تعود قضية حقل الدرة إلى الواجهة مجددًا بعد إعلان إيران عزمها الحفر والتنقيب عن الغاز الطبيعي في هذا الحقل الواقع جغرافيًّا وبحريًّا ضمن الحدود البحرية المشتركة في الخليج العربي بين الدولتين الخليجيتين: المملكة العربية السعودية ودولة الكويت، الأمر الذي فتح سجالًا دبلوماسيًّا واسعًا بين السعودية والكويت من ناحية، وإيران من ناحية ثانية، حول ملكية الحقل والأطراف التي تملك الأحقية في الحفر والتنقيب والعوائد، في ظل تمسك طهران بحصتها ورفضها الاحتكام إلى مبدأ ترسيم الحدود البحرية، وهو ما يطرح تساؤلات حول دلالات الادعاءات الإيرانية، وردود الفعل السعودية والكويتية حول الادعاءات الإيرانية، وتداعيات الأزمة على المصالحة الخليجية-الإيرانية، التي تحققت على خلفية الاتفاق الذي توسطت فيه الصين في مارس 2023م حول عودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران.
أولًا. سمات وإشكاليات حقل غاز الدرة
1. إشكالية الرفض الإيراني لترسيم الحدود البحرية:
مضت أكثر من 6 عقود على الخلاف التاريخي بين الكويت والسعودية من ناحية، وإيران من ناحية ثانية، على حقل الغاز المعروف كويتيًّا وسعوديًّا باسم حقل «الدرة»، والمعروف إيرانيًّا باسم «آرش»، وترفض إيران مبدأ ترسيم الحدود البحرية لتسوية النزاع، إذ بدأ الخلاف منذ ستينيات القرن الماضي عندما منحت الكويت شركة «رويال داتش شل» امتيازًا بحريًّا، ومنحت إيران الشركة النفطية البريطانية-الإيرانية امتيازًا بحريًّا لاستغلال مخزونه.
تدّعي إيران أحقيتها مع السعودية والكويت في الحقل بمزاعم وقوع قسم منه ضمن منطقتها الاقتصادية الخالصة، فيما ترفض القبول بمبدأ الترسيم لبيان الأحقية، وتطالب باستثمار ثلاثي مشترك للحقل، وتعترض على أي جهود ثنائية سعودية-كويتية لتطوير الحقل، مثل اعتراضها على مضمون مذكرة التفاهم التي وقعتها السعودية والكويت في مارس 2023م لتطوير الحقل، ووصفتها بغير القانونية كونها استبعدت إيران من تطوير الحقل، وهددت ببدء عمليات التنقيب فيه.
تطورت النزاعات بين الطرفين الخليجي والإيراني على الحقل منذ 2001م، عندما أعلنت إيران نيتها التنقيب عن الطاقة في الحقل، وردَّت كل من السعودية والكويت بتوقيع اتفاق لترسيم الحدود البحرية لتطوير مكامن الطاقة السعودية-الكويتية المشتركة، وقد استمر النزاع إلى أن جاء أغسطس 2015م، لتستدعي الخارجية الكويتية القائم بأعمال السفارة الإيرانية لديها احتجاجًا على مساعي إيران لتطوير الحقل.
بنهاية 2019م، وقَّعت الكويت والسعودية مذكرة تفاهم لتطوير واستغلال مخزون الحقل من الطاقة، وفي أبريل 2022م جددت الدولتان الخليجيتان الدعوة لإيران لعقد مفاوضات لترسيم الحدود وتعيين الحد الشرقي من المنطقة المغمورة المشتركة بينهما، وترجمتا بنود مذكرة تفاهم 2019م فعليًّا في اتفاق مارس 2022م، وكل ذلك فيما ترفض إيران مبدأ الترسيم لبيان الأحقية الملكية وحق الامتياز لاعتبارات جيوسياسية وسياسية واقتصادية وقانونية خاصة بها.
2. إشكالية تعاظم الحاجة إلى الغاز عربيًّا وإقليميًّا وعالميًّا:
اندلعت الأزمة في ظل توقيت حساس للغاية يرتبط بمتغيرات عديدة، منها تداعيات تعطش أسواق الطاقة العالمية للغاز الطبيعي على خلفية امتناع الروس عن تصدير الغاز لأوروبا باعتباره ورقة ضغط ضد الأوروبيين لدعمهم ومساندتهم كييف في الحرب الروسية-الأوكرانية، وتنامي مطالب الدولتين الخليجيتين المحلية من الغاز الطبيعي وسوائله، مع ارتباط غالبية مصدّري الغاز إلى أوروبا بعقود طويلة الأجل تمنعهم من سد العجز المطلوب لتعويض الغاز الروسي لأوروبا. في ما يلي بيان أهمية حقل الدرة من الناحيتين الإستراتيجية والاقتصادية، التي قد تفيد في تفسير طبيعة النزاع مستقبلًا:
- القيمة الاقتصادية للحقل مقارنة بالاحتياطات العالمية: تقدر احتياطياته من الغاز الطبيعي بنحو 220 مليار متر مكعب، وهي نسبة بسيطة تقدر بنحو 0.1% من نسبة الاحتياطات العالمية المقدرة بنحو 211 تريليون متر مكعب بنهاية 2022م، لكنها عربيًّا وإقليميًّا نسبة مهمّة لسدّ احتياجات الطلب الخليجي المتنامي على الغاز، ما جعلها محط أطماع طهران التي تمتلك مخزونات هائلة مشتركة غير مُستغَلّة بنسبة كبيرة مع قطر، أو حقول خاصة بما لا يجعلها مصدرًا كبيرًا للغار لاعتبارات عديدة، بينها العقوبات الدولية المستمرة.
- الميزة الإستراتيجية للحقل بالنسبة إلى الاحتياجات المحلية: يقع الحقل في الجزء الشمالي الغربي للخليج العربي، تحديدًا في المنطقة المحايدة الضحلة بين السعودية والكويت. وقد عطل النزاع عليه مسألة الإنتاج منذ تاريخ اكتشافه في ستينيات القرن الفائت، وتنبع أهميته للسعودية والكويت -وإن كان حجم مخزونه قليلًا نسبة إلى الاحتياطي العالمي- من إمكانية مساهمة مخزونه في تلبية الطلب المحلي المتزايد من الدولتين على الغاز وسوائله، وزيادة قيمته الإستراتيجية باعتبارها أصلًا من الأصول الإستراتيجية للدول خلال السنوات الأخيرة مقارنة بقيمته خلال مراحل تاريخية ماضية، ما يفسر تمسُّك الدولتين بالحفاظ على الحقل، لا سيما في ظل الاتجاه العالمي للاعتماد على الغاز الطبيعي وأزمة الغاز في أوروبا.
يكشف مخزون الغاز الكبير غير المستغَلّ المتاح لإيران، سواء لجهة اشتراكها مع قطر في أكبر حقل للغاز في العالم أو لجهة امتلاكها لحقول خاصة من الغاز الطبيعي مقابل المخزون القليل المتاح في حقل الدرة مع عدم قبولها مبدأ الترسيم مع السعودية والكويت، عن رغبة إيرانية في التوظيف السياسي للأزمة بوصفها ورقة ضغط ضد الدول الخليجية خلال المرحلة المقبلة الجديدة في العلاقات الخليجية-الإيرانية، لضمان تقديم الدول الخليجية تنازلات في الملفات الإقليمية العالقة، ورغبتها في تفكيك الموقف التفاوضي الخليجي خلال المرحلة المقبلة إلى عدة أطراف في تعاطيهم مع إيران، وبالتحديد السعودية والكويت، بتأكيد بيانها للتفاوض مع الكويت فقط فيما كان البيانان السعودي والكويتي واضحين في هذا الصدد بحديثهما عن الطرفين معًا، مع إيصال رسالة إلى الدول الخليجية بضرورة الفصل بين قضية الحقل والملفات الإقليمية الأخرى خلال المرحلة الجديدة من العلاقات مع إيران، وقد تأتي هذه المزاعم الإيرانية بأحقيتها في الحقل لشَغل الشارع الإيراني عن القضايا الداخلية، ما يشير إلى بداية جولة من صراعات الغاز في الخليج العربي تشبه إلى حدٍّ ما أزمة غاز شرق المتوسط، ولذلك لم تقبل بترسيم الحدود لتطول الأزمة وتظل تستخدمها متى شاءت وتتراجع عنها متى شاءت باعتبارها ورقة ضغط مستمرة في حقيبتها.
ثانيًا: دوافع ودلالات الادعاءات الإيرانية بالأحقية بالتنقيب في حقل الدرة
تعلم إيران جيدًا أن كل ما تحاول إثارته وطرحه للرأي العام حول أحقيتها في حقل الدرة تغيب عنه الثوابت القانونية، ما يطرح أسئلة عدة عن أسباب ودوافع محاولة طهران إثارة الأمر في هذا التوقيت، فهل تتعامل إيران مع حقل الدرة على أنه بمنزلة «ورقة سياسية» تستخدمها لتحقيق أغراض أخرى؟ وبافتراض أن الأمر كذلك، فلماذا أثير هذا الشأن في هذا التوقيت، في ظل وجود مؤشرات جيدة للعلاقة بين إيران ودول المنطقة، وذلك بعد أن شهدت المنطقة العربية عامة، والخليجية بشكل خاص، حراكًا دبلوماسيًّا على مستوى وزارة الخارجية الإيرانية لتحسين العلاقات وحل الملفات العالقة مع دول الجوار؟
1. افتعال أزمة حقل الدرة للبحث عن مكاسب سياسية:
بين الحين والآخر، تبرز تصريحات ومواقف إيرانية بشأن حقل الدرة للغاز الطبيعي الواقع في المياه الإقليمية بين السعودية والكويت، وكما أسلفنا فقد أطلقت طهران الادعاءات الأخيرة بعد أكثر من عام من اتفاق الكويت والسعودية على بدء تطوير الحقل، مستندةً فيها على ثغرة عدم ترسيم الحدود البحرية بينها وبين الكويت بعد مماطلات مستمرة من جانبها لدعوات الأخيرة على مدى أعوام لإجراء مباحثات لتسوية النزاع حول حقوق الترسيم البحري، واعتراضها بشكل خاص لإجراء عملية الترسيم وفق قانون التحكيم الدولي الذي يمكن أن يدحض مطالبتها بهذا المجال. ولا يغيب هنا أن هذه الادعاءات تزامنت في توقيتها مع تسرُّب الأخبار عن وجود محادثات بين طهران وواشنطن حول اتفاق نووي جزئي بينهما، وفي توقيت يشهد فيه العالم أزمة طاقة عالمية اشتدت مع استمرار العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، بجانب وجود عديد من القضايا والملفات التي لا تزال عالقة بين إيران وعدد من الدول الخليجية رغم مرور أربعة أشهُر على اتفاقية المصالحة الدبلوماسية بينها وبين المملكة العربية السعودية.
نتيجة لهذه الاعتبارات، لا يُستبعد أن تكون إثارة طهران للملف بهدف استغلال قضية الحقل لتحقيق مكاسب سياسية في المنطقة، واستخدامها بوصفها ورقة تفاوضية أمام دول المنطقة للحصول على اتفاق أفضل وحل للخلافات القائمة حول بعض القضايا الأخرى ذات الأولوية العالية لإيران. وليس بالضرورة أن يكون هذا التصعيد تصعيدًا حقيقيًّا يهدف إلى الدخول في صراع مع السعودية والكويت، ولو كانت تسعى إلى ذلك بالفعل لكان بإمكانها أن تبدأ بالحفر، خصوصًا أن علاقاتها خلال السنوات الماضية بجيرانها الخليجيين كانت في أدنى مستوياتها، كما أن ادعاءاتها الأخيرة اتَّسمَت بلهجة أقل حدّة وعدوانية مقارنةً بالسنوات السابقة، كما تقف الاعتبارات السابقة وتجنب إلحاق الضرر بعلاقاتها مع الصين أسبابًا مستبعدة لخيار سعي إيراني لجرّ المنطقة إلى صراع عسكري.
2. البحث عن بعض المكاسب الاقتصادية في ظل أزمتها الداخلية المتفاقمة:
بجانب البحث عن مكاسب سياسية خلف إعادة تجديد المطالبات الإيرانية في حقل الدرة، يقف البعد الاقتصادي والقيمة الإستراتيجية لهذا الحقل باعتبارهما من الدلالات الأخرى المستخرجة من المطالبات الإيرانية بأحقية مشاركتها في التنقيب، فإيران تمتلك أكثر من 28 حقلًا مشتركًا بينها وبين السعودية والإمارات والعراق وكذلك الكويت، وتمتلك الأخيرة وعبر حقل الدرة مخزونًا غازيًّا ضخمًا غير مُستغَلّ، وقد يحقق للدولة عوائد قد تساهم في تخفيف وطأة تفاقم أزماته الداخلية، ولكن طهران تدرك أيضًا أنه في ظل البنية التحتية لصناعة النفط والغاز المهترئة في إيران، التي لم يجرِ تطويرها منذ عهد الشاه محمد رضا بهلوي، يوجد عزوف كبير من الشركات الأجنبية عن الاستثمار في حقولها الخاصة أو في الحقول المشتركة، ما أفقدها واحدًا من أهم الموارد الاقتصادية للدولة، وبالتالي ففي ظل التعقيدات السابقة، والقدرة الاقتصادية للكويت والسعودية، فإنَّ أفضل حل أمام طهران هو إشراكها في خطط استثمار وتطوير هذا الحقل.
3. شَغْل الداخل الإيراني بقضايا خارجية:
إحدى الدلالات التي يشير فيها تجديد المطالبات الإيرانية بنصيب في الحقل رغم غياب الأحقية والمرتكز القانوني في ذلك، أنها مجرد محاولات لتهدئة الاحتقان الداخلي وتصوير حكومة رئيسي باعتبارها مدافعًا شرسًا عن المصالح الوطنية لإيران، كما سعت قبل ذلك إلى تقديم اتفاقها مع السعودية في مارس الماضي في الإعلام الإيراني بوصفه انتصارًا لسياسات حكومته وصوابية توجهاته.
4. إشارة إلى الموقف الداخلي الملتبس:
الموقف الإيراني من حقل الدرةورفض الترسيم البحري للحدود بين إيران والكويت، والمطالبة قبل ذلك باعتراف الكويت بسيطرة إيرانية أو بحصة أربعين في المئة لإيران قبل البحث في أي ترسيم للحدود، كل هذا يعكس في باطنه تناقضًامع ما يصدر عن طهران نفسها من دعوات إلى تصفير المشكلات وصولًا إلى إقامة نظام أمني واقتصادي إقليمي يقي المنطقة التدخلات الخارجية، كما أنه يشير إلى عدم وضوح الرؤية الإيرانية تجاه نظرتها إلى الجوار الخليجي، لا سيما ما يتعلق بعودة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، وحالة الانقسام داخل النظام بين راغب في استمرار الاتفاق مع الرياض والمضيّ قُدمًا في تعزيزه في مختلف المجالات للاستفادة منه اقتصاديًّا وإقليميًّا، وبين آخرين معارضين للاتفاق وداعمين لإفساد المصالحة مع السعودية وإفشالها لاستمرار التوتر مع السعودية.
ثالثًا: تنسيق وردّ فعل مشترك من السعودية والكويت
لقى ادّعاء إيران بحقوقها في حقل الدرة ردود فعل قوية من جانب المملكة العربية السعودية والكويت، إذ رفضتا بصورة قاطعة ادعاءات إيران، بل جرى بصورة رسمية تأكيد الجانبين على ثلاث مسائل رئيسية:
الأولى: تأكيد أن المنطقة البحرية التي يقع بها حقل الدرة للغاز توجد في المناطق البحرية لدولة الكويت، والثروات الطبيعية فيها مشتركة بين الكويت والسعودية فقط.
الثانية: تأكيد أن للسعودية والكويت وحدهما كامل الحقوق السيادية لاستغلال الثروات في تلك المنطقة، وبالتالي استمرار العمل من جانب الكويت والسعودية لتنفيذ ما جرى الاتفاق عليه بموجب المحضر الموقَّع بينهما بتاريخ 21 مارس 2022م بشأن التعاون في تطوير حقل الدرة، وما جرى توقيعه من مذكرات تفاهم في السابق.
الثالثة: رفض الكويت والسعودية أي إجراء أو أعمال تخص الحقل من جانب إيران.
الرابعة: دعوة البلدين إيران لبدء مفاوضات ترسيم الحد الشرقي للمنطقة المغمورة المقسومة بين المملكة والكويت باعتبارهما طرفًا تفاوضيًّا واحدًا مقابل الجانب الإيراني، وفقًا لأحكام القانون الدولي.
وقد كان جليًّا وجود تنسيق مشترك سعودي-كويتي يعكس عمق المصالح المشتركة، إذ قال الأمير عبد العزيز بن سلمان وزير الطاقة بالمملكة العربية السعودية إنّ الكويت والسعودية تريدان بحث موضوع غاز الدرة باعتبارهما فريقًا واحدًا مع إيران، لأن الموارد في الحقل مصلحة مشتركة للبلدين، كما وجَّه خادمُ الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، صاحبَ السموّ الملكي الأمير تركي بن محمد بن فهد بن عبد العزيز، وزير الدولة عضو مجلس الوزراء، لزيارة الكويت ونقل رسالته إلى القيادة الكويتية. ويعكس هذا الموقف التنسيق المشترك السعودي-الكويتي بشأن هذه القضية، كما أنه يعكس رغبة في الحوار والتفاهم، وذلك اتساقًا مع حالة التهدئة التي تمرّ بها علاقات إيران بالخليج، والتي لا يرغب أي طرف في التراجع عنها، لكن مع عدم التفريط في الحقوق أو تقديم التنازلات.
ويُلاحَظ أنه على الرغم من التأكيد السعودي-الكويتي للحق القانوني في ثروات حقل الدرة، باعتبار أنه يقع في المنطقة الخالصة لهما، وأن لهما الحق وحدهما في الثروات الطبيعية التي يحتوي عليها الحقل، فإنّ الجانبين السعودي والكويتي قد دعوَا إيران للبدء في مفاوضات لترسيم الحد الشرقي للمنطقة المغمورة المقسومة بين المملكة والكويت باعتبارهما طرفًا تفاوضيًّا واحدًا مقابل الجانب الإيراني وفقًا لأحكام القانون الدولي. ويستند الموقف السعودي والكويتي إلى أن الاتفاقيات الدولية لترسيم الحدود البحرية تؤكد أن حقل الدرة حقل كويتي-سعودي حدودي، وليس للجانب الإيراني أي جزء أو حقوق فيه، وقد عبَّر هذا الموقف من جانب السعودية والكويت عن عدم رغبة في التصعيد مع إيران، وجنوح إلى استكشاف فرص تسوية النزاع من خلال الدبلوماسية، وهو ما يتفق مع نهج السعودية الخارجي خلال الفترة الأخيرة.
لكن ذلك لا يعنى أن السعودية تقدّم أي تنازلات لإيران، بل على العكس، فقد عكست مواقف كل من السعودية والكويت صلابة بشأن هذه القضية ودفاعهما عنها بشتى الطرق، وسعي للدفاع عن سيادة البلدين لحقل الدرة. ويشار هنا إلى أن مجلس الأمة الكويتي وافق على تشكيل لجنة الشؤون الخارجية لمتابعة الإجراءات والخطوات الحكومية تجاه حماية السيادة الوطنية وحفظ الثروات الطبيعية في حقل الدرة البحري، كما أكدت السعودية والكويت كذلك عزمهما على تنفيذ خططهما بشأن تطوير الحقل، دون الالتفات إلى ادعاءات إيران، وذلك تنفيذًا لمذكرات التفاهم التي نصَّت على التعاون المشترك في تطوير الحقل واستغلال موارده.
ونظرًا إلى أن الأطراف جميعها تميل إلى الدبلوماسية في ما يخص هذه المسألة، فقد كانت ردود الفعل الدولية والإقليمية متواضعة باستثناء التأييد الأمريكي للموقف الكويتي، إذ قال القائم بأعمال السفارة الأمريكية في الكويت جيمس هولتسنايدر: «تابعنا تقارير إعلامية أيضًا حول هذا الموضوع، ولقد كانت الحكومة الكويتية واضحة للغاية بشأن مطالبتها بملكية حقل الدرة، ونتطلع إلى العمل مع شركائنا الكويتيين في هذه القضية»، وهذا التأييد مفهوم في إطار الصراع المتصاعد بين إيران والولايات المتحدة في الخليج، وكذلك علاقتها الإستراتيجية مع الكويت والمملكة العربية السعودية.
رابعًا: تأثير وتداعيات أزمة حقل الدرة على المصالحة الخليجية-الإيرانية
ليست هذه المرة الأولى التي يثار فيها موضوع حقل الدرة الغازي بين إيران والكويت والمملكة العربية السعودية، فهو إحدى قضايا الحدود العالقة بين دول المنطقة، والتوتر حول المسألة الذي كان محل خلاف منذ ستينيات القرن الماضي بقي في الإطار الدبلوماسي ولم يتطور إلى مواجهة بين الطرفين. كما أن الأزمات الكبيرة التي عرفتها العلاقات الخليجية-الإيرانية عمومًا، والكويتية-السعودية من جهة وإيران من جهة أخرى، كانت لأسباب مختلفة لم يكن من بينها الخلاف حول حقل الدرة. انطلاقًا من هذه الخلفية التاريخية، من المرجح أن يستمرّ الخلاف على نفس المنوال السابق، ولا يتطور إلى تصعيد دبلوماسي كبير فضلًا عن المواجهة العسكرية، خصوصًا أن التوافق السعودي-الكويتي والتفاوض باعتبارهما طرفًا واحدًا في القضية مقابل إيران يحقق بعضًا من توازن القوة الذي لا تحبذه إيران، وتسعى للتفاوض بشكل ثنائي للاستفراد بالكويت ودفعها لتقديم تنازلات لصالحها.
يُستبعد من ناحية ثانية التوصل إلى تسوية نهائية للملف، نظرًا إلى إصرار الطرف الإيراني على مواصلة رفض اللجوء إلى التحكيم الدولي لتسوية الخلاف حول ترسيم الحدود، وهو الشرط الذي تؤكده كل من الكويت والسعودية قبل مناقشة موضوع حقل الدرة. تدرك إيران أن التحكيم الدولي سيفسح المجال لمطالبة الإمارات العربية المتحدة بدورها بمعالجة قضية الجزر المحتلة من المدخل نفسه، وهو ما سيترتب عنه التزامات قانونية تتعارض مع التفسير الإيراني لمسائل الحدود مع جيرانها الخليجيين، وقد يخلص التحكيم الدولي إلى نتائج تخسر بموجبها كثيرًا من المزايا أو كحد أدنى يمنحها حقوقًا أقل بكثير مما تطالب به حاليًّا وتدّعيه.
تشير المعطيات أعلاه إلى هامش المناورة الضيِّق الذي تستطيع إيران أن تتحرك فيه، لذلك قد تكون الخطوات الإيرانية الأخيرة محاولة من إيران لإعادة فتح باب التفاوض حول الموضوع، كما يمكن أن ترتبط إدارة ملف حقل الدرة بملفات أخرى في العلاقات الخليجية-الإيرانية، لعل أهمها بعض علامات الاستدارة العراقية نحو الخليج واتفاقية الربط الكهربائي التي تخصم من النفوذ الإيراني في العراق، لذلك يمكن تفسير الخطوات الإيرانية بأنها رد فعلى على التشبيك الخليجي في المجال التنموي والاقتصادي الذي يشكل تحديًا كبيرًا لها، وتسعى للتموضع إما بموازاته وإما فيه، بحثًا منها عن حصة من المشاريع الاقتصادية والتجارية في المنطقة كعوائد للاتفاق مع السعودية.
توصُّل السعودية وإيران إلى اتفاقٍ أنهى قطيعة دامت لسبع سنوات، لا يقتضي بالضرورة نهاية كل القضايا الخلافية بين الطرفين، خصوصًا على شاكلة حقل الدرة المرتبطة بمسألة ترسيم الحدود السابقة لوجود النظام الحالي، التي تراوح مكانها منذ عقود طويلة. والتحدي الأساسي هنا يكمن في القدرة على الفصل بين هذه القضية والقضايا الأخرى التي تكون لها تداعيات مباشرة وخطيرة على العلاقات بين الطرفين، وتحديدًا تلك المتصلة بالشؤون الداخلية للدول، والتي كان أغلبها السبب المباشر للأزمات الخليجية-الإيرانية.
خاتمة:
تمثل قضية حقل الدرة الخلاف الأول بين إيران والسعودية بعد الاتفاق المبرم بينهما في العاصمة الصينية بكين في مارس الماضي، الذي أثمر عن عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وبالتالي سيكشف التعاطي الإيراني مع هذه الأزمة اختبارًا حقيقيًّا للنيات الإيرانية، إما باتخاذ مسار التصعيد وإما باللجوء إلى التهدئة وإظهار الرغبة في الذهاب بعيدًا في سياسات حسن الجوار وتصفير المشكلات والأزمات مع دول الجوار، من خلال ضبط الخطاب والسلوك واستحضار لغة الحوار والتفاهم، وتجنب أسلوب الهجوم والتأزيم الذي كثيرًا ما توظفه إيران في تعاطيها مع المشكلات في سياساتها الخارجية بشكل عام، وفي علاقاتها مع دول الخليج العربي بشكل خاص.