أصبحت الصين، لا روسيا، تشكِّل شريان الحياة لإيران في عهد الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب، إذ ازدهر التبادل التجاري دون انقطاع بين البلدين ليصل إلى 48 مليار دولار في عام 2018، وعندما غادرت شركة «توتال» الفرنسية العملاقة في مجال الطاقة، حقل غاز بارس الجنوبي البحري خشية العقوبات الأمريكيَّة، سارعت شركة البترول الوطنية الصينية إلى إبداء اهتمامها بشراء 50.1% من هذا المشروع، ولو لم تمنح واشنطن الهند استثناء من العقوبات، فربما كان ميناء تشاباهار الاستراتيجي الآن في حوزة بكين.
ولأن الصين هي أكبر مستورد للنِّفْط الإيرانيّ، فإن حصولها على استثناء من الولايات المتَّحدة بشأن العقوبات على إيران يخفف من آثار العقوبات والعزلة على طهران. وعلى صعيد متصل، صرح وزير النِّفْط الإيرانيّ بيجن زنغنه قائلًا: «حلت شركة البترول الوطنية الصينية رسميّا محل توتال في مشروع تطوير المرحلة 11 من حقل بارس الجنوبي، إلا أنها لم تبدأ بالعمل فعليًّا». وحتى اللحظة، لم تحدَّد الوسائل التشغيلية والتنفيذية للمشروع. ومعلوم أن إيران تتشارك مع قطر هذا الحقل، إذ تستخرجان البتروكيماويات من نفس المصدر.
استثناء الصين من العقوبات الأمريكيَّة
قبل الحصول على الاستثناء من الحكومة الأمريكيَّة، كان من الواضح تماما أن حقل بارس الجنوبي سيقدَّم للصين إذا أجبرت العقوبات الأمريكيَّة الشركة الفرنسية «توتال» على المغادرة. وحتى ذلك الوقت، كانت شركة البترول الوطنية الصينية تملك حصة مقدارها 30% من حقل النِّفْط، يُتوقع أن ترتفع الآن إلى 80%.
حسب الاستثناءات الأمريكيَّة للدول الثماني، يُسمح لتلك الدول بشراء النِّفْط الإيرانيّ حتى 3 مايو 2019. وتشير تقارير إعلامية إلى أن ناقلات النِّفْط محجوزة حتى ديسمبر 2018، ومِن ثَمَّ لن تتمكن دول مثل كوريا الجنوبية واليابان من الاستفادة من فترة السماح قبل يناير 2019، إلا أن الصين ليست مقيَّدة بتوافر الناقلات أو تحديد الاعتماد على الدولار الأمريكيّ، إذ يُسمح لها بشراء 360 ألف برميل يوميًّا لتلبية احتياجاتها المتزايدة من الطاقة التي تتجاوز تسعة ملايين برميل يوميًّا. وتبقى إيران وروسيا وكوريا الشمالية المستفيدين الرئيسيين الثلاثة من العرض الصيني لاستبدال الدولار بالرنمينبي أو اليوان لتجارتها الدولية. وحتى إذا لم تكُن عملية تبديل الدولار باليوان ممكنة بسبب العوائق التنظيمية وديناميكيات السوق، فإن بكين وطهران يمكن أن تعتمدا على تجارة المقايضة (النِّفْط مقابل البضائع) للموادّ التي لا تندرج تحت طائلة العقوبات الأمريكيَّة.
دعم الصين يحدّ من احتجاجات الداخل
في إطار الاحتجاجات الغاضبة التي انطلقت منذ نهاية عام 2017م في إيران، يمكن أن يؤدِّي استمرار الدعم الصيني إلى تفادي تفاقم الوضع الاقتصادي والسياسي الإيرانيّ الداخلي، إذ أصبح خطاب ترامب حول فرض العقوبات على إيران فارغًا نتيجة الاستثناءات التي منحها للدول الثماني، وحتى الآن يمكن لسياسة الولايات المتَّحدة أن تمنع عملاء إيران الأوروبيّين، المنشغلين حاليًّا بإيجاد وسائل للتحايل على العقوبات، من استمرار تعاملهم مع طهران. ورغم أن المخاطر قد تكون مرتفعة بالنسبة إلى بكين في تسعير حرب التجارة التي بدأها ترامب، فإن العلاقات مع طهران تمثِّل رسالة فعَّالة وغير مباشرة للمواجهة العملية بين الطرفين.
يرى كثيرون أن كلًا من الصين وإيران تُعدّ من أقدم الحضارات في العالَم، إلا أنهما أقامتا علاقات ثنائية عام 1971، وخلال عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، وقَّعَت الدولتان معاهدة تجارة المقايضة (النِّفْط مقابل البضائع) التي تَعزَّزَت أكثر خلال حكومة حسن روحاني. من جانبها أنشأت الصين بنكين هما شركة تشوهاي تشينرونغ وبنك كونلون التابع لشركة الصين الوطنية للبترول، لمواصلة الأعمال المالية بغضّ النظر عن العقوبات الأمريكيَّة. على سبيل المثال، استمرّ كلا البنكين بشراء نصف مليون برميل يوميًّا من إيران خلال عهد الرئيس أوباما حتى قبل توقيع الاتفاق النووي، فيما كانا محصَّنَين من تأثير العقوبات بسبب دورهما الهامشي في الأعمال التجارية الدولية.
مستقبل العلاقات الصينية-الإيرانيَّة
في ظلّ توقعات النموّ الاقتصادي المذهل في الصين بحلول عام 2030، فإن حاجة العملاق الآسيوي من الطاقة سترتفع بشدة. والوقوف إلى جانب طهران في الأوقات العصيبة سوف يُؤتِي أُكُلَه من خلال ردّ الجميل لبكين خلال العقود القادمة. ومن خلال اتفاقية خطّ أنابيب النِّفْط، اتفق الطرفان عام 2016 على إنشاء مفاعلين نوويين في إيران، إذ تَعهَّد الرئيسان زاي وروحاني برفع الميزان التجاري بين الدولتين إلى 600 مليار دولار في 10 سنوات. ويبدو هذا الأمر مُبالَغًا فيه بعض الشيء، إلا أن الطرفين قد وضعا أسسًا لشراكة طويلة الأمد.
قبل فرض مجلس الأمن العقوبات، كانت إيران من أكبر مستوردي المعدات العسكرية الصينية، ورغم أن بيع الأسلحة لطهران يتطلب موافقة مجلس الأمن الدولي حتى موعد انتهاء هذا الشرط عام 2020 كما هو مقرَّر في خطة العمل المشتركة الشاملة، فمن المرجح أن تبقى بكين المصدر الأفضل والأكثر موثوقية لطهران. وبالمقارنة مع عام 2009، حققت الصناعات العسكرية الصينية تطوُّرًا ملحوظًا، إذ أصبحت محطّ إعجاب على مستوى العالَم. وعلى الرغم من أن إيران تتبنى سياسة تدخُّلية نشطة، فإن الصين تجنبت مثل هذه السياسات بشدة. مع ذلك فهما تمتلكان منهجين متماثلَين تقريبًا في المحافل الدولية حول معظم النزاعات والقضايا العالَمية، بخاصَّة الجمعية العامَّة للأمم المتَّحدة ومجلس الأمن. وتُعتبر سوريا أكبر مثال على تلاقي المصالح بينهما. إن نموّ القوة المالية للصين سوف يؤدِّي إلى قيام نظام اقتصادي مُوازٍ يُلحِق الضرر بالدولار الأمريكيّ. وستكون عقوبات مجلس الأمن هي الرادع الوحيد لعزل بلد مارق (في إشارة إلى إيران) ولو لم تكُن هذه الإجراءات ممكنة دون تصويت الصين من ضمن الدول الخمس العظمى في مجلس الأمن.
التعاون السعوديّ-الصينيّ وأثره على علاقة بكين بطهران
أوْلَت المملكة العربية السعوديَّة علاقاتها مع الصين اهتمامًا كبيرًا، فكون الرياض أكبر مصدِّري الطاقة إلى الصين وصاحبة أكبر ميزان تجاري معها، إذ بلغ 42.36 مليار دولار عام 2017، جعلها تفتح سبلًا جديدة للتعاون بينهما، بدءًا من شراء المعدات العسكرية إلى بناء مصافي التكرير. ومع ذلك فإن واردات المملكة من الأسلحة من الصين بلغت 20 مليون دولار عام 2017، وهو رقم لا يقارَن بحجم واردات الأسلحة الضخم من الولايات المتَّحدة الذي بلغ 3.4 مليار دولار في نفس الفترة.
في أكتوبر 2018، خَطَت المملكة العربية السعوديَّة أولى خطواتها في تبنِّي مبادرة الصين حول الحزام والطريق عن طريق الانضمام إلى الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني، ففي الوقت الحالي اختارت السعوديَّة ميناء جوادار المطلّ على مياه بحر العرب لإقامة مصفاة للنِّفْط هناك. إن استرجاع القوة الجيو-سياسية والاقتصادية للولايات المتَّحدة يستلزم وجود بدائل لمصادر القوة، فعلى الرغم من الرغبة في انتهاج سياسة متعددة الجوانب، فإن المملكة العربية السعوديَّة تدرك أنها يجب أن تعمل أسرع في الضغط باتجاه العلاقات مع الصين.
سعت السعوديَّة منذ مدة طويلة لتنويع علاقاتها الاقتصادية بدل اعتمادها على الولايات المتَّحدة، وزادت من تعاملها مع الصين، أكبر شريك تجاري لها بميزان تجاري بلغ 42.36 مليار دولار عام 2017. وخلال زيارة الملك سلمان للصين في شهر مارس 2017، وقّع البلدان صفقات بقيمة 65 مليار دولار في مجالات الطاقة وتكنولوجيا الفضاء.
وباتخاذها دور المنقذ لإيران، يضعف مبدأ التوازن في السياسات الذي تنتهجه الصين من حيث الحفاظ على الأسواق المربحة والنفوذ الإقليمي، إذ ستواجه بكين منافسة متنامية بين الأطراف الخليجية من أجل تحقيق شراكة استراتيجية معها، مِمَّا يشكِّل تحدِّيًا لمفاهيمها التي تبنتها منذ فترة طويلة حول الحيادية في النزاعات الخارجية.