متاح PDF
احتجز الحرس الثوري الإيراني الجمعة (19 يوليو 2019م)، ناقلة النفط «إستينا إمبيرو»، التي ترفع علم بريطانيا وطاقمها، وتعد هذه الحادثة هي الأبرز ضمن سلسلة حوادث استهدفت إيران من خلالها ناقلات النِّفط في الخليج العربي، وتحديدًا منذ تصاعد التوتر بين إيران والولايات المتحدة بعد إلغاء الاستثناءات الأمريكية على صادرات النِّفط مطلع مايو 2019، إذ سبق وأنْ هددت طهران بعدم السماح لدول المنطقة بتصدير نفطها وبإغلاق مضيق هرمز وبناءً على ذلك حُرمت من استخدام المضيق في تصدير نفطها. تطرح هذه التطورات استفساراتٍ رئيسة حول أسباب ودوافع إيران من وراء هذه السياسة، وما إذا كان احتجاز ناقة النِّفط البريطانية حادثًا عرضيًا، أم أنه جاء في إطار سياسة إيرانية ممنهجة لوضع عراقيل أمام حركة النِّفط بالخليج العربي، إضافةً إلى تأثير هذه السياسة وتداعياتها على مسار الأزمة بين إيران والولايات المتحدة والدول الأوروبية وفي مقدمتها بريطانيا، وأخيرًا خيارات إيران فيما يتعلق بالاستمرار في هذا النمط من السلوك أم تغييره؟
أولًا: تبرير قانوني أم إستراتيجية ممنهجة؟
حرصت إيران على عدم التصريح الرسمي حول احتجازها لناقلات النِّفط جاء في إطار حالة التوتر والتصعيد الراهنة بين إيران والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وتجسد ذلك في التبريرات القانونية التي ساقتها طهران لاحتجازها السفينة البريطانية سواءً بزعم تلويثها للبيئة، والانحراف عن مسارها القانوني، أو بغرض التحقيق في اصطدام الناقلة بقاربٍ صيد إيراني. فيما كانت الحادثة نفسها كاشفة عن حقيقة السياسة الإيرانية الممنهجة تجاه التعاطي مع مسألة عبور الناقلات البحرية من منطقة الخليج، إذ رُوِّج للحادثة من بعض أقطاب النظام على أنها جاءت كرد فعل على احتجاز بريطانيا لناقلة النِّفط الإيرانية «غريس 1» أثناء العبور من مضيق جبل طارق بحجة أنها متجهة لتزويد نظام بشار الأسد بالنِّفط الذي يتمّ بمخالفة العقوبات الدولية المفروضة عليه.
يظهر المدى الزمني الذي تصاعدت فيه سياسة إيران تجاه حركة الناقلات في الخليج العربي وخليج عمان، مدى الارتباط بين هذا السلوك الإيراني بتشديد الولايات المتحدة عقوباتها عليها، مما وصل بالأمر إلى حد الأزمة غير المسبوقة بحسب اعتراف الرئيس الإيراني حسن روحاني نفسه، وهو ما يعني أنَّ هناك سياسة إيرانية مقصودة من وراء استهدافها لأمن الملاحة في الممرات البحرية في المنطقة وناقلات النِّفط تحديدًا.
ثانيًا: ما وراء سياسة اعتراض ناقلات النِّفط من جانب إيران
يبدو من وراء سياسة استهداف الناقلات البحرية في الخليج أنَّ إيران ترمي إلى ما يأتي:
1- موازنة الضغوط على صادراتها النِّفطية: سبق وأن صرح روحاني بأنه إذا حرمت إيران من تصدير نفطها؛ فإنها ستحرم دول المنطقة من الأمر ذاته؛ ونظرًا لأن قرار إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإلغاء الاستثناءات الخاصة بالصادرات النِّفطية الإيرانية مطلع مايو 2019، أدى إلى انخفاض صادرات النِّفط الإيراني إلى أقل من نحو 300-500 ألف برميل يوميًا، مما ترك آثارًا سلبية على الأوضاع في إيران، فإنَّ النظام رمى من وراء استهداف ناقلات النِّفط موازنة الضغوط الأمريكية بضغوطٍ مقابِلة لتخفيف الضغوط في هذا المجال.
2- التأثير على مواقف القوى الكبرى من مدخل الاقتصاد: تدرك إيران بأن تعطيل حركة الملاحة الدولية في (الخليج العربي وخليج عمان) وواحدة من أهم الممرات الملاحية الدولية في العالم (مضيق هرمز) الذي يمر من قرابة 20% من صادرات النِّفط العالمية، بمثابة ورقة ضغط من أجل مواجهة التحديات التي تفرضها عليها الولايات المتحدة والتراخي الأوروبي في التعامل مع الأزمة، باعتبار أن سياسة استهداف حركة الملاحة في هذه المنطقة ستكون لها تداعيات سلبية كبيرة على أسعار النِّفط عالميا، وهو أمرٌ قد تأخذه الدول الكبرى بالحسبان عند التعاطي مع الملف الإيراني.
3- اختبار رد الفعل الأمريكي: أرادت إيران من وراء استهدافها المتواصل لناقلات النِّفط اختبار ردود الفعل الإقليمية والدولية، وتحديدًا معرفة مدى الاستعداد والرغبة الأمريكية في القيام بعمل عسكري ضد إيران، وربما سنح لها الموقف الأمريكي باستبعاد الخيار العسكري في زيادة معدلات استهدافها للناقلات البحرية سواء بالهجوم غير المباشر أو الاحتجاز.
4- ردع القوى الراغبة في احتجاز ناقلات النِّفط الإيرانية: استهدفت إيران إيصال رسائل سياسية بأنها تمتلك أوراق ضغط قوية ومؤلمة ومؤثرة على حركة الملاحة الدولية، وأنَّ هناك تكلفة كبيرة ستتحملها أي دولة قد تستهدف صادراتها النِّفطية التي تتم بالمخالفة للعقوبات، كما أنها باحتجاز الناقلة البريطانية تحاول ردع أي طرف في المستقبل عن احتجاز ناقلتها النِّفطية.
5- التهديد بورقة أمن المنطقة واستقرار اقتصاداتها: تدرك إيران دور بعض القوى الإقليمية الرئيسة في حملة الضغوط المكثفة التي تواجهها طهران، لذلك فإنها ترمي من وراء استهداف ناقلات النِّفط إلى التأثير على الاستقرار الاقتصادي لهذه الدول، لما تمثله حركة التجارة سواء المتعلقة بالنِّفط أو غيرها من مجالات من أهمية كبيرة في دعم استقرار هذه الدول.
ثالثًا: التأثيرات والتداعيات
1- تدويل حماية الملاحة البحرية في منطقة الخليج: فيما تتزايد المخاطر والتحديات التي تفرضها إيران على حرية الملاحة في المنطقة، فضلًا عن التداعيات الأمنية والاقتصادية جراء استهداف الناقلات البحرية، فقد أصبحت مسألة تشكيل تحالف دولي لحماية حرية الملاحة في الخليج والممرات البحرية المهمة في المنطقة مسألةً مطروحة بقوة، ولا سيما مع وجود رغبة أمريكية في ذلك، بجانب وجود موافقة من بعض دول الخليج الرئيسة، وذلك لما تمثله حرية الملاحة من قضيةٍ مصيريةٍ بالنسبة للقوى الدولية الكبرى وبالنسبة لدول الخليج التي تعتمد بصورة رئيسة على صادراتها عبر هذه الممرات. وقد دعت بريطانيا لتشكيل قوة حماية لحرية الملاحة البحرية في الخليج العربي تحت قيادة أوروبية، وقد أعلنت مجموعة من الدول الأوروبية موافقتها على المقترح البريطاني وانضمامها إلى تلك القوة وهي كلٌ من فرنسا وإيطاليا والدنمارك، في حين أعلنت هولندا أنها ما زالت تدرس الأمر، ورفضت كلٌ من ألمانيا وبولندا والسويد المقترح، وإن كانت تؤيد فكرة وجود مثل هذه القوة، ولا شك أن وجود مقترحين متوازيين لتشكيل قوة بحرية لضمان حرية الملاحة في الخليج أحدهما بريطاني والآخر أمريكي سيُحدث نوعًا من الانقسام داخل صفوف حلفاء الولايات المتحدة، لأنَّ بريطانيا أكدت على أنَّ التحالف الذي تزمع إنشاؤه لن يكون ضمن إستراتيجية الضغوط القصوى الأمريكية التي تطبقها الولايات المتحدة ضد إيران.
وعلى المستوى الخليجي، أكد المدير العام لمؤسَّسة الموانئ الكويتية رئيس اتحاد الموانئ العربية الشيخ يوسف عبدالله الصباح الأربعاء (24 يوليو 2019) وجود تنسيق خليجي – عربي لتأمين سلامة حركة السفن في مياه الخليج.
2- زيادة الحضور العسكري للدول الكبرى في منطقة الخليج: مع تصاعد أزمة ناقلة النِّفط البريطانية أعلنت لندن أنها بصدد إرسال قطع بحرية إضافية إلى الخليج العربي لحماية ناقلاتها البحرية، وأنها سوف تزيد من حضورها العسكري إذا تزايدت المخاطر، وقد سبق ودعا الرئيس ترامب اليابان والصين إلى حماية ناقلاتها البحرية في الخليج، وأنَّ الولايات المتحدة لن تتحمل عبء تأمين الملاحة في المنطقة وحدها، وهذا الأمر بدوره يدفع الدول التي لديها مصالح اقتصادية كبيرة في المنطقة إلى إعادة التفكير في مسألة انتشارها العسكري في المنطقة.
3- تزايد التوتر وعدم الاستقرار الإقليمي: لا شك في جدية التداعيات الأمنية والاقتصادية الناتجة عن التطورات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط ليس فقط على أمن واستقرار المنطقة ككل وبما فيها إيران، بل أيضًا على الاقتصاد العالمي أجمع؛ نظرًا لما يمثله ضمان حرية الملاحة في مضيق هرمز من أهميةٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ وأمنيةٍ للدول الصناعية أو الصاعدة وحتى الدول المصدرة للنِّفط وعلى رأسها إيران نفسها.
4- تزايد احتمال نشوب صراع عسكري: قد يؤدي استمرار سياسة احتجاز الناقلات إلى تعرض القوات البحرية الإيرانية المعتدية على الناقلات لضربات عسكرية كرد فعل رادع من الولايات المتحدة، والإسراع بتنفيذ التحالف البحري الذي تسعى لتشكيله لحفظ الملاحة البحرية في مضيق هرمز والحفاظ على مصالحها الاقتصادية.
5- حصار نفطي لإيران: قد تؤدي سياسة إيران إلى نتائج عكسية عبر تبني الولايات المتحدة وبعض القوى الدولية كبريطانيا سياسةً تستهدف احتجاز مزيدٍ من السفن وناقلات النِّفط الإيرانية المارة في البحار الدولية وحرمانها من تصدير النِّفط للصين والهند وغيرهما، وبالتالي تعطيل النزر اليسير المتبقي من إيرادات تصدير النِّفط الإيراني للخارج عقب العقوبات الأميركية المفروضة منذ عام.
6- تحول الموقف الأوروبي: أو على الأقل خلق مزيدٍ من التشدد الأوروبي في الشروط اللازمة لتفعيل الآليات المالية والشروط المصرفية التي تحتاجها إيران لمواجهة لعقوبات الاقتصادية كتفعيل آلية «إنستكس» أو التوقيع على اتفاقية «فاتف»، إضافةً إلى تشدد الموقف البريطاني من الاتفاق النووي أكثر من ذي قبل ردًا على احتجاز الناقلة البريطانية «سانيتا».
رابعًا: تعطيل حركة الملاحة من جانب إيران.. ما المستقبل؟
1- تراجع تام: من ضمن الخيارات المطروحة بالنسبة لإيران هو تراجعها عن السياسة الممنهجة الرامية إلى استهداف الناقلات النِّفطية والتجارية المارة عبر الممرات الملاحية في المنطقة، ربما يمكن تفسير ذلك لضعف الحجج القانونية التي تستند إليها في تبرير هذا الاحتجاز؛ نظرًا لأن مضيق هرمز يتم الاحتكام في حرية الملاحة فيه إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، بوصفة ممرًا ملاحيًا دوليًا يُتاح فيه حق المرور البريء لكافة الدول، فضلًا عن تحسب إيران لما قد تجلبه هذه السياسة من مخاطر وتحديات، من أهمها: تدويل مسألة حماية الملاحة في الممرات الملاحية في المنطقة، وتزايد الوجود العسكري في مياه الخليج، واحتمال تزايد الاحتكاك ليس مع الولايات المتحدة وحسب ولكن مع قوى أخرى، ناهيك عن تشكيل احتمال انضمام الدول الأوروبية وقوى أخرى إلى الجانب الأمريكي، مما قد يكثف من الضغوط الاقتصادية والسياسية بل والعسكرية على طهران.
وبالتالي فإنَّ إيران تحت تأثير تلك التحديات قد تعيد التفكير في سياساتها، وتتوقف عن ممارساتها العدائية، وإن كان ذلك لن يوقف محاولات تدويل حماية ممرات الملاحة في الخليج الذي ترعاه الولايات المتحدة وبعض القوى الإقليمية لمواجهة خطر إيران.
2- تصعيد مستمر: الخيار الثاني أمام إيران هو استمرارها في تصعيد سياساتها العدائية ضد الناقلات البحرية؛ وذلك نظرًا إلى عمق الأزمة التي تمر بها على المستوى الاقتصادي، ومحاولتها مساومة الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية بمسألة أمن واستقرار حركة الملاحة في المنطقة، برفع العقوبات، ولا سيما إذا ما تزايدت تأثيرات العقوبات، وباتت تستشعر عدم القدرة على الاستمرار في سياسة الصمود أمام التحدي الاقتصادي، في هذه الحالة سيكون التصعيد خيارًا مكلفًا للنظام، إذ إنه على الأرجح لن يقابل بقبول أمريكيٍّ وغربيٍّ، بل ومن بعض داعمي النظام على المستوى الدولي، لما يسببه هذا الخيار من تحدياتٍ اقتصادية ونفطية أمام الدول الصناعية الكبرى.
لكن مع ضعف احتمال أن يؤتيَ هذا الخيار بثمارٍ إيجابية لإيران، لكنه أمرٌ وارد، في ظل الموقف الأمريكي من مسألة المواجهة العسكرية مع إيران، وتبنِّي خيار الضغوط كخيار إستراتيجي من أجل الوصول إلى التفاوض، وهو الأمر الذي يغري إيران، بمحاولة امتلاك أوراق للاستعداد لهذه المرحلة، ومن ضمن هذه الأوراق أمن الملاحة والاستقرار الإقليمي.
3- تكتيك مؤقت: أما الخيار الثالث فهو توظيف مسألة أمن الملاحة في المنطقة كتكتيكٍ مؤقت، ولتحقيق أهدافٍ محدودة، يؤكد ذلك طبيعة عمليات الاستهداف والاحتجاز التي تقوم بها إيران، حيث لا تزال محدودة وانتقائية، ولا تصرح إيران بأنها تتم كرد فعل وتحدٍ للموقف الأمريكي أو مواقف الدول المعنية بالأزمة، فضلًا عن أنها لا تتسبب في خسائر مادية كبيرة، وأغلب عمليات الاحتجاز قد تم حلها والإفراج عن السفن، والباقية تتم معالجتها ضمن الأطر الدبلوماسية، بالإضافة إلى أنَّ إيران تحاول إيجاد التبريرات القانونية لسياسته تجاه حرية ملاحة السفن في الخليج، وهذا النمط من السلوك يدل على أن طهران تستخدم تلك السياسة للضغط وحسب حتى الآن، وأنه يتفادى التصعيد غير المحسوب، وهي سياسة تختلف بالكلية عن سياسة حرب الناقلات التي تمت في الثمانينيات.
خلاصة القول، إنَّ سياسة إيران تجاه حركة الملاحة في المنطقة مفتوحة على كافة التوقعات، وهي وإن كانت خلال المرحلة الراهنة أكثر انسجامًا مع سيناريو التكتيك المؤقت؛ نظرًا لمعطيات الأزمة في المرحلة الراهنة، التي تختبر فيها إيران من جانب والولايات المتحدة وحلفائها من جانب آخر لحدود المكسب والخسارة، غير أنه لا يستبعد أن تتجه نحو أحد السيناريوهين الآخرين، أولهما التراجع التام، وهذا مرتبط بالوصول إلى صفقةٍ جديدة تتفكك على إثرها الأزمة بين إيران والولايات المتحدة، ومؤشرات هذا السيناريو ليست غائبة عن التطورات الراهنة، وإعلان الجانبين الرغبة في التفاوض، والتصريح بعدم رغبتهما في الدخول في مواجهة. وثانيهما، التصعيد المستمر، وهو سيناريو مرتبط بعمق الأزمة التي تمر بها طهران، وعدم رغبتها في تقديم تنازلاتٍ من أجل حلحلة الموقف الأمريكي، الذي على ما يبدو بات هو من يتحلى بالصبر الإستراتيجي من خلال إستراتيجية الضغوط التي مع الوقت ستضع إيران أمام خيار التفاوض أو المواجهة التي سيكون أمن الملاحة البحرية في المنطقة أحد ميادينها.
جدول يوضح استهداف ناقلات النفط منذ إلغاء الاستثناءات الأمريكية على صادرات النفط الإيراني