تتسارع الأحداث بشكلٍ درامي في أفغانستان، حيث تتهاوى الحكومة الهشَّة في كابُل مقابل سيطرةٍ كاملة من قِبل حركة «طالبان» على الأراضي ودخول المدن والأقاليم دون قتالٍ حقيقي يذكر، مِمَّا أدى إلى موافقة الحكومة الأفغانية على تسليم السُلطة وتشكيل حكومة انتقالية في البلاد.
وقال مسؤولان في «طالبان» لـ«رويترز»: «لن تكون هناك حكومةٌ انتقالية في أفغانستان والحركة تتوقَّعُ تسليم الحُكم لها بالكامل». لا شكَّ أنَّ هذه التطورات ليست محصورة في إطارها المحلي الأفغاني، بل إنَّ المحرك الأساس قد يكون خارجيًّا في المقام الأول مع وجود رغبةٍ متواصلة لدى حركة «طالبان» في العودة إلى قيادة أفغانستان مُجدَّدًا رغم حالة الرفض المجتمعي داخل البلاد للحركة بوصفها نظامًا سياسيًّا يقود البلاد في ظل الصورة النمطية السلبيَّة للحركة لدى شرائحَ كثيرة من المجتمع الأفغاني وبخاصَّة النساء والشباب.
لقد كانت أفغانستان مساحةً مفتوحةً للصراعات بين القوى الكبرى لعقودٍ طويلة ومساحة للتنافس أيضًا بين الدول الإقليميَّة؛ نظرًا لما تتمتَّعُ به هذه البلاد من موقعٍ إستراتيجي مُهم من حيث ممرَّات التجارة البرية شمالًا وجنوبًا، وتجاربَ عسكريَّة غيرت موازين القوى على مستوى العالم، حيث تحوَّل العالم من ثُنائي القطبين بوجود الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي إلى أُحادي القطبية بعد أن كتب الصراع في أفغانستان شهادةَ وفاة العملاق السوفيتي رغم ما يملكهُ من عتادٍ عسكري وقنابل نووية ونفوذٍ كبير خارج حدوده الجغرافية. واليوم تتعزَّزُ أهمية أفغانستان مجدَّدًا في ظل توتر العلاقات الأمريكية مع معظم دول الجوار الأفغاني وبخاصَّة الصين وروسيا وإيران وباكستان.
لا شكَّ أنَّ التطورات الحاليَّة في أفغانستان ليست بمعزلٍ عن التاريخ وإنْ اختلف اللاعبون الرئيسون أو طبيعة الصراع وأهدافه والأدوات المُستخدمة فيه. وعليه، سنحاول في هذا المقال استعراض أبرز هؤلاء اللاعبين على الساحة الأفغانية ومصالح كلّ طرفٍ وأهدافه.
أولًا، لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دورًا بارزًا في ما يحدث الآن في أفغانستان وهناك قناعةٌ لدى كثيرين بأنَّ ما يحدث في أفغانستان ليس مجرد نتيجةٍ للانسحاب الأمريكي من البلاد بعد جولاتٍ من المباحثات في الدوحة القطرية لعِدَّة سنوات، وقد يكمُن السر في مفاوضات الدوحة بذاتها وبعيدًا عن الحكومة الأفغانية في كابُل حيث عقدت صفقةً مع «طالبان» ليس لعدم التعرض للمصالح الأمريكية في البلاد أو عدم التغاضي عن الجماعات المتطرّفة فحسب، بل لمساعدتها في تحقيق أهدافها في المنطقة مقابل تولِّي الحركة السُلطة في كابُل.
من ينظرُ للموقع الإستراتيجي الذي تحتلهُ أفغانستان بين الصين وروسيا الوجود الأمريكي في المنطقة، والأهميَّة الإستراتيجية للأراضي الأفغانية في مبادرة «الحزام والطريق» وإعادة إحياء طريق الحرير الصيني، وبالطبع الحرب التجاريَّة المتصاعدة بين الصين وأمريكا ولا سيّما أنَّ بكين نجحت كثيرًا في النجاة من المحاصرة البحرية الأمريكية في بحر الصين عبر الاعتماد على التجارة البرية، ومن ذلك الطريق البري الذي يربط باكستان بالصين، يدرك أهميَّة أفغانستان في مواجهتها مع الصين.
بعبارةٍ أخرى، قد يكون من المنظور الإستراتيجي الأمريكي توظيفُ أفغانستان لمحاصرة التنين الصيني، وقطع الطرق البرية التي تمرُ عبر أفغانستان من خلال إعادة الفوضى إلى منطقةٍ جغرافية أدمنت على هذه الحالة من الحروب الأهليَّة وتصفية الحسابات الدوليَّة على الاراضي الأفغانية.
إلى الجانب التجاري، هناك بُعدٌ أمني في إطار الاستهداف الأمريكي للصين، إنَّ المتابع للتصريحات الأمريكية خلال السنوات القليلة الماضية يجدُ تركيزًا مُمنهجًا على وضع المسلمين الإيغور في إقليم شينجيانج الصيني، والاضطهاد والتعذيب الذي تتعرضُ له هذه الأقليَّة المسلمة في الصين.
من المعلوم أنَّ هذا الإقليم يمثِّلُ خط تماسﱟ بين الصين وأفغانستان وإنْ لم يكُن هناك معابرُ برية رسميَّة؛ نظرًا لجغرافية المنطقة الوعرة. من هذا المنطلق وفي ظل الفوضى القادمة في الأراضي الأفغانية التي تُعَد أرضًا خصبة لتوالد الجماعات المتطرّفة، لا نستبعدُ ظهور نسخةٍ جديدة من «القاعدة» أو «داعش» ولكن بمسمى جديد وسوف يتسللُ سريعًا إلى الحدود مع الصين وبالتالي إشغال الصين أمنيًّا إلى جانب عرقلة الشريان التجاري الجديد للصين.
ثانيًا، استشعرت الصين من جانبها هذا الخطر مبكرًا وبدأت في تكثيف اتصالاتها مع حركة «طالبان» واستقبلت بكين مؤخرًا وفدًا رفيعًا من قيادات الحركة كرسالةِ طمأنةٍ للصين. هناك تسريباتٌ إعلاميَّة، وإنْ كانت غير منطقية في نظري، أيضًا تتحدث عن صفقة يتمُ بلورتها بين «طالبان» والصين بحيث تقوم الثانية بدعم الأولى بالمال والسّلاح والمعدَّات مقابل التعاون معها في قمع الإيغور والقضاء على المساعي الانفصاليَّة في منطقة تركستان.
قد تكون «طالبان» أكثر ذكاءً من الجانبين الأمريكي والصيني وأدركت جيِّدًا هواجس وأهداف كلّ جانب، وبالتالي عملت على إستراتيجية بيع الوهم للجانبين إلى حين سيطرتها الكاملة على أفغانستان وتوليّها إدارة البلاد، وستُجيب مرحلةُ ما بعد تمكين «طالبان» على كثيرٍ من الأسئلة المطروحة حاليًّا.
ثالثًا، يُعَد الموقف الإيراني من التطورات في أفغانستان حتَّى اللحظة موقفًا متوجِّسًا ينتظر التطورات ويتحاشى مهاجمة هذا الجانب أو ذاك من الفرقاء في أفغانستان.
يركِّزُ كثيرٌ من المحلِّلين على النمط الكلاسيكي للعلاقة بين «طالبان» وإيران وأنَّ الاختلاف الأيديولوجي يجعل هذين الغريمين متنافرين في علاقتهما. هذا صحيحٌ خلال مرحلة ما قبل 2001م، لكن بعد الاجتياح الأمريكي لأفغانستان تغيرت طبيعة هذه العلاقة وتمَّ بناء جسور قوية (وحتَّى وإنْ اعتقد البعض أنَّها تمثِّلُ علاقة الضرورة أو المصالح) تجاوزت الدعم اللوجستي والاستخباراتي الإيراني لـ«طالبان» إلى الحديث عن فتح مكتبٍ للجماعة في مدينة مشهد بالقرب من الحدود مع أفغانستان. كذلك تردُّدْ قادة الحركة على إيران بشكلٍ متواصل ولعلنا نتذكر الاستهداف الأمريكي للقيادي في «طالبان» ملا أختر منصور عبر طائرةٍ مسيرة خلال عودته من إيران. المتتبِّع أيضًا للتصريحات الإيرانية في السنوات القليلة الماضية حول «طالبان» يلحظ حالةً من النغمة الناعمة تجاه الحركة، فعلى سبيل المثال: في مقابلة تليفزيونية أجرتها قناة «طلوع TOLO» الأفغانية مع وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف، سأل المذيع الضيف الإيراني عن موقف إيران من «طالبان» وأخذ ظريف يتحاشى الإجابة المباشرة وقال بعد ضغطٍ كبير من المذيع: إنَّ «طالبان» جزءٌ من الحلّ المستقبلي لأفغانستان وإن كانت قد ارتكبت عمليَّاتٍ إرهابية في السابق فلا نستطيع حاليًّا وصفها بذلك حتَّى وإن كانت إيران تصنِّفها جماعة إرهابية تبعًا لتصنيف الأمم المتحدة، وقد صرفنا النظر عن الانتقام منها جرَّاء عمليَّاتها السابقة التي استهدفت 8 دبلوماسيّين إيرانيين في أفغانستان.
تبقى الإشارة هُنا إلى أنَّ الجيل الجديد من قيادات «طالبان» قد لا يحملُ التعقيدات الأيديولوجية التي كان يحملها الآباء المؤسِّسون، وهناك نظرةٌ براجماتية وأيضًا أهداف سياسية تؤثِّرُ كثيرًا على صناعة القرار في رأس هرم الحركة، وقد يتناسى قادة «طالبان» أنَّ إيران قد لعبت دورًا محوريًّا في سقوط دولتهم السابقة، لكن يعتمد توجّه «طالبان» القادم في التعاطي مع إيران على طبيعة علاقتها مع بقيَّة اللاعبين وبخاصة أمريكا والصين.
في المجمل، ستسعى إيران إلى استثمار الهلع الذي يسيطرُ على المجتمع الأفغاني وبخاصَّة الشيعي؛ لإيجاد حالةٍ من الشرعنة للميليشيات الأفغانية المرتبطة بإيران الموسومة بـِ«لواء فاطميون» الذي أسَّستهُ طهران وأشرفت على تدريبه ونقلتهُ للقتال في سوريا إلى جانب قوات الرئيس السوري وبقيَّة الميليشيات الإيرانية المتناثرة على الأراضي السورية، مع عودة الكثير من عناصر تلك الميليشيا إلى الأراضي الأفغانية وفي ظلّ التصريحات الإيرانية المتواصلة حول تشكيل «الجيش الشيعي» في أفغانستان أو النسخة الأفغانية من «الحشد الشعبي» العراقي، فقد وضعت طهران قاعدةً أساسيَّة لفرص نجاح هذا التوجّه، وهناك مصادرُ أخبرتني: أنَّ إيران قد فتحت النقاش مع الحكومة الأفغانية قبل عِدَّة أسابيع وطلبت حكومة أشرف غني مهلةً لدراسة المقترح، والآن مع سقوط حكومة أشرف غني، يبقى السؤال مطروحًا حول مستقبل «لواء فاطميون» في الداخل الأفغاني وهل ستسمحُ «طالبان» بوجود ميليشيات في البلاد؟
قبل أيامٍ غردتُ عن هذا التسريب المهم وبعد ساعاتٍ قليلة أصدر «لواء فاطميون» بيانًا يردُ بالنفي وتكذيب التسريبات ونشرت ذلك عِدَّة وسائل إعلام إيرانية وعلى رأسها وكالة «أنباء تسنيم» المرتبطة بالحرس الثوري. يجب ألَّا ننسى أنَّ «فيلق القدس» هو المسؤول الأول عن خلق الميليشيات في المنطقة وأنَّ قائده الراهن إسماعيل قآاني كان قياديًّا ميدانيًّا مُهمًّا يركز على الأوضاع في أفغانستان وباكستان، بينما كان قاسم سليماني يتولَّى التنسيق مع الميليشيات المرتبطة بإيران في الدول العربية.
إنَّ المعضلة التي تواجهُ إيران في هذا المِلف تتمثَّل في التوازن في اللعب في الساحة الأفغانية بما يخدمُ مصالحها، وفي نفس الوقت، تتجنَّبُ غضب الصين التي تعتمد عليها طهران اعتمادًا شبه كليّ في البُعد الاقتصادي استيرادًا وتصديرًا.
رابعًا، باكستان، تلك الدولة التي ينظرُ إليها بأنَّها الأب الروحي لحركة «طالبان»، وهناك اتهاماتٌ متكررة لإسلام آباد بأنَّها تمدُ «طالبان» بالمال والسّلاح وتحرك الحركة كيفما تشاء، قد يكون هناك مبالغةٌ كبيرة في سيطرة باكستان على القرار في «طالبان» الأفغانية، لكنَّ الهند الخصم الشرس لباكستان، يرى في سيطرة «طالبان» على أفغانستان عُمقًا إستراتيجيًّا جديدًا لإسلام آباد ويشكلُ خطرًا حقيقيًّا على نيودلهي على المدى المتوسط وبخاصَّة فيما يتعلق بالأوضاع في جامو وكشمير المتنازَع عليها. وفيما يتعلق بموقف «طالبان» من الصين، الشريك الإستراتيجي الاقتصادي لباكستان، فإنَّ أيَّ استهداف من قِبل «طالبان» للصين قد يؤثِّرُ على طبيعة العلاقة الباكستانية مع «طالبان»؛ لما يشكلُ ذلك من أضرارٍ بالمصالح الباكستانية، لكنَّ الصين قد تستثمر علاقتها مع باكستان لتحييد أيّ خطرٍ من «طالبان» يستهدفُ الصين أو مصالحها.
خلاصةُ الأمر: أنَّ التطورات الراهنة على الساحة الأفغانية وعودة حركة «طالبان» بقوة على الساحة السياسيَّة في البلاد، لم تحدُث مصادفةً ولم تكُن مفاجئة للمُتتبِّع للمِلف الأفغاني وبخاصَّة المفاوضات الماراثونية في الدوحة، ورغم كل الالتزامات البراجماتية الأوليَّة المحتمَلة التي قطعتها «طالبان» على نفسها سواءً مع الولايات المتحدة الأمريكية أو مع الصين، ستجدُ الحركة نفسها في موقعٍ يسمحُ لها بإعادة النظر في مصالحها وكيفيَّة تحقُّق أهدافها، كما أنَّ التحليلات السياسيَّة السابقة حول قوة «طالبان» وقبولها مجتمعيًّا أو دوليًّا قد لا تفيد كثيرًا في ظل سياسة الأمر الواقع، ويمكنُ أن تلدغ أمريكا من ذات الجُحر لمرةٍ ثانية بعد أن لُدغت منه في أحداث سبتمبر قبل عقدين من الزمان.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد