بعد أن كان المسؤولون الإيرانيون يؤكّدون أن البرنامج النووي لبلادهم مخصص للأغراض السلمية، ويتجنبون الاعتراف بوجود مخططات لتصنيع قنبلة نووية، ويشدّدون على أنه لا مكان لهذه القنبلة في العقيدة العسكرية الإيرانية، متذرعين بفتوى للمرشد بهذا الخصوص، شهدنا بعد 7 أكتوبر والحرب في غزة تغييرًا جوهريًّا في الخطاب الإيراني، حيث بات التلويح بإمكانية تغيير العقيدة العسكرية للبلاد والتهديد بتصنيع قنبلة نووية أمرًا متداوَلًا على لسان كبار المسؤولين. وبعد اغتيال إسماعيل هنية في طهران في الأسبوع الماضي، نشرت وسائل إعلام إيرانية مقابلات مع بعض المسؤولين تحدثوا بكل وضوح عن تصنيع قنبلة نووية. فهل تكون حادثة الاغتيال ذريعة للنظام الإيراني للوصول إلى القنبلة النووية؟
أدَّى تلميح محمود علوي، وزير الاستخبارات في حكومة حسن روحاني، في فبراير 2021 بإمكانية لجوء بلاده إلى القنبلة النووية في حال تَعرُّضها للضغوط، إلى استدعائه إلى البرلمان لتقديم توضيحات بشأن تلك التصريحات التي قيل إنها تتناقض مع السياسات العامة للجمهورية الإسلامية. لكن الحال تَغيَّر بعد حرب غزة والتوتر بين إيران وإسرائيل، إذ أكَّد علي أكبر صالحي وزير الخارجية الأسبق والرئيس السابق لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية، في 12 فبراير الماضي في مقابلة تليفزيونية ردًّا على سؤال “هل إيران قادرة على صنع قنبلة ذرية؟”، أن بلاده تمتلك كل ما تتطلبه هذه العملية. وفي 18 أبريل الماضي، بعد أيام من استهداف إسرائيل مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، قال أحمد حق طلب قائد فيلق حماية وأمن المراكز النووية في الحرس الثوري: “من المحتمل مراجعة العقيدة والسياسات النووية للجمهورية الإسلامية والابتعاد عن الاعتبارات المعلنة سابقًا”. بعدها بأيام حذَّر كمال خرازي، مستشار المرشد ورئيس المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية، في 9 مايو من أنه “إذا تَعرَّض وجود إيران للتهديد، فسنُضطرّ إلى تغيير عقيدتنا النووية”.
أحدث وأوضح التصريحات ورد قبل أيام بعد اغتيال هنية على لسان عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان وأستاذ العلوم السياسية أحمد بخشايش أردستاني خلال مقابلة مطولة مع صحيفة شرق “الإصلاحية” الذي قال: “أعتقد أن لدينا طريقًا واحدًا من أجل الردع الاستراتيجي والنهائي ضد الكيان الصهيوني وباقي الأعداء وذلك هو… تصنيع قنبلة نووية”. ويرى هذا النائب الأصولي أنه ما لم تحصل بلاده على القنبلة النووية، فستستمر سياسة إسرائيل في التخريب والاغتيالات ضد إيران، ولن تنتهي عند اغتيال هنية بالتأكيد. ويرى أن ثمن الضغوط الاقتصادية الكبيرة التي فُرضت على بلاده بسبب العقوبات، ينبغي أن يكون القنبلة النووية، للوصول إلى التوازن أو توازن الرعب في المنطقة. ويؤكد: “تصنيع السلاح النووي هو فقط المخرج الوحيد لإيران للخروج من التحديات والانسداد السياسي والدبلوماسي والأمني”.
وعن تداعيات ذلك على بلاده والرد المتوقع ضدها، يعتقد أردستاني أن الوصول إلى تصنيع قنبلة نووية لن يؤدي إلى شن حرب ضد بلاده، بل سيكون نقطة وحقبة تاريخية يمكن تَجاوُزها، ويستشهد على ذلك بالتحذيرات التي أُطلِقَت ضد إيران في حال شنَّت هجومًا على إسرائيل، في حين أن شيئًا لم يحدث بعد إطلاقها 300 صاروخ وطائرة مسيرة على إسرائيل. ويعتقد أن الوصول إلى العتبة النووية لن يؤدي إلى إجماع دوليّ ولا إلى الحرب، فـ”لا الولايات المتحدة ولا إسرائيل نفسها لديها الرغبة والقدرة على الحرب ضد إيران”، وستكتفي أمريكا بالاستعراض عبر إرسال بوارج وحاملات طائرات، لكنها لن تستخدم هذه الأسلحة ضد طهران مُطلَقًا، كما لن يؤدي ذلك إلى تفعيل آلية الزناد وعودة العقوبات الأممية ضد إيران، لأن “المجتمع الدولي لا يتحمل أزمة أخرى إلى جانب الأزمات الحالية”. ويعتقد أن الوصول إلى العتبة النووية سيشكِّل ورقة رابحة بيد حكومة بزشكيان للتفاوض مع الغرب، وأن مجرَّد التلويح بهذه المواقف يمكن أن يقوِّي أوراق ضغط بلاده على الأوروبيين وأمريكا.
وكان أردستاني قال في وقت سابق إنه يعتقد أن بلاده توصلت إلى القنبلة النووية، لكنها لا تعلن عن ذلك، موضحًا أن “سياستنا المتبعة هي الحصول على قنبلة نووية، لكن السياسة المعلنة هي التحرك في إطار الاتفاق النووي”، وأفصح عن أنه قد يكون في بقعة من أراضي إيران الشاسعة موقع سري تعمل فيه بلاده على تصنيع سلاح نووي، وأنها لن تأخذ مفتشي الوكالة بالتأكيد إلى هذا المواقع.
صحيح أن هذه التصريحات قد تستهدف ابتزاز المجتمع الدولي لتقديم تنازلات والضغط على إسرائيل للكَفّ عن استهدافها ما تعتبره إيران خطوطًا حمراء، إلا أنه ينبغي عدم استبعاد أنها قد تكون تمهيدًا للإعلان عن الوصول إلى القنبلة النووية، وأن طهران تتحيَّن اللحظة المناسبة للقول إنها اضطُرَّت إلى تغيير عقيدتها النووية نتيجة التهديد والخطر الذي تتعرض له، وقد يمثل اغتيال هنية على الأراضي الإيرانية ذريعة لها في هذا السياق.
تدريجيًّا بات النظام يشعر أن ما لديه من أدوات كان يعتقد أنها تشكِّل عامل ردع، ليس كذلك بالفعل، لأنه كان يعتقد أنه بعد هجومه على إسرائيل -وإن كان استعراضيًّا- بالصواريخ والطائرات المسيَّرة سيجبرها على التخلِّي عن استهداف خطوطه الحمراء، لكن عملية الاغتيال داخل الأراضي الإيرانية جعلته يدرك أن الصواريخ والطائرات المسيرة وحدها غير كافية لإحداث الردع المنشود. كذلك بات يخشى في ظل مواصلة إسرائيل استهداف قادة وكوادر الميليشيات القريبة منه واستنزاف طاقاتها، تَقلُّص إمكانية استخدامه هذه الورقة لتحقيق الردع. لذلك ذكَّر بأنه ما زالت لديه ورقة أكثر فاعلية وديمومة يمكن أن يستخدمها في اللحظة الحرجة، هي القنبلة النووية. في هذا السياق يلقي البعض باللوم على إسرائيل بأنها هي من يدفع إيران إلى امتلاك السلاح النووي، في حين أن الهدف من امتلاك القنبلة النووية يتجاوز ذلك للهيمنة على المنطقة بأسرها.
لا شك أن الإعلان عن امتلاك قنبلة نووية ينطوي على مخاطر لا يمكن للنظام التنبؤ بها، إلا أن لدى جزء -على الأقل- من صناع القرار في إيران قناعة بأن الإدارة الأمريكية رغم تهديدها بأنها لن تسمح لطهران بالوصول إلى القنبلة النووية وأن جميع الخيارات مطروحة على الطاولة، لن تشنّ حربًا ضدهم في حال الإعلان عن القنبلة النووية، في ظلّ انخراطها في الحرب الأوكرانية وأفول هيمنتها وصعوبة خلق إجماع دولي ضد إيران والتشرذم الأوروبي والانقسام العالمي، وأن أقصى ما يمكنها هو فرض مزيد من العقوبات لفترة محدودة، وأن الظروف ستجبر العالم على قبول الأمر الواقع ولو بعد حين. لا يمكن نفي أو تأييد صحة هذه الرؤية، وقد نستيقظ عما قريب على إعلان إيراني من هذا النوع، وعندها سيكون العالم، وعلى رأسه الولايات المتحدة، أمام اختبار تاريخي من شأنه تغيير وجه المنطقة.
المصدر: عرب نيوز
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد