يمثِّل إعلان إيران في 21 نوفمبر 2025م، عن أنَّ «اتفاق القاهرة» المُبرَم مع الوكالة الدولية للطاقة الذرِّية يعد لاغيًا وباطلًا، نقطة تحوُّل حقيقية في مواجهتها الممتَدَّة مع المجتمع الدولي بشأن برنامجها النووي. فمن خلال تخلِّيها عن إطار تعاون كان هشًّا أصلًا، تتجاوز طهران عتبة سياسية وتقنية بالغة الأهمِّية؛ ما يرفع حِدَّة المواجهة، ويضيِّق هامش الدبلوماسية المُتاح لخفض التصعيد. ومن المرجَّح أن يؤدِّي هذا القرار إلى تنامي التوتُّرات مع الدول الغربية، التي تعُدُّ اتفاق القاهرة واحدًا من المسارات الدبلوماسية القليلة المتبقِّية لإدارة الملف النووي. كما ستؤدِّي حالة الغموض الناتجة عن غياب الشفافية حول الأنشطة الإيرانية، إلى تعميق انعدام الثقة، وتعزيز احتمالات التوتُّر العسكري، بما يزيد من مخاطر الحسابات الخاطئة لدى الطرفين.
وجاء الإعلان الذي قدَّمه وزير الخارجية عباس عراقجي، في رسالة رسمية إلى المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرِّية رافاييل غروسي، بعد أقلّ من 24 ساعة على تبنِّي مجلس محافظي الوكالة قرارًا يُدين إيران بسبب عدم تعاونها المستمرّ. ولم تعمِّق هذه السلسة من التطوُّرات الأزمة المحيطة بالأنشطة النووية الإيرانية فحسب، بل أبرزت أيضًا هشاشة نظام عدم الانتشار النووي العالمي.
لقد كان «اتفاق القاهرة»، الذي توصَّلت إليه الأطراف المعنية في سبتمبر 2025م، بعد مفاوضات دبلوماسية في العاصمة المصرية، خطوة متواضعة، لكنّها ذات دلالة لإعادة تفعيل الرقابة الدولية على البرنامج النووي الإيراني. وعلى الرغم من أنَّه ليس معاهدة مُلزِمة قانونًا، جاء الاتفاق بصيغة تفاهُم تقني يحدِّد إجراءات استئناف عمليات التفتيش والتقارير في مواقع نووية رئيسة. وقد هدَفَ إلى وقْف التدهور في آليات التحقّق، وإلى استعادة حدٍّ أدنى من الشفافية، بعد سنوات من التعتيم المتزايد. وعلى الرغم من محدوديته وطبيعته الخلافية، اعتبره كثيرون نافذة دبلوماسية صغيرة فُتِحت، في ظل تهديدات بفرض عقوبات أُممية، فضلًا عن الديناميكيات الداخلية في عهد الرئيس مسعود بزشكيان، الذي تعهَّد بانتهاج نْهجٍ أكثر براغماتية تجاه الغرب. إلّا أنَّ المسؤولين الإيرانيين شدَّدوا منذ البداية، على أنَّ هذه التنازلات مشروطة وقابلة للرجوع عنها، محذِّرين من أنَّ أيّ خطوة «عدائية» -لا سيّما إعادة فرْض العقوبات– ستلغي التفاهم تلقائيًا.
وجاء قرار «الوكالة الدولية» الصادر في 20 نوفمبر 2025م، بمثابة الشرارة المباشرة لهذا التراجع، وقد استند إلى إعلان إيراني سابق بأنَّ «اتفاق القاهرة» لم يعُد ساريًا منذ أن فعَّلت دول «الترويكا الأوروبية» (فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة) آلية إعادة فرض العقوبات الأُممية في أواخر سبتمبر 2025م. وقد اعتمدت الوكالة القرار بتأييد 19 صوتًا، ومعارضة ثلاثة أصوات، مع امتناع 12 صوتًا، وطالبت طهران بتقديم تفسيرات فورية وذات مصادقية تقنية بشأن المواد النووية غير المُعلَنة، ومنْح الوكالة وصولًا كاملًا إلى المواقع ذات الصِلة، وتزويدها بمعلومات محدَّثة حول مخزون اليورانيوم المخصَّب والمنشآت الخاضعة للضمانات. وجسَّد القرار حالة الإحباط المتفاقمة داخل الوكالة خلال الأشهر الخمسة الماضية؛ بسبب رفْض إيران الردّ على أسئلة عالِقة تتعلَّق بوجود آثار لليورانيوم العالي التخصيب تُشير إلى أنشطة غير معلنة. وبالنسبة للوكالة، فإنَّ غياب الشفافية يجعل التحقُّق من الطابع السِلْمي للبرنامج الإيراني أمرًا شبه مستحيل.
وجاء ردّ عراقجي سريعًا وحاسمًا؛ إذ أعلن عبر تصريحات نشرتها وسائل الإعلام الرسمي الإيراني والقنوات الدبلوماسية، رسميًا انتهاء العمل بـ «اتفاق القاهرة»، وحمَّل ما وصفه بـ«الاستفزازات الغربية» المسؤولية. واتّهم الولايات المتحدة ودول الترويكا الأوروبية بـ«قتل» الاتفاق، عبر تسييس «الوكالة الدولية» واستخدامها كأداة ضغط. ورأى أنَّ القرار يفتقر إلى الأُسُس التقنية، وأنَّه يمثِّل دليلًا جديدًا على ما يعتبره انحيازًا داخل الوكالة. وتجنّب عراقجي التلويح مباشرةً بالانسحاب من معاهدة عدم الانتشار -وهو ما أشار إلى احتمالية تطبيقه سابقًا مسؤولون إيرانيون- لكن تصريحاته أكَّدت مجدَّدًا، رفْض طهران لأيّ مطلب يقضي بوقف التخصيب بالكامل داخل الأراضي الإيرانية.
ويعكس هذا الموقف استراتيجية سياسية محسوبة. فداخليًا، يعزِّز رفْض الاتفاق جناح «المتشدِّدين»، الذين يرون في الضغوط الخارجية دليلًا على صحة موقفهم الرافض للانفتاح. كما ينسجم مع بناء سردية رسمية تسعى إلى تفسير الأزمات الاقتصادية الخانقة -الناجمة عن العقوبات وسوء الإدارة البِنيوي العميق- باعتبارها نتيجة لمؤامرات خارجية أكثر منها إخفاقات تقنية.
أمّا خارجيًا، فهذه الخطوة تنطوي على مخاطر كبيرة؛ فمن خلال إلغاء آليات الرقابة المحدودة، التي أُعِيدت في سبتمبر 2025م، تزيد طهران من عُزلتها الدبلوماسية، وترفع احتمالات سوء التقدير. ومع تقييد دخول المفتِّشين إلى المواقع، قد تعتمد أجهزة الاستخبارات الأجنبية أكثر فأكثر على المراقبة غير المباشرة أو السرِّية؛ ما يفتح الباب أمام تحرُّكات وقائية مُحتَملة، على غرار العمليات العسكرية والاستخبارية، التي نفَّذتها إسرائيل ضدّ البنية التحتية النووية الإيرانية.
وبحلول سبتمبر 2025م، وصَلَ مخزون إيران من اليورانيوم المخصَّب إلى 440.9 بنسبة 60%، وهي نسبة تقترب من مستوى تصنيع سلاح نووي. وقيَّدت دخول المفتِّشين بشكلٍ كبير؛ ما دفَعَ الوكالة إلى توجيه تحذيرات متكرِّرة. وفي هذا السياق، يمثِّل انهيار «اتفاق القاهرة» انتكاسة لجهود إعادة بناء خط أساس أدنى للتحقُّق. وتواجه الوكالة الآن فجوات كبيرة في مراقبة منشآت أساسية، في وقتٍ تُشير تقديراتها إلى امتلاك إيران كمِّية من المواد المخصَّبة تكفي لصُنع عشرة قنابل نووية إذا قرَّرت المُضي في هذا المسار. ولهذا تأثيرات تتجاوز البُعد النووي لتطال التوازنات الإقليمية، إذ قد تشجِّع إيران، إذا ازدادت ثقتها أو اقتربت من القُدرة النووية، على تمكين حلفائها ووكلائها -بمن فيهم «حزب الله» في لبنان و«الحوثيين» في اليمن– ما قد يزعزع طُرُق الملاحة وأسواق الطاقة، التي تعصف بها أصلًا الاضطرابات الجيوسياسية.
وجاءت ردود الفعل الدولية على إعلان عراقجي حادَّة ومتباينة في آنٍ واحد؛ فالولايات المتحدة، التي شاركت في رعاية قرار الوكالة، رأت في الخطوات الإيرانية تصعيدًا متواصلًا يستوجب استمرار الضغط الدبلوماسي والاقتصادي. وأعربت دول الترويكا الأوروبية عن «بالغ قلقها»، داعيةً طهران إلى التراجع عن قرارها، ومجدِّدة التزامها بالمسار الدبلوماسي. أمّا روسيا والصين فعارضتا القرار، ودعتا إلى ضبْط النفس وحذَّرتا من مزيد من التصعيد، في ضوء تنامي مصالحهما الاقتصادية مع إيران. ومن اللافت أنَّ النيجر صوَّتت ضدّ القرار، في إشارة إلى اصطفافات جيوسياسية جديدة؛ إذ تعكس تحرُّكات النيجر مؤخَّرًا في قطاع تعدين اليورانيوم واتصالاتها مع شركاء غير غربيين اتّجاهًا نحو إعادة تموضُع أوسع.
ويتطلَّب التعامل مع هذه الأزمة مقاربة، مزدوجة تجمع بين الردع الفاعل والحوافز البراغماتية؛ فمن جهة، قد يبعث موقف موحَّد عبر مجلس الأمن برسالة واضحة حول جَدِّية المجتمع الدولي، بيْد أنَّ الضغط وحده ليس كفيلًا بتغيير حسابات إيران؛ فقد أثبتت تجربة العقد الماضي أنَّ أيّ ضغْط يجب أن يقترن بمسارات دبلوماسية قابلة للتحقُّق. ولذلك، فإنَّ تقديم تخفيف تدريجي للعقوبات مقابل خطوات قابلة للرصد -مثل إعادة تركيب أجهزة المراقبة ومعالجة قضايا الضمانات- قد يشكِّل رافعة لإعادة إشراك طهران. ومن جهة أخرى، قد يُسهِم توسيع الإطار الدبلوماسي ليشمل أطرافًا إقليمية، في بناء ترتيبات أكثر شمولًا واستدامة. وقد أعرب الاتحاد الأوروبي عن استعداده لتسهيل هذه الجهود، بينما يواصل وزير الخارجية الإيراني حواره مع الدول الأوروبية، خلال زيارته إلى هولندا وفرنسا. ومن الضروري جدًّا تعزيز استقلالية «الوكالة الدولية» ومصداقيتها التقنية، لما له من دورٍ في التقليل من التصوُّرات بشأن تسييسها، وهي التصوُّرات التي تقوِّض سُلطتها.
وفي الختام، يجسِّد إنهاء العمل بـ «اتفاق القاهرة» عقِبَ قرار الإدانة الأخير الصادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرِّية نهْج إيران النووي، الذي يزداد تصعيدًا، لكنَّه يكشف أيضًا عن هشاشة دولة تواجه ضغوطات اقتصادية خانقة وعُزلة استراتيجية واضحة. إنَّ الجمع بين الردع الحازم والحوافز المدروسة والدبلوماسية الشاملة، يشكِّل أفضل السُبُل لمنع مزيد من التصعيد والحفاظ على سلامة نظام «عدم الانتشار النووي». فالمخاطر جسيمة؛ فشل التحرُّك قد يسرِّع وتيرة عدم الاستقرار الإقليمي، ويُضعِف الأُسُس، التي يقوم عليها نظام الحوكمة النووية في لحظة تتّسِم باضطرابات جيوسياسية غير مسبوقة.