وأيليت شاكيد ونفتالي بينت من حزب «يمينا»، وكذلك ما قاله الحاخامات لمنع تشكيل الحكومة، إلى الأذهان حملةَ التحريض في الأيّام التي سبقت اغتيالَ رابين في نوفمبر 1994م. لذلك قرَّر أرغمان -على عكس غيلون آنذاك- الخروج بدعوة علنية لتهدئة الأجواء، وفي نفس الوقت تحميل نتنياهو المسؤولية الأخلاقية كرئيس للحكومة لتهدئة النفوس، والعمل لجعل الخطاب الجماهيري أكثر اعتدالًا.
كذلك يحاول أرغمان أيضًا منع «مسيرة الرايات»، التي سيُنظِّمها حزب «الصهيونية الدينية» وتنظيمات اليمين الأُخرى المقرَّر إقامتها الأسبوع المقبل، والتي قد تؤدِّي إلى إشعال الاضطرابات من جديد في القدس. وإصدار رئيس الشاباك تحذيرًا علنيًا كهذا، يجعلُ من الصعب على السياسيين، وعلى رأسهم نتنياهو، تجاهُله.
من جهته، رفض الحاخام حاييم دوركمان في وقتٍ متأخِّر من مساء السبت، الادّعاء بأنَّ دعوة الحاخامات لإفشال قيام حكومة بينت–لابيد تتضمَّن تحريضًا. وقال في مقطع فيديو علَّق فيه على تحذير رئيس «الشاباك»: «الرسالة لا تتضمَّن أيّ تحريض، التحريض موجود فقط في خيال أولئك الذين يقولون ذلك».
أمّا نجل رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو، يائير نتنياهو، فعلَّق على بيان رئيس «الشاباك» عبر حسابه على «تويتر» بالقول: «يا للعار، خلال العامين الماضيين حرَّض اليسار بشدَّة ضدّ رئيس الحكومة، وضدّي، وضدّ عائلتنا، وجميع وسائل الإعلام؛ ومع ذلك، ظلَّ رئيس الشاباك والشرطة والنيابة العامَّة صامتين. والآن يحاولون تكميمَ أفواه اليمين، ووسمَ أيّ انتقادٍ من جانبهم بالتحريض».
هذه الأجواء والمعطيات تُنبئ بأسبوعٍ مشتعلٍ في إسرائيل، حتّى الموعد المقرَّر لمصادقة «الكنيست» على تشكيلة بينت–لابيد الحكومية، يوم الأربعاء أو الخميس المقبل. وما يجري بين الطرفين معركةُ كسرِ عظم، لا يمكن معها سوى انتظار نتيجتها حتّى نهاية الأسبوع الجاري.