فجَّر انتحاري نفسه أمام مبنى وزارة الداخلية في أنقرة في 1 أكتوبر 2023م، الأمر الذي أدّى إلى إصابة ضابِطَي شرطة.. وحسبما أفادت التقارير، توجد شكوكٌ بتورُّط اثنين من المهاجمين، أحدهما فجَّر القنبلة، بينما حيَّد الآخر.. وبعد وقت قصير، أعلن حزب العُمّال الكردستاني مسؤوليته عن الهجوم.
ويبدو أنَّ الانفجار للوهلة الأولى استهدف الوزارة بدلًا من المدنيين، الأمر الذي يُشير إلى نيَّة مُبيَّتة للهجوم. وعلى الرغم من تحقيقه النجاح في الانتخابات، يتعرَّض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لضغوطٍ على خلفية التحدِّيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المستمرَّة في تركيا. وأكد الرئيس التركي باستمرار أهمية الأمن القومي باعتباره موضوعًا محوريًّا في حَملتِهِ الانتخابية، إذ تمكَّن من تأمينِ الفوز في الانتخابات، التي خاضها هذا العام، على الرغم ممّا شهدته من منافسةٍ شديدة، من خلال تأجيج المخاوف والاستفادة من المخاوف المتعلِّقة بالإرهاب. وعلى صعيد آخر، يُظهِر مرشَّح المعارضة كمال قلجدار على أنَّه على علاقة وثيقة بحزب العُمّال الكردستاني.
لا تزال القضية الكردية مثار قلقٍ بالغ لتركيا، لأنَّها تشكِّل تحدِّيًا كبيرًا للأمن الداخلي والحدودي. وفي أعقاب الانفجار الأخير، تمكَّن أردوغان من خلال ردّ الحكومة التركية السريع من تكثيف الحملة الأمنية على عناصر حزب العُمّال الكردستاني وأنصاره داخل وخارج حدود البلاد. وقد نفَّذت السلطات التركية عمليةً أمنية واسعة النطاق على مستوى البلاد، شارك فيها 13400 من أفراد الأمن.
وأعلن وزير الداخلية علي يرليكايا، أنَّ السلطات التركية ألقت القبض على 2554 هاربًا في إطار عملية على مستوى البلاد لمكافحة الإرهاب.
كما استغلَّت أنقرة هذا التفجير فُرصةً لزيادة غاراتها الجوِّية في سوريا والعراق، وأكدت أنَّ الملاجئ الكردية في هاتين الدولتين كانت أهدافًا مشروعة، لأنَّها تشكِّل تهديدًا للأمن القومي للبلاد. وقال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إنَّ «جميع مرافق البنية التحتية والبنية الفوقية والطاقة التابعة لحزب العُمّال الكردستاني ووحدات حماية الشعب، خصوصًا في العراق وسوريا، أصبحت أهدافًا مشروعة لقواتنا الأمنية وقوّاتنا المسلحة ووحدات الاستخبارات، من الآن فصاعدًا».
وحثّ فيدان خلال زيارته بغداد في أغسطس الماضي، العراق على تصنيف حزب العُمّال الكردستاني جماعةً إرهابية، وسعى أيضًا إلى الضغط على قوّات الحشد الشعبي لوقف التعاون مع حزب العُمّال الكردستاني، الأمر الذي يعكس مخاوف أنقرة إزاء التطوُّرات الداخلية في العراق.
وأشارت دبلوماسية فيدان إلى نهْج تركيا الحازم في السياسة الخارجية، وجاء ذلك من خلال استناده إلى العلاقات، التي كان يتمتع بها خلال فترة تولِّيه منصب رئيس المخابرات في البلاد، وتعزيز نفوذها في المنطقة.
خلال الغارات الجوِّية في سوريا، استهدفت تركيا وحدات حماية الشعب، التي قاتلت إلى جانب الولايات المتحدة ضد داعش. وحثَّت أنقرة الولايات المتحدة على وقْف تعاونها مع وحدات حماية الشعب في سوريا، وتعهَّدت بمواصلة هجماتها عبر الحدود ضد العناصر الكردية في سوريا، بعد إسقاط واشنطن طائرة تركية مسيَّرة في المنطقة. وفق ما أفاد التصريح، قال فيدان لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين، إنه «يجب على الولايات المتحدة، باعتبارها حليفًا، وقْف العمل مع منظَّمة وحدات حماية الشعب الإرهابية في شمال سوريا».
تستغل أنقرة القضية الكردية للمساومة مع فنلندا والسويد، وفي الوقت الذي يواجه فيه المشهد الأمني والجيو-سياسي الإقليمي في أوروبا تحدِّيات على خلفية الحرب الروسية-الأوكرانية، تميل السويد بدرجةٍ كبيرة نحو دخول «الناتو»، ودفعت أنقرة في الأشهرِ الأخيرة من أجل تسليم المشتبه بهم من الأكراد قبل تأييد انضمام السويد لحلف الناتو. وتعرَّضت السويد لانتكاسات نتيجة تحفُّظات تركيا على مظاهرات حزب العُمّال الكردستاني واحتجاجاته في السويد ضد قانون ستوكهولم لمكافحة الإرهاب، الذي صدر مؤخَّرًا. وأشاد وزير الخارجية السويدي توبياس بيلستروم بالتشريع الجديد، كونه بمثابة الخطوة النهائية، التي يتعيَّن على السويد اتّخاذها بموجب الاتفاق، الذي أُبرِم مع تركيا العام الماضي، الذي يهدف إلى ضمانِ موافقة أنقرة على عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي.
وتشير التطوُّرات الأخيرة بوضوح إلى أنَّ السويد تواجه ضغوطاتٍ كبيرة من أجل أن تتوصل إلى تفاهُم مع أنقرة حول القضية الكردية.
خلال الأشهر القليلة الماضية، زَعَم قادة حزب العُمّال الكردستاني أنَّ الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق كان يمدُّ يد العون إلى تركيا في حملتها القمعية. واتّهم عضو اللجنة التنفيذية لحزب العُمّال الكردستاني مراد قره يلان، الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يحكُم حكومة إقليم كردستان في العراق، بالتعاون مع تركيا ضدَّ المقاتلين الأكراد في العراق.
وأكد قره يلان وجود فرق شاسع بين القوات العسكرية، واتّهم القوات التركية بـ«ارتكاب جرائم حرب». كما أثار المخاوف إزاء الخسائر التركية، التي لم يعلن عنها، مشيرًا إلى أنَّ الحكومة التركية تُخفي الحجم الحقيقي للخسائر، التي مُنِيَت بها.
وفي ما يتعلَّق بدور الحزب الديمقراطي الكردستاني، قال قره يلان في مقابلة أُجرِيت معه مؤخَّرا: «يجب ألّا تنسى أنَّه إذا لم نكُن هُنا، فإنَّ الدولة التركية بعقليتها المعادية للأكراد لن تعترف حتى بوجودك. وفي حال قضوا علينا، سوف تكونون ضمن مَن سيُقضَى عليهم في المرة القادمة، ويجب أن تدركوا هذا الواقع. يجب عليكم وقْف الدعم للدولة التركية ضد هؤلاء المقاتلين، هؤلاء المقاتلون وطنيون».
تُؤكد اتّهامات قره يلان وجود انقسامات عميقة سائدة بين مختلف الفصائل الكردية، إذ يتعاون بعضها مع قوى إقليمية مثل تركيا في المقام الأول، بسبب المصالح الاقتصادية، بينما يسعى البعض الآخر، مثل حزب العُمّال الكردستاني، إلى الكفاح المسلح من أجل نيل الحقوق الكردية والحُكم الذاتي.
يمَثِّل التفاعل بين المخاوف الأمنية التركية والصراع الكردي والمشكلات الإقليمية لغزًا جيو-سياسيًّا متعدِّد الأوجه، وتترتَّب على ذلك آثار لا يُستهان بها، من ناحية الاستقرار الداخلي لأنقرة ودورها الواسع في الشرق الأوسط. وفي حين تسعى تركيا إلى إدارة المشهد لسياستها الداخلية والخارجية، تظل القضية الكردية عاملًا بالغ الأهمِّية في رسْم معالم نهجها تجاه أوروبا والشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، قَد تُعَقّد التوترات والاختلافات المستمرَّة داخل الحركات الكردية طريق التوصُّل إلى حلٍّ مستدام مع أنقرة.