بينما تشهد الساحة العراقية تطوُّرات داخلية وخارجية زادت من حدَّة أزماتها وتعقيداتها، على خلفية تداعيات الانخراط العسكري للميليشيات المسلَّحة الموالية لإيران ضمن الحرب المشتعلة في غزة على المشهدين الداخلي والخارجي للعراق، كشفت أوساط شيعية عراقية عن مساعي رئيس الوزراء الأسبق زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي للتقارب من خصمه رجل الدين الشيعي زعيم التيّار الصدري مقتدى الصدر، وذلك لإنهاء واحدة من أهمِّ الصراعات الشيعية في الساحة العراقية. حيث دخل التحالفان الشيعيان الكبيران عدَّة جولات صراعية محتدمة للغاية، ومستمِرَّة منذ سنوات، على الزعامة والمرجعية والسُلطة والنفوذ في المعادلة العراقية، وتفاقمت منذ انطلاق الاحتجاجات «التشرينية» الفارقة والفاصلة بين مرحلتين في الحياة السياسية العراقية قبل خمس سنوات، ووصلت في بعض الجولات لحدِّ الاشتباكات المسلَّحة بين التحالفين الشيعيين المؤثِّرين بشكل كبير في المشهد العراقي.
تطرحُ مساعي المالكي، المنضوي تحت لواء «الإطار التنسيقي»، الذي يضُمّ بين مكوِّناته أحزابًا وتيّارات مدعومة من إيران، للتقارب من الصدر في هذا التوقيت، تساؤلات هامَّة ومتعدِّدة، لما لتلك المساعي -حال تكلُّلها بالنجاح- من تداعيات كبيرة على طبيعة وملامح الخريطة السياسية الشيعية بالعراق، وعلى إعادة تشكيل السُلطة في العراق، بل وعلى مواقف الأطراف الشيعية المتصارعة تجاه القضايا المركزية العالِقة بينهما، بينها: ما الدوافع أو المحرِّكات الحقيقية وراء خطوات المالكي للتقارب من الصدر؟ وخصوصًا في ظل انضمام المالكي لـ «الإطار التنسيقي»؟ فهل يعني ذلك بدايةً لانقسام قوي بين تحالفات «الإطار التنسيقي» يُفضي إلى تفكُّكه؟ وهل لإيران يد في خطوات المالكي تجاه الصدر لإنهاء الصراع الشيعي-الشيعي، والذي يُعَدُّ أحد المعضلات الجوهرية للتمدُّد الإيراني في الساحة العراقية، وما فُرَص وتحدِّيات التقارب بين المالكي والصدر؟ وما مستقبل مساعي المالكي للتقارب من الصدر على ضوء حجم الخلافات الجوهرية بين الطرفين، بل وعلى ضوء التطوُّرات الداخلية والخارجية للساحة العراقية؟
أولًا: دوافع ومحفِّزات المالكي للتقارب مع الصدر
على الرغم من تمكُّن «الإطار التنسيقي»، الذي يُعَدُّ تحالفُ دولة القانون بقيادة المالكي أحد أهمّ تحالفاته، في نهاية الجولة الصراعية الأخيرة مع التيّار الصدري على آلية تسمية وتشكيل الحكومة (الصدر تمسَّك بحكومة وطنية والمالكي بحكومة توافقية)، خلال العام 2022م، من تسمية وتشكيل حكومة محمد شيّاع السوداني، التي تحدَّد عُمرها في المنهاج الوزاري بعام فقط من تاريخ تشكيلها في أكتوبر 2022م، وتجرى انتخابات برلمانية مبكرِّة، غير أنَّه لم يكُن فوزًا بطعم الانتصار، وإنَّما جاء بطعم الخسارة؛ لأَّنه لم يأتِ على خلفية حصول «الإطار» على العدد الأكبر في المقاعد الانتخابية، بل جاء على خلفية تعويض الهزيمة الساحقة في الانتخابات بانسحاب نوّاب الصدر من البرلمان، بل وإعلان الصدر اعتزاله للحياة السياسية؛ ما ترك بالنهاية في ذهن المالكي بل في العقل الجمعي لرموز وقادة «الإطار التنسيقي»، مدى قوَّة «التيّار»، وحجم أوراقه العديدة المؤثِّرة في المشهد العراقي، وهو ما يفسِّر تشكيل «الإطار» لحكومة تقترب من التوازن إلى حدٍّ ما، بل وتخشى من عودة أنصار «التيّار» للتظاهر في أيِّ وقت.
ظلَّ المشهد العراقي في ظل هيمنة «الإطار» محكومًا بالمعادلة السابق بيانها (توازُن الحكومة في سياساتها الداخلية والخارجية إلى حدٍّ ما، وخشيتها من عودة الصدر للساحة وقلْب الأوراق من جديد في أيّ وقت)، إلى حين بداية الحرب الإسرائيلية الدائرة في قطاع غزة، وقرار الميليشيات المسلَّحة الموالية لإيران بالعراق الانخراط العسكري في الحرب لصالح فصائل المقاومة الفلسطينية أكتوبر 2023م، وتبدلَّت المواقف وافترقت، ليس في الجانب العسكري فقط بين أقرب الميليشيات المسلَّحة، التي تُدين بالولاء لمرجعية قُم، وإنَّما على الصعيد السياسي بين حُلفاء الأمس داخل «الإطار التنسيقي» ذاته، ولذلك تخلخلت المعادلة الحاكمة للمشهد العراقي، وتباعدت مواقف أطرافها؛ وفيما يلي أبرز محفِّزات التحوُّل في موقف المالكي بالاّتجاه نحو التقارب مع الصدر:
1. التباين في جهات نظر التحالفات التابعة لـ «الإطار التنسيقي»
انقسمت مواقف تحالفات وفصائل «الإطار التنسيقي» تجاه حجم الانخراط العسكري في غزة، ما بين مجموعتين شيعيتين: الأولى، تحالفات رافضة لتجاوُز حدود الاشتباك التقليدي وتوسيع الانخراط العسكري واستمراريته ضدّ الأهداف الأمريكية مثل تحالف دولة القانون بزعامة المالكي، وتحالف الفتح بزعامة زعيم منظَّمة بدر هادي العامري، وتحالف قُوى الدولة بقيادة زعيم تحالف النصر رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي، وزعيم تحالف الحكمة عمّار الحكيم، وذلك ليس تأييدًا للحضور الأمريكي بالعراق، وإنَّما لأسباب تتعلَّق بالظروف، التي يمُرّ بها العراق وتعقُّد أزماته، وتجنُّبًا لإحراج الحكومة العراقية المشكَّلَة من «الإطار» أمام الإدارة الأمريكية، على نحوٍ يدفعها إلى اتّخاذ قرارات ترتِّب تداعيات لرُبَّما قاسية على حكومة السوداني، والثانية تحالفات وفصائل مؤيِّدة لتجاوز حدود الاشتباك التقليدي وتوسيع الانخراط العسكري واستمراريته تجاه الأهداف الأمريكية، مثل حركة حقوق بقيادة حسين مؤنس، والأمين العام لكتائب حزب الله العراقي أبو حسين الحميداوي، وقائد حركة النجباء أكرم الكعبي.
ولذلك، يُعَدُّ المالكي من بين الرافضين لمسألة تجاوُز قواعد الاشتباك مع الولايات المتحدة في العراق، ولقاعدة التوازن الحاكمة للمعادلة العراقية، لما لذلك من تداعيات على الحكومة العراقية، التي شَكَّلتها تحالفات «الإطار التنسيقي»، وبينها تحالف دولة القانون الذي يتزعمه المالكي، علاوةً على انسجام موقف المالكي مع الموقف الإيراني الرافض لتجاوُز قواعد الاشتباك التقليدي؛ خشيةَ رسائل الردع الأمريكية القوية، والتي يمكنها أن تؤثِّر على عمل الحكومة العراقية، على نحوٍ يؤدِّي إلى عودة الصدر إلى الشارع العراقي من جديد؛ ولذلك طلبت إيران، عبر قائد «فيلق القدس» إسماعيل قآاني، من قادة الميليشيات الموالية لها بالعراق تخفيض هجماتها ضدّ الأهداف الأمريكية.
وعلى ما يبدو أنَّ المالكي قد اكتشف أن اعتزال أقوى خصومه وعدوه اللدود للحياة السياسية، لم يُنهِ عقدته في قيادة المكوِّن الشيعي والتأثير في المشهد العراقي، حيث لم يوفِّر اعتزال الصدر التوازن للمالكي بوجود حُلفاء اكتشف أنَّهم غير موثوقين لصالح تعزيز نفوذه وقوَّته في المعادلة العراقية، لا سيّما في ظل تخوُّفه من أن يترتَّب على تعاظُم العلاقة الصاعدة بين قائد ميليشيا عصائب أهل الحق قيس الخزعلي ورئيس الحكومة العراقية محمد شياّع السوداني، ولادة تحالف شيعي قوي يخرج عن سيطرته بل ويقلِّص نفوذه في المشهد العراقي. ولذلك، وجد المالكي في تشجيع الصدر على العودة للحياة السياسية ووضْع صيغة ثنائية قوية؛ «المالكي-الصدر»، وسيلةً مُثلى لقطع الطريق لولادة مثل ذلك التحالف، والذي لرُبَّما بات أكثر ما يقلق المالكي، والذي بات يؤمن بواقعية وجهة النظر الإيرانية القائلة بأنَّ عُزلة الصدر تدفع نحو تعميق الانقسام، والتمهيد لاقتتال شيعي-شيعي كارثي.
2. تقديرات المالكي حول نيّة الصدر العودة للحياة السياسية
من ناحية أخرى، لرُبَّما قرأ المالكي عددًا من المؤشَّرات، على أنَّها رغبة من الصدر للعودة التدريجية للحياة السياسية من جديد، يتقدَّمها دعوة الصدر للجماهير للنزول لساحات الاحتشاد تضامنًا مع الشعب الفلسطيني ضدّ الحرب الإسرائيلية في غزة، وما حملته من رسالة على استمرارية احتفاظ الصدر بورقة الشارع بل وتنامي قُدرته على التحشيد والتعبئة، وأنَّ جماهيره رهْن الإشارة على خلفية الاستجابة السريعة للجماهير العريضة لدعوته، وتوجيهه رسالة لحكومات مصر والأردن وسوريا ولبنان، يطلب فيها السماح لمناصريه الصدريين بالوصول السِلْمي لحدود فلسطين، ودعوته للشعوب العربية إلى اعتصام مفتوح على الحدود الفلسطينية لحين فكّ الحصار عن غزة.
المالكي أيضًا رُبَّما قرأ الزيارة الخاصَّة والغامضة، التي أجراها الصدر لمنزل المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، بالتزامن مع نقاش شيعي-شيعي حول تعديل قانون الانتخابات تمهيدًا لإجراء انتخابات برلمانية مبكِّرة، على أنَّها ذات صِلة بمستقبل العملية السياسية بالعراق، وأنَّها تعكس العلاقة الجِّيدة بين الصدر والسيستاني، الذي أغلق بابه أمام العديد من السياسيين، بمن فيهم قادة في «الإطار التنسيقي»، ثمّ توجيه الصدر لقيادات «التيّار» بالعودة إلى القواعد الشعبية للتواصل مع الجماهير في مختلف المناسبات، والتي فُهِمت على أنَّها تمهيدٌ للعودة إلى الساحة من جديد.
3. توقُّعات بوقوف إيران خلف مساعي المالكي للتقارب مع الصدر
يرى بعض المراقبين إمكانية وقوف إيران خلف التحوُّل في موقف المالكي تجاه الصدر، بهدف رأْب صدْع البيت الشيعي-الشيعي، الذي أثَّر بشكل كبير على المساعي الإيرانية للتوسُّع في الساحة العراقية؛ لأنَّ إيران وجدت في ضعْف الظهير الشيعي-الذي تُعِدُّه العمود الفقري لتمرير مشروعها التوسُّعي في العراق بسبب الانقسام بين المالكي والصدر- تحدِّيًا كبيرًا أمام الحفاظ على مكتسباتها، وتمرير بقية مخطَّطاتها.
كما أنَّ هناك امتعاض إيراني من تنامي المصالح الخاصَّة لبعض الميليشيات المسلَّحة في المعادلة العراقية الراهنة، على نحوٍ قد يرتِّب ردّ فعل انتقامي أمريكي يؤثِّر على المعادلة القائمة، التي يهندسها «الإطار التنسيقي» المدعوم من إيران في العراق، بل ورُبَّما تورِّط إيران في حرب مفتوحة مع الولايات المتحدة، تكون لها تداعيات على إيران ومستقبل نفوذها الإقليمي. ولذلك، كشفت الأوساط الإعلامية عن زيارة أجراها قائد «فيلق القدس» الإيراني إسماعيل قآاني للعراق في 29 يناير 2024م، والتقى خلالها، بمطار بغداد الدولي، بقادة بعض الجماعات المسلَّحة، بعد يومٍ واحد من إلقاء واشنطن اللوم على إيران وميليشياتها وتحميلها مسؤولية مقتل الجنود الأمريكيين في قاعدة البرج؛ وذلك بهدف الضغط على قادة الميليشيات للحدِّ من الهجمات أو تخفيفها ضدّ الأهداف الأمريكية.
ثانيًا: أهم فُرَص التقارب بين المالكي والصدر
تتوافر أمام كُلٍّ من المالكي والصدر العديد من الفُرَص للتقارب، وتجعل من التقارب بينهما أيسر الطُرُق لتفادي عددٍ من التحدِّيات والمخاطر المُحتمَلة، والتي قد يطال تأثيرها كلًا منهما؛ ومن أبرز تلك الفُرَص، ما يلي:
1. دخول الصراع بين المالكي والصدر لمرحلة النضوج
يدخل أيّ صراع داخلي أو خارجي طور النضوج بما يفضي إلى أرضية مشتركة يمكن عندها أن تقترب أطراف الصراع من قبول التسوية، عندما يشعر كل طرف من أطراف الصراع أو أحد أطرافه، بالتوصُّل إلى قناعة شبه تامَّة بعدم امتلاك مزيدٍ من الأوراق لتعظيم المكاسب من استمرارية أمد الصراع، وهو ما قد ينطبق إلى حدٍّ ما، على أقلّ تقدير، على مواقف التحالفات الشيعية الكبيرة، حيث أدركت كافَّة التحالفات الشيعية عدم امتلاكها كافَّة أوراق الحسم، أو مزيدًا من أوراق الحسم لتبوُّء موقع القيادة المنفردة للمكوِّن الشيعي؛ وفيما يخُصّ موقفي المالكي والصدر، في هذا الصدد:
- قراءة المالكي العقلانية لقوَّة الصدر في المشهد العراقي: كما سبق القول، على الرغم من تمكُّن «الإطار التنسيقي» من تشكيل الحكومة، لكنّه يدرك ركائز قوَّة الصدر وأوراق ضغطه القوية في المعادلة العراقية؛ قاعدةٌ جماهيرية عريضة، تأثيرٌ سياسي كبير، ذراعٌ مسلَّح قوي، إرثٌ شعبي وحوزوي كبير لعائلة الصدر، وقاعدةٌ روحية وسِماتٌ كاريزمية، والتي يمكنُه من خلالها تعقيد الأوضاع أمام أيّة حكومة مشكَّلة من قِبَل التحالفات المحسوبة على إيران. وبالتالي، لرُبَّما بات المالكي، ورُبَّما من خلفه إيران، على قناعة شبه تامة، بعد اختبار قوَّة الصدر في الجولات الصراعية السابقة مع «الإطار التنسيقي» طيلة عامين ماضيين، على أنَّه ليس فقط ورقة لا يمكن تجاوزها في المعادلة العراقية، بل الورقة أو الرقم لرُبَّما الأقوى في المشهد العراقي.
- قراءة الصدر الموضوعية لقوَّة الأذرع الموالية لإيران في المشهد العراقي: لرُبَّما توصَّل -أيضًا- الصدر من الجولات الصراعية مع المالكي خلال السنوات الماضية، والتي شكَّلت اختبارًا حقيقيًا لحجم قوَّة ونفوذ التحالفات الشيعية في الساحة العراقية، إلى نتيجة مفادها صعوبة تجاوُز التحالفات والأذرع المحسوبة على إيران، فلم يتمكَّن الصدر من تحقيق أهدافة طيلةَ السنوات الماضية؛ بسبب قوَّة السلاح المنفلِت في الشارع، فلم يفلح في تبوُّء مقعد القيادة المنفردة للمكوِّن الشيعي، ولم يتمكَّن من تشكيل حكومة على أُسُس وطنية داعمة لمسار الدولة، وآلَ الصراعُ الشيعي في الجولة الأخيرة بينه وبين المالكي لصالح تشكيل حكومة توافقية لا وطنية، فلرُبَّما بات الصدر على قناعة بعدم القُدرة على حسْم الصراع لصالحِة في جولات قادمة، مع استمرارية قناعته بصحة الافتراض القائل إنَّ إيران لن تقدِّم تنازلات بسهولة تُفضي إلى تراجُع في التمدُّد بدون ضغوط قوية لأسباب تتعلَّق بمركزية العراق في المشروع الإقليمي.
2. ميْل كافَّة الأطراف الداخلية والخارجية للحفاظ على قاعدة التوازن
يُدرك الخصمان الشيعيان الكبيران؛ تحالفُ دولة القانون والتيّارُ الصدري، أنَّ غالبيةَ القُوى السياسية والعراقية المؤثِّرة في المعادلة العراقية، باتت على قناعة شبه تامة بضرورة الحفاظ على قاعدة التوازن في الداخل بين أنصار مساري الدولة واللا دولة، وعلى قاعدة التوازن في العلاقات الخارجية للدولة العراقية بين الفواعل الإقليمية والدولية في الساحة العراقية، والتي تفضِّل بدورها الحفاظ على قاعدة التوازن؛ وذلك لتحقيق الأمن والاستقرار بالداخل في المقام الأول، بإبعاد البلاد عن دائرة تصفية الحسابات بين الأطراف الإقليمية والدولية المتصارعة، ومساهمة الشركاء الإقليميين والدوليين في حلحلة الأزمات الخدمية وغير الخدمية المعقَّدة، بل وفي دعم وتعزيز الجهود العراقية نحو إعادة الإعمار والتنمية للمحافظات المحرَّرة من تنظيم داعش، ما من شأنه في النهاية بناءُ العراق الجديد المستقِرّ والمؤثِّر في الشأنين الإقليمي والدولي بما يخدم مصالحه.
ثالثًا: أبرز تحدِّيات التقارب بين المالكي والصدر
تبرُز أمام هذا المشهد المتحوِّل في توجُّهات المالكي للتقارب من الصدر، العديد من التحدِّيات، التي قد تُعيق تحقيقَ وفاقٍ بين الطرفين، منها:
1. مركزية قضايا الصراع بين المالكي والصدر
يتّسِم الصراع العالِق بين الصدر والمالكي، بأنَّه صراعٌ مركزي يدورُ حول موقع الزعامة والقيادة للمكوِّن الشيعي، وأولوية سيادة المرجعية للمكوِّن الشيعي؛ النجف أم قُم، وطبيعة توجُّهات الدولة وسياساتها الداخلية والخارجية، وآلية تسمية رؤساء الحكومات وتشكيلها، وثنائية الدولة واللا دولة، حيث يمتلك كلاهما مشروعين متضادّين. يتمسَّك الصدر بمشروع سياسي يُعلي من بناء الدولة المستقِلَّة، وتكوين حكومات أغلبية وطنية تحت مظلَّة دولة عراقية ذات سيادة تخلق توازنًا بين قُواها الداخلية وعلاقاتها الخارجية. بينما يقاتل المالكي على مشروعه السياسي المتعلِّق باستمرارية الطبيعة التوافقية عند تشكيل الحكومات، في ظل دولة تخضع للقرار الميليشياوي المدعوم من إيران، ولم يُظهِر المالكي والصدر-حتى تاريخه- أيّ مرونة تجاه تلك الصراعات العالِقة.
كذلك، يشكِّل المالكي والصدر نموذجين فكريين متوازيين، رُبَّما لا يلتقيان أبدًا، ما دام لم يعلِن كليهما أو أحدهما قبولَ الخط الفكري للآخر، وكلاهما يمثِّل مشروعًا مغايرًا تمامًا عن مشروع خصمه، وخصوصًا أنَّ المالكي يمثِّل المشروع الشيعي العابر للحدود في ظل ولاية الفقيه. ومن ثمَّ يُعَد الصراع بينهما امتدادًا للصراع بين النجف وقُم؛ ما يوفِّر تعقيدًا إضافيًا للصراع، لا سيّما أنَّ الفجوة الفكرية بين الخطين شاسعةٌ للغاية.
وقد يصعُب تقديم تنازلات مرضية في القضايا العالِقة تُسفر عن تسويتها بين الجانبين، وبالأخصّ في قضية الصراع على الزعامة الشيعية، كما يمتلك الطرفان أوراقَ قوَّة مؤثِّرة في المشهد العراقي، رُبَّما تجعل من الصعوبة تقديم التنازلات في سبيل التسوية، خاصَّةً في ظل عدم وجود مؤشِّرات على تراجُع في مواقف الطرفين تجاه القضايا العالِقة، واستمرارية تمسُّك الصدر بمسار الدولة بما يضمن الانتقال لعراقٍ جديدٍ مستقِلّ وذو سيادة يقيم علاقات خارجية على أساس التوازن، بينما يسعى المالكي لمسار الإبقاء على مصالحه، التي تدعمها إيران؛ ما يجعل من العراق تابعًا لإيران، وخاضعًا لسطوة الميليشيات المسلَّحة على نحوٍ يعزِّز النفوذ الإيراني.
2. طول مدَّة أمد الصراع العالِق دون تسوية
يمتدُّ الصراع العالق بين المالكي والصدر لأكثر من عقْد ونصف العقد من الزمان دون تسوية، حيث من الصعب على الصدر تناسي سياسة الإقصاء والتهميش ضدّ رموز التيّار الصدري أثناء فترتي رئاسة المالكي للحكومة (2006م-2014م)، والتسريبات المنسوبة للمالكي المسيئة للصدر في يوليو 2022م، والتي أدخلت العلاقة بين الطرفين إلى مرحلة متأزِّمة للغاية، بوقوفها خلف اندلاع المواجهات الدامية بين أنصارهما المعتصمين بالمنطقة الخضراء نهاية أغسطس 2022م وأسفرت عن قتلى وجرحى ليس بالعشرات بل بالمئات.
كذلك لا ينسى الصدر مساعي المالكي وحلفائه من التحالفات الموالية لإيران، للتأثير على الظهير الشعبي الواسع للصدر، بطُرُق مختلفة، إمّا بمحاولة نزْع الشرعية المرجعية منه مثلما أكَّد المرجع الحائري -الذي يقلِّده الصدريين- على عدم بلوغ الصدر لدرجة «الاجتهاد»، ودعوة أتباعه إلى الانتماء لمرجعية قُم، أو بالنيل من مرجعية والده بتقديم الإساءات لسُمعته في أغسطس 2023م، حيث انتشرت مقاطع ومنشورات على مواقع ومنصَّات التواصل الاجتماعي، اتّهم خلالها أنصاره حسابات إلكترونية مرتبطة بحزب الدعوة، الذي ينتمي إليه المالكي، تسيء إلى سُمعة وسيرة المرجع الشيعي الراحل محمد صادق الصدر أو الصدر الأب (والد مقتدى الصدر)، وتوجيه الاتّهامات له بأنَّه كان على علاقة جيِّدة بنظام صدام حسين.
في المقابل، سبق أن وقف الصدر في عدَّة مرات دون حصول المالكي على ولاية حُكم جديدة، في العديد من المحاولات لتشكيل الحكومة، آخرها موقف الصدر دون قُدرة المالكي على تشكيل الحكومة، قبل تشكيلها من قِبَل رئيس الحكومة محمد شيّاع السوداني، كما وقف التيّار الصدري أمام رغبة تحالف دولة القانون في قيادة المشهد الشيعي، بالإضافة إلى تقليص فُرَص تأثير المالكي في معادلة الحُكم العراقية.
3. ضبابية رؤية الصدر لمستقبل الدولة العراقية
يُؤخَذ على الصدر عدم امتلاكه لرؤية واضحة لمستقبل الدولة العراقية؛ ما يجعله متخبِّطًا فيما يُخّص العمل السياسي حينًا، ومرتكبًا أخطاءً إستراتيجية في صراعه السياسي مع خصومة الموالين لإيران والداعمين لمسار اللا الدولة في أحايين كثيرة؛ ولذلك أصبح غير قادر على تحديد آليات تنفيذ وتحقيق مسار الدولة بما يُفضي إلى بناء عراق جديد. ومن ثمَّ يرى العديد من المراقبين أنَّ الصدر لا يجيد فن المرونة والمراوغة السياسية بجدارة، وكسْب الخصوم بحيطة وحذر ضمن مبدأ الكسب بالنقاط، لتعزيز أزمات الخصوم وتقليص مكاسبهم، وإنَّما يعتمد على مبدأ الانقلاب المفاجئ للحلفاء والخصوم في آنٍ واحد في مواقفه وسياساته، مثل دفعه نوّاب كتلته البرلمانية لتقديم الاستقالة في يونيو 2022م؛ وبالتالي ترك الساحة فارغةً أمام الخصوم. وبالنهاية يربط المراقبون بين عدم امتلاك الصدر لرؤية واضحة لمسار الدولة وبين تحقيق التقارب مع المالكي.
رابعًا: مستقبل خطوة المالكي وتداعياتها على الخريطة الشيعية بالعراق
في ظل محاولات المالكي لرأب الصدع مع الصدر، تبرز العديد من السيناريوهات، التي قد نرى بروزها على الساحة العراقية في ظل هذه المعطيات، ومنها:
1. سيناريو قبول الصدر بالتقارب
ويعني تكلُّلَ جهود المالكي للتقارب من الصدر بالنجاح، وتسوية قضايا الصراع البينية، وعودة الصدر للحياة السياسية. ويدعم تحقُّق هذا السيناريو، فُرَص التقارب بين الطرفين من حيث مستوى دخول الصراع مرحلة النضوج، ولرُبَّما وصول الطرفين إلى قناعة متبادلة شبة تامَّة بعدم القُدرة على الانفراد بقيادة المكوِّن الشيعي، وإدراكهما المتبادل بصعوبة إزاحة أيٍّ منهما عن المشهد بحُكم تعدُّد أوراق ضغْط ومرتكزات قوَّة كل طرفٍ فيهما، ورُبَّما صحة ما تداولته أوساط إعلامية بتطابق وجهات نظر الصدر والمالكي، إلى حدٍّ كبير، بشأن التعديلات المقترحة على قانون الانتخابات البرلمانية بما يخدم عودةً قوية للصدر، وميْل غالبية التحالفات الشيعية والسُنِّية والكُردية، بل والحكومة العراقية ذاتها، للحفاظ على قاعدة التوازن في الداخل والخارج. حيث أدركت تلك التحالفات أيضًا أهمِّية الحفاظ على صيغة التوازن لإرساء الأمن والاستقرار؛ وبالتالي صعوبة انضمام تلك التحالفات لأحد الطرفين، فضلًا عن مواقف الفواعل الإقليمية، التي باتت مقتنعةً بضرورة تحقيق التوازن في المعادلة العراقية؛ لصعوبة تحقُّق انفراد أحد الأطراف بقيادة المكوِّن الشيعي.
وحال تحقُّق هذا السيناريو، سيتشكَّل تحالفٌ سياسيٌ قوي يُعيد تشكيلَ السُلطة من جديد في العراق، ويتوقَّع انضمام بعض التحالفات الشيعية الكُردية والسُنِّية المؤيدة لمسار الدولة، مثل تحالف تقدم بقيادة محمد الحلبوسي وتحالف النصر بقيادة العبادي والحكمة بقيادة عمار الحكيم والحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود بارزاني؛ وبالتالي تفكُّك «الإطار التنسيقي» عمليًا وإمكانية تحول بقية تحالفاته الموالية لإيران إلى معارضة للتكتل الجديد المحتمل تشكله حال تحقق سيناريو التقارب بين الصدر والمالكي، خصوصًا أنَّ هناك خلافات جوهرية بين تحالفات «الإطار التنسيقي»، الذي بات كل تحالف من تحالفاته يعطي الأولوية لمصالحة الخاصَّة على حساب مصالح «الإطار»، تجاه المسافة من الصدر، ومسألة ضرب الأهداف الأمريكية بالعراق، وقاعدة التوازن في المعادلة العراقية.
2. سيناريو استمرارية القطيعة التامَّة
ويعني إخفاقَ جهود المالكي في التقارب من الصدر؛ وبالتالي استمرارية الصراع بدون تسوية بينهما. ويدعم تحقُّق هذا السيناريو تحدِّيات التقارب بين الطرفين، من حيث مركزية قضايا الصراع بين المالكي والصدر، وخصوصًا قضية الصراع على زعامة ومرجعية المكوِّن الشيعي، وتبايُن المواقف حول مساري الدولة واللا دولة، وآلية تشكيل الحكومات، وعدم إعلان الصدر نيتهُ رسميًا للعودة للحياة السياسية، وعدم ردّه على مطالب المالكي، وعدم وجود مؤشِّرات على أيَّ مرونة يبديها الطرفان تجاه تلك القضايا، فضلًا عن ضبابية رؤية الصدر لمستقبل الدولة العراقية، والصراع المُحتمَل بين القُوى السياسية في العراق لسدِّ الفراغ الأمريكي حال الانسحاب الأمريكي من العراق. وحال تحقُّق هذا السيناريو، سيظل «الإطار التنسيقي» قائمًا، وإن تباعدت مواقف أطرافه؛ لأن حسابتهم حينها، ومن خلفها إيران، سترى في استمراريتهِ الوسيلةَ المقبولة لمواجهة التيّار الصدري، حال عودته للحياة السياسية من جديد.
3. سيناريو العودة إلى العلاقة المتأرجِحة بين القطيعة والتوافق
وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا، ويعني عودة العلاقة بين المالكي والصدر إلى مرحلة ما قبل أزمة التسريبات المسيئة المنسوبة للمالكي بحق الصدر يوليو 2022م، وذلك حال عودته للحياة السياسية، وهي مرحلة لا تُوصَف بالقطيعة التامة بين الطرفين ولا بالتقارب التام أيضًا، بل كانت تنافسيةً على حسْم القضايا الخلافية العالِقة كلٌّ لصالحه، وعلى تبوُّء موقع الرقم الأكثر تأثيرًا في المشهد الشيعي برمَّته بشكل خاص، وفي المعادلة العراقية بشكل عام. ويدعم تحقيق هذا السيناريو صعوبة تقديم تنازلات مُرضِية من المالكي للصدر؛ لكون المالكي مرتبط بحدود الدور المسموح به من إيران، التي ترى أنَّها حقَّقت مكتسبات في العراق وتسعى لتنفيذ بقية مخطَّطاتها، التي تتعارض ومسار بناء الدولة المدعوم من الصدر، وصعوبة أن يقبل الصدر بتقديم تنازلات للمالكي تُفضي إلى استمراريته بنفس التأثير في ظل المعادلة القائمة، حيث سبق أن رفض الصدر مرارًا وتكرارًا المشاركة في عملية سياسية تضمن نفوذًا للوجوه القديمة، وفي مقدِّمتها المالكي، وحال دون تسميته رئيسًا للحكومة قبل تشكيلها من قِبل محمد شيّاع السوداني. وحال تحقُّق هذا السيناريو، سيعود الطرفان للتنافس في الساحة السياسية، لكن يتوقَّع دخول «الإطار التنسيقي» في أزمة تؤدِّي إلى تفكيكه، بما يؤثِّر على فُرَص وتأثير المالكي في المشهد العراقي لصالح الصدر.وختامًا، تكشف مساعي المالكي للتقارب من الصدر، عن مسألة غاية في الأهمِّية، تتعلَّق بمستقبل «الإطار التنسيقي» المدعوم من إيران، وعن مروره بمعضلة رئيسية تعكس وجود خلافات جوهرية داخل «الإطار»، لرُبَّما تؤدِّي إلى زواله في الانتخابات البرلمانية المقبلة، مقابل تأسيس تحالفات شيعية جديدة. وتكشف أيضًا عن إمكانية أن يكون لإيران دورٌ في مساعي المالكي، وعن تنامي مسألة الحسابات الخاصَّة والمصالح الشخصية لقادة بعض التحالفات والميليشيات الموالية لإيران في الساحة العراقية؛ ما يزيد من فُرَص الانقسام والتناحر بشكل أكبر، وإمكانية خروج بعض تلك التحالفات والميليشيات عن الخط الإيراني المرسوم نحو تحقيق المصالح والمكاسب الخاصَّة، وهو ما من شأنه الإسهام في اندلاع انقسامات وصراعات جديدة بين التحالفات والميليشيات الموالية لإيران من ناحية، لكن من ناحية أخرى سيزيدُ من فُرَص تأثير الاتّجاه الداعم لمسار بناء الدولة في المشهد العراقي.