♦ حال الإقليم: إيران المارقة والصراعات اللامتناهية في المنطقة (2-3)
تطرقنا في التقريرالسابق (1-3) إلى الإخطبوط الإيراني ووسائله وأدواته –كمحتل حقيقي للعراق – وحالة “الصراعات اللامتناهية” الدائر رحاها الآن بالعراق، التي خلفت ليس “عراقاً جديداً”، وإنما “عراقاً ممزقاً مهترئاً”، بدعمها المليشيات الشيعية المسلحة، وإرسالها المقاتلين العسكريين وغير العسكريين على نحو أسفر عن احتلال “داعش” لبعض المحافظات العراقية الحيوية، وضياع العراق الموحد، وظهور دعوات تقسيمه إلى كيانات منفصلة، وتحوله إلى ملاذ آمن للجماعات الإرهابية، والصراع الطائفي الدامي بين فصائله، وأنه في ظل احتلال العراق مكانة كبرى في الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، ليس فقط على المستوى السياسي، ولكن أيضاً على المستوى الديني كذلك، فإنه لا يبدو أن إيران تنوي تفويت أية فرصة في العراق سواء حالية أو قادمة، بل إن الأحداث التي تشهدها المنطقة تدفعها باتجاه إيلاء العراق اهتماماً أكبر، وذلك ما يُثير مخاوف من “عصر إيراني قادم” قد يمثل العراق نقطة انطلاق له، وتجد تلك التخوفات دعائمها في التحركات الإيرانية الواسعة في المنطقة، سواء في سوريا أو لبنان أو اليمن.
♦ الحلقة الثانية (2-3): المشهد السوري المعقد حتى النصف الأول من العام 2016
سـاهمت الحرب الأمريكية على الإرهاب في تعزيز مكانة إيران كدولة إقليمية ذات نفوذ قوي، إذ وفّرت واشنطن لها فرصة مناسبة للحصول على مكانة إقليمية ودولية؛ ثم جاءت بعد ذلك ثورات الربيع العربي مطلع عام 2011 التي شغلت العديد من الدول العربية في أمورها الداخلية،في ذلك الوقت استغلت إيران وبدأت تنفيذ مخططاتها، وحاولت فرض نفوذها وسيطرتها على المنطقة ككل، لكي يكون لها الدور الأكبر، وأن تصبح القوة الفاعلة الوحيدة في المنطقة وفي إعادة تشكيل الدول العربية، من أجل مصلحتها العليا وأهدافها الخاصة.
وتأتي سوريا من بين الدول العربية المستهدفة إيرانياً كنقطة ارتكاز جوهرية في الاستراتيجية الإيرانية، ومن هنا سنتطرق في هذه الحلقة إلى حال سوريا بعد التدخل الإيراني السافر في الحرب الأهلية منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، ومستقبل الدور الإيراني هناك، إذ أصبحت الأزمة السورية تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم في ظل أوضاع دولية وإقليمية شديدة الصعوبة، فضلاً عن التشابك من جهة النظام الأسدي أو الثوار على حد سواء.
بـداية، لا تهم عمائم طهران استمرارية أو عدم استمرارية نظام “الأسد” في حد ذاته بل سوريا كـ – هـــدف استراتيـــجي – بوقوعها في عمق الحزام المذهبي الصفوي الرافضي (القوس أو الهلال الشيعي)، وهو مشروع استعماري توسعي مثله مثل المشاريع الأوروبية – الأمريكية – الإسرائيلية، يمتد من العراق (التي يحكمها حيدر العبادي الموالي لإيران)، مروراً بسوريا (التي يحكمها نظام علوي يتعامل مع إيران كموكلة له في سوريا، وأنها حبل الإنقاذ له)، وصولاً إلى لبنان (التي يتحكم بها حزب الله الشيعي المؤتمر بأمر إيران) فالخليج العربي.
وتطور هذا المشروع التوسعي مع وصول الرئيس السابق “أحمدي نجاد” إلى سدة الحكم في أغسطس 2003 بتدشينه “الخطة التنموية الخامسة” ضمن إطار ميثاق أفق العشرين عاماً (الأفق العشريني) الذي تأسس على قاعدة مذهبية لتحويل إيران بحلول عام 2025 الى المركز الأول إقليمياً على كافة الصعد، وتم تحديد مفهوم هذا “الإقليم” بأنه “منطقة جنوب غرب آسيا”، التي تشمل كلاً من آسيا الوسطى والقوقاز، والشرق الأوسط ودول الجوار، ومن ثم تشتبك إيران مع الوطن العربي عبر دائرتين أساسيتين هما دائرة الشرق الأوسط، ودائرة الخليج.
وتتمثل أهمية سوريا في الفكر الإيراني في كونها تقع في عمق إقليم الشرق الأوسط، إذ إنها تخدم استراتيجية إيران الواسعة بالمنطقة، حيث تمثل الرابط الحيوي ما بين طهران وحزب الله الذي يعتبر أحد أهم مخرجات الثورة الإيرانية، وهم أعضاء في محور المقاومة ضد إسرائيل والطموحات الغربية في المنطقة، كما تؤمن سوريا لطهران الدفاع عن ممرات عبور السلاح للحزب في لبنان من ناحية، والتصدّي –وفقاً للاستراتيجية الإيرانية – للمحور الإقليمي العربي الذي يهدف لاحتواء القوة الجيو- سياسية المتزايدة لإيران من ناحية أخرى.
فسوريا تعتبر بمثابة القلب بالنسبة للاستراتيجية الإيرانية، وما التصريح الصادم لرجل الدين الإيراني “مهدي طيب” في العام 2014 ” حول أهمية سوريا في السياسة الإيرانية بقوله: “إذا هاجمنا الأعداء وكانوا يريدون أخذ إما سوريا أو محافظة خوزستان، فإن الأولوية هنا المحافظة على سوريا، فإذا حافظنا على سوريا معنا، فإن بإمكاننا استعادة خوزستان أيضاً، ولكن إن فقدنا سوريا، لا يمكننا أن نحافظ على طهران” إلا دليلاً على ذلك.
وكعادتها في استغلال الأزمات لتحقيق مصالحها على حساب أشلاء الموتى وحمامات الدم وجثث المدنيين الأبرياء، تنظم إيران ميليشياتها المسلحة بسوريا لتشكيل “حزب الله السوري” على غرار ما حدث أثناء تدشين حزب الله اللبناني في لبنان، ليكون ذراعاً للحرس الثوري الإيراني تمسك بخناق الدولة والمجتمع السوريين كما يفعل نظيرها في لبنان، إذ أعلن القائد السابق للحرس الثوري الإيراني الجنرال حسين همداني – العقل المدبر لإيران للسيطرة على سوريا – قبيل اغتياله بحلب السورية كوكيل إيران في سوريا في أكتوبر 2015 “أن إيران تقاتل اليوم في سوريا دفاعاً عن مصلحة ثورتها”، معتبراً أن “أهمية الحرب ضد قوات الجيش الحر لا تقل عن أهمية الحرب العراقية – الإيرانية 1980-1988، وأن بلاده مستعدة لإرسال 130 ألفاً من عناصر قوات التعبئة (الباسيج) إلى سوريا، متحدثاً “عن تشكيل حزب الله السوري، إذ إن سوريا ولبنان يمثلان “الخطين الأماميين لإيران”.
أما الوقوف إلى جانب نظام “الأسد” منذ انطلاق الثورة قبل 5 سنوات، فهو –هـــدف تكتيـــكي- إنما يأتي لعدم حصول إيران– مثلها مثل باقي الأطراف الدولية للأزمة السورية، تحديداً روسيا والولايات المتحدة – على رقم في “المعادلــــة السوريـــة الجديــــدة”، مما أدى إلى إطالة أمد الأزمة، فكافة أطراف الأزمة إقليمياً ودولياً، بما فيهم إيران، لا يكترثون بالنظام في حد ذاته، وليست التركيبة الطائفية لقادة سوريا في المستقبل هي الأكثر أهمية لإيران، ولكن الموقف القائم على حماية مصالحها ومشروعها التوسعي في المنطقة هو المحك، أو لروسيا التي تمتلك قاعدة طرطوس بسوريا التي تعتبرها أساس وجودها في المنطقة.
ويساند إيران في ذلك الموقف الأمريكي الرافض للتدخل العسكري على غرار ما حدث في ليبيا لعدة اعتبارات، (أولها) عدم تهديد سوريا للمصالح الأمريكية الحيوية في المنطقة، خاصة المرتبطة بالنفط، فسوريا ليست لديها مخزونات هائلة من البترول، (ثانيها) سوريا ليست شريكاً تجارياً لواشنطن، وهذا ما جعل واشنطن تغض الطرف عن المذابح التي يرتكبها النظام السوري ضد شعبه، هذه المذابح التي لم تحرك مشاعر واشنطن، ما دام الأمر لا يمس مصالحَها في المنطقة، فسوريا لم تصل بعد لمرحلة تهديد المصالح الأمريكية؛ لذا تحاول واشنطن أن تبقى على اتصال بالمعارضة، عن طريق تقديم دعمٍ عسكري يسير لها، لكن مع استمرار الحرب الأهلية الطائفية في سوريا، وانتقال عدوى تلك الحرب إلى الدول المجاورة، واستغلال إيران أكثر وأكثر لظروف سوريا في تهديد المصالح الأمريكية والصهيونية، في هذه الحالة سيجبر الولايات المتحدة على التدخل في سوريا.
ومن هنا نستطيع أن نفهم طبيعة التدخل الإيراني المشين في الأزمة السورية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، فعلى مدى أكثر من 5 سنوات منذ اندلاع الأزمة لطالما ساندت طهران النظام السوري سياسياً بتحالفها مع روسيا دولياً لإطالة أمده واستمراره في الحكم، وأرسلت الآلاف من المقاتلين العسكريين وغير العسكريين المدججين بالأسلحة الحديثة ضد قوات الجيش السوري الحر، وأرسلت السلاح والمعدات الحربية ومليارات الدولارات من القروض لتوفير احتياجات النظام ولشراء الأسلحة، كما ساهمت في إنشاء قوات الدفاع الوطني التي يصل تعداد مقاتليها إلى أكثر من 80 ألف شخص تتألف من موالين للأسد، خصوصاً من الطائفة العلوية الشيعية.
واتخذ التدخل الإيراني “طابعاً طائفياً” في دعمه النظام السوري، إذ حشد ملالي طهران بداية الشيعة السوريين، ودفعهم إلى الانضمام إلى قوات “الأسد” غير النظامية عبر ادعاء الدفاع عن “المراقد الشيعية”، كما أعطى الضوء الأخضر لحزب الله اللبناني الشيعي للتدخل بشكل مباشر في الحرب إلى جانب النظام، من خلال عشرات آلاف مقاتلي الحزب الذين دخلوا إلى سوريا بشكل علني، وكذلك نظم النظام الإيراني مجيء ميليشيات شيعية موالية له من العراق واليمن وأفغانستان وباكستان وغيرها من الدول، واستخدمها في القتال ضد السوريين، ولم يتوان كل هؤلاء عن إظهار هدفهم الديني من وراء المجيء إلى سوريا.
وأشار المراقبون المتابعون للشأن السوري إلى أن قائد الحرس الثوري الإيراني الجنرال “قاسم سليماني” أصبح الحاكم الفعلي لسوريا، والمحدد لحاضرها ومستقبلها، وأنه هو الذي يحدد تحركات الأسد وكبار معاونيه، وهو الذي يصدر الأوامر بصيغة توصيات يتم تبنيها من قبل القيادة السورية دون مناقشة، وهو الذي يوجه دفة المعارك في مجمل الأراضي السوري، وأن عدداً غير قليل من كبار ضباط الأجهزة الأمنية السورية موظفون لدى مساعديه.
وبنظرة تحليلية بعيداً عن النبرة الاحتفالية في الخطاب السياسي الإيراني، ثمة جملة من المعطيات استطاعت طهران ترسيخها في الواقع الميداني السوري والشرق أوسطي عموماً، إذ خلقت واقعاً عسكرياً من الصعب تجاوزه، وخاصة بعد أن سيطرت على القلب الاستراتيجي لسوريا الممتد من العاصمة دمشق وحتى الساحل، وتشكل هذه المنطقة بالمعنى الاستراتيجي قلب الشرق الأوسط، لتموضعها على كتلة جغرافية ذات طبيعة جبلية تشرف على القسم الأكبر من الشرق الأوسط، بحيث يصبح لبنان والجزء الحيوي والمأهول من إسرائيل تحت مراقبتها، وحتى بعض أجزاء الجنوب التركي، هذا إضافة إلى إمكانية عمل كريدور بري يصل العراق عبر ريف حمص الشرقي، الأمر الذي يتيح وجود خريطة متماسكة وصلبة وتتوافر على إمداد لوجستي من طهران حتى صور جنوب لبنان.
وفي الواقع الجغرافي السوري، تشكل تلك المناطق المشار إليها قلب سوريا، لتحكمها بشبكة خطوط المواصلات في كامل البلاد، ومن ناحية أخرى تشكل الجزء الأكبر المأهول من سوريا، كما تتمتع بطبيعة جغرافية تسهل التحصن بها من قبل قوات عسكرية منظمة، فضلاً عن إشرافها على مناطق عسكرية داخلية واسعة، وتحويلها بالمعنى العسكري الكلاسيكي إلى مناطق ساقطة حربياً، إضافة إلى امتلاك هذه المناطق لأهم عنصر اقتصادي حياتي وهو المياه (حوضي بردي والعاصي).
ولعل الانتصار الأهم بالنسبة لإيران في سوريا، يتمثل في الاختراق الكامل للنظام السياسي السوري نهائياً، وتحويله إلى مجرد كيان إيراني داخلي، مثل أي كيان إداري داخل إيران، حيث تفيد المعلومات – التي لم تعد سرية – بتخصيص حكومة طهران ميزانيةً ثابتة يجري صرفها باسم نظام دمشق، تشمل كل مصروفات تشغيل هذا الكيان، بما فيها تصريف الشؤون العادية، ناهيك عن الموازنات الكبيرة للمليشيات المقاتلة، وجيش النظام السوري واحد منها، وكميات الأسلحة والذخائر التي توردها إيران، وطبيعي والحالة كذلك أن يدعي أحد قادة إيران أن سوريا صارت المحافظة رقم 35 في إيران.
وجاء الاختراق الذي حققته طهران في سوريا، نتيجة وجودها العسكري وسيطرتها على الميدان بعد انهيار شبكة سيطرة نظام الأسد على سوريا، فبعد عام من الثورة، كانت جميع تشكيلات جيش النظام وأجهزته الأمنية تمزقت ووصلت إلى عتبة الانهيار، وتجلى ذلك في صيف 2012 عندما بدأت كتائب الثورة تطبق على دمشق، حينها جرت تنحية قيادات النظام عن المشهد، وتحويلها إلى مجرد ديكور للتصوير في نهاية المعارك، وأشرفت إيران بنفسها على ترتيب المشهد الميداني في سوريا، تخطيطاً وتنفيذاً، حتى إن بعض القطاعات صار محرماً دخولها أو الوجود بها لأي سوري كان، بما في ذلك قوات الأسد نفسها، حتى إن “حسن نصر الله” نفسه أقر بهذه الواقعة بقوله إننا لو لم نتدخل لسقطت دمشق في أسبوع، وكذا تصريحات إيران بأن “الأسد” باق لأنها أرادت ذلك.
♦ حال سوريا إثر التدخل الإيراني في الأزمة.. صراعات لا متناهية وجمود مستنزف
رغـــم أن أطراف الأزمة السورية متعددة إقليمياً (إيران وتركيا والدول العربية الفاعلة)، ودولياً (الولايات المتحدة وروسيا)، إلا أن إيران تعتبر “المحتل الحقيقي” لسوريا بحرس الثورة وجيش القدس وعملائها الشيعة الموالين لها أكثر من ولائهم لسوريا، وإذا ما نظرنا الآن إلى سوريا بعد مرور 5 سنوات على اندلاع الأزمة، سنلحظ انتشار “الصراعات اللامتناهية” وأزمة شديدة التعقيد بدخولها مرحلة “الجمود المستنزف” والتي أسفرت عن “سوريا ممزقة” وخريطة مهشمة عبارة عن قطع متناثرة في شمال سوريا وفي جنوبها وشرقها، وهي مناطق إما صارت جزراً معزولة لا تشكل مخاطر حقيقية، وقد يجري قضمها بعد أن يصار إلى إنهاكها بسياسة الحصار والتجويع، وإما هي مخترقة من قبل التنظيمات التي تدعمها طهران بالسر أو تخترقها بطريقة ما، وفيما يلي أبرز مؤشرات الصراعات اللامتناهية وحال سوريا بعد مرور 5 سنوات من التدخل الإيراني:
(1) حرب أهلية طائفية دامية تدور رحاها في المدن السورية:
منذ اندلاع الأزمة إبان اندلاع ثورات الربيع العربي، وتدور حرب طاحنة بين طرفين بالداخل السوري، أحدهما معارض للنظام (الائتلاف الوطني السوري، الجيش السوري الحر، الجبهة الإسلامية، فتح حلب، إضافة إلى الجماعات الحليفة كتحالف المهاجرين والأنصار وجبهة أنصار الدين والحزب الإسلامي التركستاني)، وهو يرى أن هذه الاحتجاجات ضد استبداد وفساد النظام الذي يحكم سوريا منذ عام 1971 تحت غطاء حزب البعث العربي الاشتراكي وسلطة قانون الطوارئ منذ عام 1963.
أما الطرف الآخر فهو مؤيد (القوات المسلحة السورية، قوات الدفاع الوطني، كتائب البعث، إضافة إلى قوات حليفة مثل لواء فاطميين ولواء أبو فضل العباس والمقاومة السورية والحرس القومي العربي وجيش الموحدين)، وهو يرى أنها مؤامرة ضد محور المقاومة والممانعة العربية ونشر الفوضى في سوريا من خلال متشددين وإرهابيين لمصلحة إسرائيل بالدرجة الأولى.
وأخذت الحرب بعداً طائفياً كما سبق القول بدخول إيران وحلفائها على الخط، وجرها مختلف القوى الشيعية العربية والفضاء الشيعي العربي نحو دعم الأسد في موقف لا أخلاقي بكل المقاييس، فغالبية الأمة كانت منسجمة مع نفسها في دعم الربيع العربي في تونس واليمن ومصر وليبيا، ولم ينظر إلى البعد الطائفي الذي قد ينذر بحريق مذهبي يمتد من بغداد إلى لبنان إلى دمشق إلى الخليج ربما وإلى سائر المنطقة عندما يجري استدعاء عملية تعبئة مذهبية سنية، مما يهدد أمن المنطقة برمتها.
صحيح أن إيران كانت ستدعم “الأسد” بغض النظر عن انتمائه، وصحيح أن الأسد علماني لا يقيم وزناً كبيراً للانتماء الديني، وصحيح أيضاً أن العلاقة بين النظامين قائمة أساساً على اعتبارات سياسية ومصلحية، إلا أن كل هذه الاستدراكات لم تكن كافية لتفسير الموقف الإيراني دون اللجوء إلى العامل الطائفي، خصوصاً عند مقارنة الموقف الإيراني من سوريا مع موقفها من البحرين واليمن اللتين لا يمكن تفسير التأييد الإيراني للثورات والحراكات فيهما إلا من بوابة “الطأفنة”، ومحاولة إيران إظهار نفسها كمحام يدافع عن الشيعة في كل أنحاء العالم.
ولم يقتصر توظيف الطائفية على السني والعلوي فحسب، إذ إن إيران استغلت الظروف الاجتماعية الصعبة للكثير من الأسر المسيحية، واستدرجت أكثر من 1500 شخص مسيحي وضمتهم للجيش بعد دخول الثورة عامها الثاني، وحولت مدينة محردة ذات الأغلبية المسيحية في شمال ريف حماة إلى ثكنة عسكرية، مستغلة بعض الكنائس والأديرة كدير محردة كمواقع عسكرية، ووضعت أكثر من 15 حاجزاً عسكرياً على مداخل المدينة، التي أصبحت رأس حربة للنظام يستخدمها لقصف المدن المجاورة، مما أثار حفيظة تجمعات الجيش الحر وجبهة النصرة، فقاموا بالرد على قصف مواقع النظام في هذه المدينة، مما جعل الطائفة المسيحية في مواجهة مباشرة مع قوى المعارضة.
(2) مطالبات بتقسيم سوريا:
نتيجة الصراع الطائفي وتعقد الأزمة، طالبت عدة أطراف إقليمية ودولية بتقسيم سوريا إلى أجزاء، مما يجعلها ضعيفة مفككة ضد أطماعهم ومخططاتهم، لينال كل طرف مراده في المعادلة السورية الجديدة، حيث يدور الصراع بين عدة قوى رئيسية، أصبح كل جزء يستولي على عدة مدن، كالتالي: (أ) النظام الذي نجح في إعادة احتلال مواقع استراتيجية مهمة كان الثوار حرروها في وقت سابق، وبات يسيطر على 23% مساحة سوريا، وهي المساحة الأهم التي تضم العاصمة وبعض المدن الكبرى (حمص وحماة وإدلب)، وتشمل غرب سوريا بأكمله تقريباً. (ب) حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (المتحالف مع النظام) سيطر بالتعاون مع قوات النظام السوري على النصف الشمالي من محافظة الحسكة، وينفرد بالسيطرة التامة على منطقة عفرين في أقصى الشمال الغربي. (ج) تنظيم داعش الذي احتل ثلاثة أرباع المناطق التي حررها الثوار في حربهم مع النظام، وبات يسيطر على نصف سوريا الشرقي كله، باستثناء الجزء الخاضع لسيطرة الأكراد في محافظة الحسكة، بل إنه نجح في التمدد إلى مناطق وسط البلاد حين سيطر على مدينة تدمر بعد تراجع قوات النظام السوري، كما أن خسارة التنظيم لبعض المدن، لاسيما “كوباني” الكردية في شمال سوريا، لم تكن ثمرة الحملة الجوية حصراً، بل بسبب اقتران الضربات الجوية بالمعارك البرية التي خاضتها قوات كردية. (د) القوى الثورية وانحسرت المساحات التي تسيطر عليها، بحيث صارت تقتصر على نحو 15% من مساحة سوريا، وتضم الجزء الجنوبي من محافظة حوران، ومحافظة القنيطرة، وأجزاء من محافظتي دمشق وريفها (المناطق المحاصرة في الغوطتين الشرقية والغربية وجنوب دمشق والقلمون) ومن ريف حمص الشمالي وريف حماة الشمالي، وجبل الأكراد، وريف إدلب، وقسماً من مدينة حلب، إضافة إلى ريف حلب الغربي، وتشترك جبهة النصرة مع قوى الثورة في السيطرة على تلك المناطق المذكورة.
(3) ولادة تنظيم داعش واحتلاله مناطق سورية واسعة:
رداً على الهجوم الكبير لمليشيات حزب الله والمليشيات الشيعية الإيرانية في القصير وسقوطها إلى جانب بعض القرى المجاورة، ومعارك الاستنزاف التي خاضها النظام على المدن السورية المحررة، وفي إطار تحول الصراع من حالته الثورية إلى حالته الطائفية، بدأ الكثير من المجاهدين العرب ينجذبون إلى سوريا لتلبية – كما يزعمون – الواجب الديني والدفاع عن إخوانهم من السنة، فخلال عام 2012 قدرت أعداد المقاتلين السنة من العرب وغيرهم الذين دخلوا سوريا بنحو 10 آلاف مقاتل، الأمر الذي مهد الفرصة لدخول تنظيم القاعدة والكثير من الجماعات الجهادية، لكن التطور الأسوأ في عام 2013 والكارثة الأكبر في تاريخ الثورة السورية جاء حينما تم الإعلان عن ولادة تنظيم “داعش” في أبريل من العام نفسه، ثم تمدده وسيطرته على مساحات واسعة في محافظات حلب وإدلب والرقة والحسكة ودير الزور بعد تحريرها بشكل كامل في عام 2012.
وكان عام 2014 على موعد مع تمدد غير متوقع لـ”داعش”، فتمكن من طرد عناصر الجيش الحر في يناير 2014 من محافظة الرقة التي أعلنها عاصمة للخلافة المزعومة، كما سيطر بشكل شبه كامل على محافظة دير الزور النفطية، واستولى على عدة حقول نفطية وغازية في محافظة الحسكة شمال شرق البلاد وعلى مقربة من الحدود مع تركيا والعراق، فضلاً عن سيطرته على مدينة البغدادي قرب قاعدة الأسد الجوية، وحتى منتصف عام 2014 أصبح تنظيم داعش مسيطراً على نحو 35% من الأراضي السورية بمساحة متصلة جغرافياً، ممتدة من بادية حمص إلى الهول على الحدود السورية – العراقية جنوب شرق محافظة الحسكة، وصولاً إلى بلدة الراعي على الحدود السورية – التركية، وعلى قرية شامر بالقرب من المدخل الشمالي الشرقي لمدينة حلب، وأغلب المدن والقرى التي وقعت تحت سيطرة تنظيم داعش كانت فصائل المعارضة تمكنت من تحريرها من النظام السوري خلال ثلاث سنوات مضت من عمر الثورة، فتنظيم داعش حافظ على مناطق نفوذه في سوريا، وهو ما يؤكد أن التدخل الروسي لم يكن ضد داعش، بل ضد المعارضة السورية وقوات الجيش السوري الحر.
(4) النزوح الجماعي غير المنظم إلى ملاذات آمنة (أزمة اللاجئين):
نتج عن الحرب الأهلية الطائفية الدامية وأطرافها الإقليميين، وتحديداً تجار الموت الإيرانيين والدوليين الولايات المتحدة وروسيا في سوريا، كارثة إنسانية ووجودية تتمثل في أزمة اللاجئين السوريين، وأصبحت تشكل أزمة ضاغطة على صناع قرار في عواصم عربية وعالمية تحديداً منذ أن تصدرت صورة “إيلان كردي” (3 سنوات)، الطفل السوري اللاجئ مع أسرته الذي عرفه العالم جثة على شاطئ بودروم التركية مطلع سبتمبر 2015، أجهزة الإعلام العالمية المرئية والمكتوبة، وبحلول عام 2016 تم تسجيل أكثر من 4 ملايين لاجئ داخلي و8 ملايين لاجئ سوري في الخارج عربيا وأوروبيا من أصل 22 مليون نسمة على النحو التالي (الأردن أكثر من مليون لاجئ، لبنان أكثر من مليون لاجئ، مصر أكثر من 150 ألف لاجئ، العراق أكثر من 250 ألف لاجئ، الجزائر 25 ألفا، تركيا مليونا لاجئ، أرمينيا 16 ألفاً، ألمانيا 105 ألفاً، اليونان 88 ألفاً، السويد 40 ألفاً، النمسا 18 ألفاً، المملكة المتحدة 5 آلاف.
وعلى الأرجح يوجد عشرات آلاف اللاجئين غير المسجلين، ويقدر عدد من ينتظرون التسجيل بحوالي 227 ألف شخص، وبلغت حصيلة المفقودين من السوريين على حدود الاتحاد الأوروبي حوالي 3 آلاف شخص، هذا إضافة إلى المضايقات التي تتم بحق اللاجئين، والمضايقات تصل أحياناً إلى حد العنف ضدهم مثلما شهدته ألمانيا خلال النصف الأول من سبتمبر 2015 من حرائق مفتعلة وتهديدات واعتداءات، وحتى تظاهرات كما في هايديناو في ساكسونيا شرق البلاد، ما حمل المستشارة “إنجيلا ميركل” على القيام بأول زيارة إلى مركز لاستقبال اللاجئين.
وتعتبر هذه الهجرة الجماعية غير المنظمة أكبر هجرة بعد الحرب العالمية الثانية، وترتبط ببروز ظاهرة أخرى خطيرة، وهي ظاهرة “الفراغ” الذي تستعد له سوريا مع وجود نحو 8 ملايين لاجئ سوري، بعد أن أجبروا على الهرب من جحيم القصف اليومي الذي يتعرضون له، وفي المقابل تتواصل حشود الإرهابيين القادمين إليها من كل أنحاء العالم ليستوطنوا البلاد.
(5) مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعتقلين:
تؤكد إحصائيات حديثة لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أن عدد ضحايا الصراع السوري كضريبة للمعارضة اقترب من 250 ألف شخص، إضافة إلى الزج بالآلاف داخل سجون النظام، وفاقم هذه الإحصائية التدخل الروسي الحليف الدولي لإيران مطلع أكتوبر 2015 لإنقاذ نظام الأسد والتخلص من فصائل المعارضة السورية، وليس للقضاء على تنظيم “داعش” كما هو معلن، ويعكس ذلك تركيز الضربات الروسية على مناطق المعارضة السورية في تلبيسة والرستن في ريف اللطمانة في ريف حماة، وهي مناطق لا تخضع لسيطرة “داعش”، كما تبين أن أولى ضحايا القصف من المدنيين، فضلاً عن أن الإعلان الروسي المتكرر لقصف محافظة إدلب وحماة يؤكد بما لا يقبل التأويل أن فصائل المعارضة السورية هي المستهدف الأول، بينما يتم استخدام تنظيم “داعش” لتبرير الوجود العسكري الروسي فقط.
ويعيد كل ما تقدم إلى أذهاننا السيناريو البوسني من جديد، فرغم مرور أكثر من عقدين من الزمان على أحداث البوسنة ها هو نفس السيناريو يتكرر في سوريا، ففي البوسنة دارت حرب طائفية مماثلة بين الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك والبوسنيين المسلمين، وفي البوسنة بين الصرب ضد البوسنيين والكروات، ودمرت سراييفو؛ لأنها الحاضنة والرمز للتعدّد الإثني، كما قصفت حلب بذات القدر من القسوة والوحشية، وهي الحاضنة للتاريخ والتعدد، تماماً كما قصفت سراييفو، وما يقوم به شبيحة الأسد ومليشيات إيران من فظائع واغتصابات للنساء لا يختلف كثيراً عن عمليات القمع والقتل الوحشي والاغتصاب التي قام بها شبيحة راتكو ميلاديتش وكاراجيتش في البوسنة.
كما أن عمليات التطهير العرقي التي قام بها الصرب بحق البوسنيين تكررت في سوريا في القرى السنِّية، ويجمع بين الأزمتين السورية والبوسنية أيضاً مشهد وقوف المجتمع الدولي مما يجري موقف المتفرج، فتدعيم روسيا للنظام الصربي في السابق شبيهٌ بموقفها الداعم للنظام السوري اليوم.
♦ مستقبل الأزمة السورية والدور الإيراني فيها:
وفي النهاية، ونظراً لأهمية سوريا استراتيجياً في نظرية “الهلال الشيعي” الإيرانية المشار إليها، وعدم حصول إيران – حتى الآن – على رقم مناسب في المعادلة السورية الجديدة، فإن الأزمة ممتدة لحين وقوع المزيد من الخراب والدمار في البلاد، وسقوط المزيد من القتلى والجرحى، وتفاقم أعداد اللاجئين حتى وإن ترك بشار السلطة ما لم تحصل إيران على هذا الرقم، فهذا لا يعني انتهاء الحرب أو دخول سوريا إلى مرحلة انتقالية يعاد فيها ترتيب البيت من الداخل، أو حتى دخولها مرحلة الاستقرار الشكلي؛ إذ إن الطائفة العلوية بدعم إيراني ستحاول بكل الوسائل أن يستمر الصراع، ليس من أجل نظام الأسد؛ ولكن من أجل الحفاظ على ما تتمتع به من مميزات داخل المجتمع، وبالتالي فمن المحتمل أن تقوم بتعيين خليفة لبشار يواصل الحرب ضد الثوار، ومن ثم يظهر لإيران موقع بارز في مستقبل سوريا في كل الاحتمالات، يمكنها من التفاوض بارتياح حول وضعها في سوريا، ومن ثم تموضعها في الملفات العربية السائلة باليمن ولبنان والعراق. لذلك، ليس غريباً أن “تشكل سوريا لإيران أهمية استراتيجية تفوق أهمية الأراضي الأحوازية”.
وفي حالة حتى سيطرة الثوار على معظم المدن السورية، فإنه من الممكن أن تلجأ الطائفة العلوية إلى الأماكن النائية والساحل الغربي؛ لتمارس منها عملياتها ضد النظام الجديد، ويمكن القول إن زوال نظام بشار الأسد لن يكون “المرحلة الأخيرة”، لكنه سيكون بداية لـ “مرحلة ثانية جديدة”، ترسم فيها القوى السياسية الصاعدة ملامح المستقبل، واتباعها لسياسة تصفية أنصار النظام القديم، مع غض المجتمع الدولي الطرف، وليس الولايات المتحدة وحدها، كما حدث في العراق أو أفغانستان.
( الجزء الثالث )