ظهرت دلائل على دخول العلاقات الثنائية بين إيران والهند فصلًا جديدًا من التعاون بعد جائحة «كورونا»، ففي أقلّ من أسبوع زار اثنان من كبار وزراء حكومة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي -وهُما وزير الدفاع رايناث سينغ ووزير الخارجية سوبرامانيام جايشانكار- طهران، ولم يصرِّح أيٌّ من الطرفين عن الدافع وراء هذه الدبلوماسية، إذ قَبِلَ رايناث دعوةً من إيران لزيارتها، أمّا جايشانكار فقد جاءت زيارته لطهران في طريق توجُّهه إلى اجتماع وزراء خارجية منظَّمة شنغهاي للتعاون في موسكو.
ثمَّة عدَّة عوامل مُحتمَلة لعبت دورًا محفِّزًا في تحسُّن العلاقات بين إيران والهند، فمع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية وازدياد ضغط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن العقوبات ضدّ الصين، كانت الهند تتجاهل إيران في محاولةٍ منها لاسترضاء البيت الأبيض، إلّا أنّ بعض التطوُّرات جعلت الهند تُعيد النظر في موقفها تجاه إيران، منها التوتُّرات المتزايدة مع الصين الناتجة عن إبحار السُفن البحرية الهندية في المياه التي تدّعي الصين السيادةَ عليها في بحر الصين الجنوبي.
كما أنّ وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أبلغَ البرلمان الإيراني عن صفقة شاملة وشيكة مع الصين بقيمة 400 مليار دولار، وبسبب شعورها بالإحباط من تباطؤ الهند في تطوير حقل غاز فرزاد-بي خشيةَ العقوبات الأمريكية، قرَّرت إيران العمل بمفردها في بناء خطّ سكة حديد تشابهار – زاهدان، والذي كانت نيودلهي أيضًا شريكًا فيه؛ وبعد ادّعاء ظريف توقيعَ إيران اتفاقًا طويلَ الأمد مع الصين، تزايدت مخاوف الهند بشأن فقدان السيطرة التشغيلية على ميناء تشابهار أيضًا، الذي يقعُ على بعد 70 ميلًا بحريًا عن ميناء جوادر الباكستاني الذي تُشغِّله بكين، والذي يوفِّر أقصر طريقٍ إلى أفغانستان الحبيسة بالإضافة إلى آسيا الوسطى، وبعد فترة قصيرة من التعثُّر في العلاقات الباكستانية – السعودية وتطوير إسلام أباد لعلاقاتها الودِّية مع إيران، تفاقمت مخاوف نيودلهي، وفي حال لم تكُن هذه العوامل العديدة كافيةً لدفع الهند تجاه إيران؛ فإنّ شبحَ عودة عقوبات مجلس الأمن على إيران -بعد تفعيل الولايات المتحدة لآلية «سناب باك»- له آثارٌ مهمة بالنسبة للهند، فحاليًّا أُعفِي ميناء تشابهار والطريق التجاري المؤدِّي إلى أفغانستان من العقوبات الأمريكية.
ونظرًا لعدم تصريح أيٍّ من دلهي وطهران بمعلوماتٍ حول زيارتي كبار المسؤولين الهنديين لطهران، فإنّ ذلك يطرح جُملةً من الأسئلة المتعلِّقة بسبب العلاقات الودِّية بين العاصمتين. هل هو عاملُ الصين؟ أم التفعيلُ الوشيك لآلية إعادة فرض العقوبات على إيران على يد واشنطن؟ أم تحوِّلُ تركيز باكستان من دول الخليج إلى جارتها الجغرافية الجنوبية الغربية؟ أم هو اتّفاقُ السلام الحتمي بين كابُل وطالبان، الذي قد يُغيِّر المشهدَ السياسي في أفغانستان؟
ترى إيران أنّ الهند خيارٌ يحقّق لها التوازُن في مواجهة الصين، فطهران تُدرك أنّ اعتمادها الكبير على بكين وموسكو قد يضُرّ بقوّتها التساوُمية على المدى الطويل، كما أنّ كلًّا من روسيا والصين تحافظان على علاقاتٍ ودِّية مع خصومِ إيران التقليديين في العالم العربي، وكذلك مع إسرائيل.
ويشير الدفء المتجدِّد في العلاقات الإيرانية مع الهند إلى يأسِ إيران، في أعقابِ إحجامِ الصين عن توقيع اتفاقٍ طويلِ الأجل، كان قد ألمحَ إليه الرئيس شي جين بينغ لأوَّل مرَّة خلال زيارته لطهران في عام 2016. والمعلوم أنّ إيران ترغب في التوقيع على هذا الاتفاق في الأسابيع المقبلة، وعلى الرغم من مشاعر الحماسة التي أبدتها إيران بعد كشفِ وزير خارجيتها عن تلكَ الصفقة للبرلمان، إلّا أنّ بكين لم تُشِر حتّى إلى بدء المحادثات بشأن الصفقةِ طويلةِ الأمد.
رُبّما تريد إيران استغلالَ قوّة جماعة الضغط الهندية في أمريكا أيضًا؛ لتخفيف ضغطِ واشنطن المتزايد عليها، بينما تستمرّ محاولةُ الوساطة عبرَ سويسرا، وقد فشلت الولايات المتحدة في إقناعِ مجلس الأمن الدولي بتمديدِ حظرِ الأسلحة المفروضِ على إيران، وردًّا على ذلك أطلقت آلية «سناب باك» لإعادةِ العقوبات على إيران، غير أنّ هذه المحاولة الأمريكية محفوفةٌ بالتحدِّيات؛ لأنّ 13 من أعضاء مجلس الأمن الدولي يُشكِّكون في حقِّها بتفعيل آلية «سناب باك» بسبب انسحابها من الاتفاق النووي، فيما تُصِرّ الولايات المتحدة -بصفتها طرفًا مؤسِّسًا في الاتفاق النووي الذي أقرّته الأمم المتحدة- على أنّ لها الحقّ القانوني في إطلاقِ آلية «سناب باك»، ونظرًا لأنّ الهند طرفٌ في مشاريع جيو-اقتصادية وجغرافية إستراتيجية رئيسة معرَّضة لاستحواذ الصين عليها؛ فمن المُحتمَل أن تطلب إيران من نيودلهي تأمينَ مصالحها على الساحة العالمية كقوّةٍ إقليمية، وعلى مرّ التاريخ تأرجحت العلاقات بين الهند وإيران بين المحبَّة والكراهية، تتخلَّلُها عصورٌ من التعايُش السلمي، وفتراتٌ أُخرى اجتاحَ فيها الفُرسُ مُدُنًا هندية.
كما أنّ هناك عاملًا آخر يُقرِّب بين إيران والهند، وهو اتفاق السلام بين طالبان وكابل، الذي سوف يُسفِر عن تضاؤل الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان، ومن المرجَّح أن يؤدِّي هذا الاتفاق إلى ظهور مشاعرَ واسعة مؤيدة لباكستان في أفغانستان، فعلى الرغم من أن إيران تحافظُ على علاقة جيِّدة مع طالبان إلّا أنّ الهند وقفت في الغالب مكتوفةَ اليدين بينما لعبت باكستان دورًا محفِّزًا في اتفاق السلام؛ وتعتمدُ دلهي على طهران من أجل تحسين العلاقات مع طالبان، واللافت للنَّظر أنّ مصالح الهند وإيران لا تتداخل في أفغانستان، فالأولى تُريد استخدامَها كنقطةِ انطلاقٍ ضدَّ باكستان، فيما تطمحُ إيران لاستخدامِها في إحراج الولايات المتحدة. ومن ناحيةٍ أخرى، ما تزال الصين المستثمرَ الرئيس في أفغانستان التي مزَّقتها الحرب ولديها طموحاتٌ لتعزيز حصّتها في تطوير قطاعي التعدين والبُنية التحتية، من خلال جعلِ البلاد تعتمدُ على ميناء جوادر للصادرات.
ومن وجهةِ نظرٍ نفعية، فإنّ الهند ليست في وضعٍ يسمَح لها بتوفير فترةِ راحةٍ لإيران من واشنطن، خاصّةً مع اقتراب موسم الانتخابات المتوتِّر، كما أنّ الصين لن تندفعَ إلى توقيع الاتفاق الشاملِ طويلِ الأجل الذي أعلنه ظريف؛ لأنّ علاقاتها مع الغرب وإسرائيل وكذلك مع دول الخليج (أكبر شركائها التجاريين) ستكون على المحكّ، ويُساعد تحسُّن العلاقات بين إيران والهند على موازنة علاقاتهِما مع الصين، ومراقبةِ باكستان، ودفعِ أفغانستان للاعتماد على ميناء تشابهار.