في البداية يجب الإشارة إلى أهمية القطاع النِّفْطي بالنسبة إلى الاقتصاد الإيراني، إذ يعتمد ثلث إيرادات الموازنة الحكومية على بيع النِّفْط في أقلّ تقدير، ويتراوح سعر برميل النِّفْط الذي تَوقَّعَته إيران في موازنتها المالية الحالية ما بين 45 و50 دولارًا، وهو سعر أقلّ بكثير من سعر البرميل الذي يحتاج إليه الاقتصاد الإيراني ليتعافى بعد سنوات الحصار الدولي عليها، وقدّرته مؤسسات مالية ب 130 دولار للبرميل، في حين تدور مستويات الأسعار العالمية حاليًّا حول46 دولارًا للبرميل. ولرفع مستوى السعر المتدنِّي الحالي مقارنة بمعدَّلات الأسعار قبل سنتين ونصف البالغة 115 دولارًا للبرميل، يجب تخفيض حجم الإنتاج العالمي من النِّفْط الخام.
هذا ما دَعَت إليه منظَّمة الدول المصدرة للنِّفْط “أوبك” بقيادة المملكة العربية السعودية في اجتماع المنظَّمة الأخير في الجزائر نهاية شهر سبتمبر الماضي، وبالتوافق مع أغلب الأعضاء حول ضرورة تخفيض الإنتاج، لأن مستويات الأسعار الحالية تعرقل تنفيذ المساعي التنموية للدول المصدّرة للنِّفْط. وخرج الاجتماع بقرار مبدئي بتخفيض حجم الإنتاج بنحو 700 ألف برميل يوميًّا دون تحديد حصص الأعضاء من الخفض، مع إمكانية استثناء إيران وليبيا ونيجيريا. ورُحِّل القرار النهائي إلى الاجتماع القادم في فيينا أواخر شهر نوفمبر الجاري.
يأبى النظام الإيراني أن يكون ضمن الدول المضحّية بحجم إنتاج نفطيّ أقلّ في مقابل إيرادات مالية أعلى عند ارتفاع السعر، في حين لا يمانع في أن يضحّي غيره من الدول المصدّرة بتعطيل إنتاج بعض آبار النِّفْط، فهي تطمح إلى نَيل كلتا الحسنيين: الأسعار المرتفعة وعدم تقليل الإنتاجها وفقدان حصصها السوقية التي تَوسَّعت بعد رفع العقوبات الدولية عنها بداية العام الحالي. وأعلن وزير النِّفْط الإيراني بيجن زنغنه صراحةً قبل الاجتماع الأخير مع “أوبك” أن طهران لن تجمّد حجم الإنتاج النِّفْطي قبل الوصول إلى مستويات إنتاج ما قبل الحظر الدولي عليها المقدرة بـ4 ملايين برميل يوميًّا، لكنها في الوقت نفسه تدعم منتجي النِّفْط الآخَرين في تحقيق الاستقرار في أسواق النِّفْط وبلوغ مستويات سعرية أعلى من الحالية، وفقًا لرؤية وزير النِّفْط الإيراني.
في الواقع يُعَدّ هذا تناقضًا غريبًا في الموقف الإيراني! فكيف تدعم رغبة أعضاء “أوبك” في رفع مستويات الأسعار وفي نفس الوقت لا تريد المشاركة في صنع هذا القرار الحيويّ ولو بشكل مؤقَّت حتى تستعيد الأسعار توازنها؟ فإيران لا تزال تزيد من حجم إنتاجها وصادراتها النِّفْطية غير مكترثة بأي سعر، وقد كانت من قبل تبيع النِّفْط بأسعار أقلّ حتى من سعر السوق لتبيع أكبر كمية ممكنة من النِّفْط الخام. ولا معنى لهذا التناقض إلا أنها لن تضحّي بتخفيض الإنتاج للوصول إلى مستوى سعري أعلى، لكنها سترحّب من بعيد بكل تأكيد بتضحيات الآخرين.
والناظر إلى حجم إنتاج إيران الحالي يرى أنها تكاد تقترب من مستويات ما قبل الحظر الدولي، إذ كانت تنتج قرابة 4 ملايين برميل يوميًّا، وحاليًّا تنتج نحو 3.92 مليون برميل يوميًّا وفقًا لروايات رسمية إيرانية، في حين تقول شهادات دولية إنها وصلت بالفعل إلى إنتاج 4 ملايين برميل يوميًّا. وبصرف النظر عن حجم إنتاجها الحاليّ فإن المتابع للشأن الإيراني، بخاصة الاقتصادي، يُرهَق من عدم دِقّة الأرقام الصادرة عن بعض المؤسَّسات الإيرانية، فتارةً تكون مُبالَغًا فيها، وتارة تكون أقلَّ من حجمها الحقيقي. لهذا فإن الأرقام الخاصة بحجم الإنتاج الفعلي لن تكون مؤكَّدة بنسبة 100%.
هنا يكمن التساؤل الحقيقي: هل ستتوقف إيران عن زيادة الإنتاج النِّفْطي عند الوصول إلى مستويات ما قبل الحظر؟ وهل ستلتزم إيران فعليًّا بحجم إنتاج معيَّن إذا ما توصلت إلى اتفاق مع “أوبك” لتخفيض أو تجميد الإنتاج عند مستوى ما بعد الاجتماع القادم؟
في الحقيقة توجد ثلاثة سيناريوهات للإجابة عن التساؤل السابق، السيناريو الأول أن إيران لن تتفق مع “أوبك” على تخفيض إنتاجها، كما أنها لن تتوقف عند الوصول إلى مستويات ما قبل الحظر. يدعم هذا التوقُّعَ سببان رئيسيَّان، السبب الأول: أنه بعد أن أكّدَت خلال اجتماع “أوبك” التشاوري بالجزائر منذ شهر ونصف تقريبًا، على لسان وزير النِّفْط الإيراني، أنها لن تتوقف عن زيادة الإنتاج حتى تصل إلى مستويات ما قبل الحظر، إذا بإحدى الصحف المحلية الإيرانية (صحيفة “أبرار اقتصادي” في عدد 27 مهر) تطالعنا أواخر شهر أكتوبر الماضي بتصريح لنفس الوزير يبشر فيه الإيرانيين بأن إيران مستمرّة في زيادة إنتاجها النِّفْطي وأن الإنتاج سوف يصل إلى 4.5 مليون برميل يوميًّا بنهاية العام الشمسي الإيراني الحالي (في مارس 2017). تصريح مثل هذا يحمل في ثناياه رسالتين هامتين: أُولَاهما أن إيران قد اتخذت بالفعل قرارًا مبيَّتًا يكشف عن نيتها عدم الالتزام بما سيتوصل إليه اجتماع “أوبك” القادم، وأنها ستستمرّ في زيادة الإنتاج حتى 4.5 مليون برميل، لأن مطالبات “أوبك” حول تخفيض الإنتاج كانت دائمًا تحت مستوى 4 ملايين برميل، فخلال الاجتماع الأخير في الجزائر كان الحديث يدور حول تجميد إيران إنتاجها عند مستوى 3.6 مليون برميل يوميًّا، وهو ما رفضته إيران بالطبع. والرسالة الثانية التي يحملها التصريح أنها وصلت على الأرجح إلى مستوى إنتاج 4 ملايين برميل، إن لم تكُن تَخطَّتْه، ولا تزال مستمرّة في زيادة الإنتاج لتصل إلى معدَّل 4.5 مليون برميل كما قال وزير النِّفْط.
والسبب الثاني: هو دور السعودية القيادي في منظَّمة “أوبك” الذي يمثِّل إشكالية في حد ذاته لإيران، في ظِلّ تدهوُر العلاقات السعودية الإيرانية ووجود اتهامات داخلية لروحاني بالضعف أمام مواقف السعودية تجاه إيران، وهو ما قد يجعل النظام السياسي الإيراني يتحدّى قرارات “أوبك” بدرجة ما. كما توجد رغبة سياسية في تحقيق إنجاز ما قبل نهاية الولاية الرئاسية الأولى لروحاني للتغطية على تدهور الأوضاع الاقتصادية والظروف المعيشية للمواطنين. لهذا فإن مزاعم تجميد إيران لإنتاجها عند الوصول إلى مستوى صادرات ما قبل الحظر تصبح واهية وغير مطابقة للواقع .
وفي السيناريو الثاني ستحاول إيران الوصول إلى أقصى مستوى إنتاج ممكن قبل اجتماع “أوبك” المرتقَب، حتى إذا ما وافقت على القَبول بتجميد الإنتاج فلن تكون تضحيتها كبيرة، وسيكون مستوى الإنتاج مُرضيًا لها، وأكبر بكثير من مستواه في الاجتماع التشاوري الأخير. وخلال الأشهُر الثلاثة الماضية سارت إيران في اتجاه زيادة إنتاجها وصادراتها النِّفْطية بسرعة كبيرة، ولا تزال تمضي في هذا الاتجاه، فعلى سبيل المثال لا الحصر سجّلَت صادرات إيران إلى الهند خلال شهر أغسطس الماضي 576 ألف برميل يوميًّا، وهو أعلى معدَّل لصادرات النِّفْط الإيراني إلى الهند خلال الـ15 سنة الماضية، أي إنها لم تستعِدْ فقط حصتها السابقة في الهند في ما قبل الحظر، بل زادت عليها بكثير. وزادت صادراتها إلى كوريا الجنوبية كذلك بمقدار 112% خلال نفس الشهر. وفي شهر أكتوبر الماضي اتفقت الهند مع إيران على تعبئة نصف المخازن الاستراتيجية للهند البالغ حجمها 12 مليون برميل، أرسلت إيران منها مليونين.
وفي السيناريو الثالث قد تتوصل إيران إلى اتفاق ظاهري مع “أوبك” بتجميد إنتاجها عند مستوى ما، لكن على أرض الواقع لا توجد ضمانات حقيقية لالتزامها بحجم الإنتاج المتفَق عليه. وكان وزير النِّفْط العراقي جبار لعيبي أشار بعد اجتماع “أوبك” الأخير إلى هذه النقطة تحديدًا في تصريحه عن عدم وجود آليَّة فعَّالة لمعرفة مدى التزام الأعضاء بحجم الصادرات المتفَق عليه، مِمَّا يؤكّد صعوبة مراقبة التزام إيران باتفاقها مع “أوبك”.
أسفر اجتماع الجزائر الأخير عن التوصل إلى قرار مبدئي مشترك على خفض حجم الإنتاج مع استثناء ثلاث دول، منها إيران، لتراجُع إنتاج هذه الدول عن معدَّلاته الطبيعية لظروف استثنائية في كل دولة، كانت بالنسبة إلى إيران تتمثل في العقوبات الدولية. لكن الظروف تَغيَّرَت حاليًّا وزادت إيران الإنتاج بشِدَّة وتَوصَّلَت تقريبا إلى معدَّلات ما قبل العقوبات، ومن المرجَّح أنها ماضية في زيادة الإنتاج إلى مستويات أعلى، وهي زيادة كفيلة بالضغط على مستويات الأسعار العالمية وتصعيب محاولات أعضاء “أوبك” رفع الأسعار.
وعلى الأرجح ستتوصل “أوبك” إلى اتفاق حول تخفيض أعضائها إنتاجهم في الاجتماع القادم، حتى في حالة عدم مشاركة إيران، لأن المستويات الحالية للأسعار غير مقبولة لعديد من اقتصادات الدول المصدِّرة للنِّفْط داخل أو خارج “أوبك”، كما أن الفشل في الوصول إلى قرار مشترك يعني هبوطًا في الأسعار بدرجة أسوأ مِمَّا هي عليه الآن.
لكن في حالة التوصل إلى اتفاق مع إيران على تجميد إنتاجها، فلا بد من آلية محدَّدة لرصد التزامها بحجم الإنتاج المتفَق عليه، كتعيين مراقبين على محطّات الصادرات النِّفْطية، وفرض غرامات مالية أو إدارية في حالة عدم الالتزام. فمن دون آليات مراقبة فعَّالة سوف تستغلّ إيران هذه الظروف للسعي وراء كلتا الحُسنَيَين: إنتاج متزايد للنِّفْط، وأسعار جيِّدة على حساب تخفيض إنتاج المنتجين الآخَرين.