بدأت العقوبات الأمريكية على إيران في مرحلتها الثانية، وهي عقوبات تصفها الإدارة الأمريكية بأنها الأقوى والأعنف في تاريخ المواجهة للنظام الإيراني منذ الثورة، وهذه المرحلة تعيد جميع تلك العقوبات التي رفعت عن إيران جراء الاتفاق النووي بين مجموعة (5 + 1) مع إيران في عام 2015م، وتأتي هذه العقوبات في مرحلة تحديات كثيرة وكبيرة تواجه النظام الإيراني داخليًا وخارجيًا، سياسيًا واقتصاديا، مع امتعاض شعبي واسع رافض لمشروعية نظام ولاية الفقيه، ويردد شعارات تطالب في المجمل برحيل النظام بشكل مباشر أو غير مباشر.
ولعل العنوان البارز لهذه المرحلة هو الضغط الاقتصادي الأمريكي على طهران، ومن ذلك إيقاف تصدير النفط الإيراني بشكل كامل؛ ليكون (صفرًا). صحيح أن الإدارة الأمريكية لم تنجح في تحقيق هذا الهدف قبل بدء هذه المرحلة من العقوبات وقد تم استثناء ثماني دول أوروبية وآسيوية على رأسها الصين واليابان والهند وإيطاليا وتركيا؛ إذ منحت هذه الدول فرصة خمسة أشهر تقريبا للبحث عن بدائل للنفط الإيرانيّ، وبالفعل بدأت معظم هذه الدول بتخفيض اعتمادها على النفط الإيراني، إلا أنّ هذه الاستثناءات المؤقتة تؤكد عزم الإدارة الأمريكية للوصول إلى هدفها النهائي مع تعديل طفيف في الخطة الزمنية.
وفِي ظل تراجع سعر صرف العملة الإيرانية أمام العملات الأجنبية وبخاصة الدولار واليورو، من المتوقع أن يستمر هذا التراجع بشكل ملحوظ -لأهداف سياسية داخلية -خلال الأشهر القليلة القادمة على الرغم من جهود طهران للحفاظ على القيمة الحالية لعملتها الوطنية. وإلى جانب هذا القطاع، ستزداد الصعوبات على قطاع البنوك الإيرانية، وسيعاني البنك المركزي الإيراني كثيرا خلال الفترة القادمة في توفير العملات الأجنبيّة؛ إذ ستواجه طهران صعوبات بالغة في تحصيل عائدات صادراتها النفطية وغير النفطية. وعلى الرغم من المحاولات الأوروبية للبحث عن قنوات مالية بديلة وحلول بنكية تتجاوز العقوبات الأمريكية إلا أن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل حتى الآن، ومن المتوقع أن تركز دولٌ مثل تركيا والهند والصين واليابان على دفع قيمة وارداتها من الطاقة الإيرانية عبر العودة إلى الأساليب التقليدية القديمة جدا، وهو تصدير بضائع إلى إيران بدلا من الدفع لها نقدا، وربّما يتطلب هذا تخفيض سعر بيع النفط الإيراني تحت ضغوطات المشترين.
وخلال الأسبوع الماضي عرضت إيران جزءًا من إنتاجها النفطي في بورصة داخلية بسعر مخفض لكنها لم تجد مشترين فاضطرت إلى مزيد من تخفيض السعر لتتمكن من بيع بعضه. إنّ جميع هذه الخيارات التي تتجه إليها إيران هي لتقليل الخسائر فقط لا لتجنبها، فالتأثير السلبي للعقوبات سيحدث لا محالة. إنّ هذه السياسة التجارية التي تقوم على مبادلة النفط الإيرانيّ بسلع وبضائع تجاريّة ستكون مفيدة بالدرجة الأولى للدول المستوردة للطاقة الإيرانية لضمان تصريف منتجاتها، وجعل طهران مرهونة لها؛ التي ستكون منصاعة للشروط المفروضة عليها من تلك الدول؛ مما يجعل المعاناة الإيرانية مستمرة في عدم حصولها على العملة الصعبة، وبالتالي سيستمر الانهيار الاقتصادي تدريجيا، وهذا كلّه سيؤدّي إلى انصياع طهران في نهاية الأمر للشروط الأمريكية الـ12، وللعودة للتفاوض من جديد مع الإدارة الأمريكية. لا شكّ أن النظام الإيراني ينتظر نتائج الانتخابات الأمريكية القادمة ومعرفة ما إذا كانت الإدارة الحالية سيتم إعادة انتخابها أو تأتي إدارة على نمط الإدارة السابقة، لكن كل ذلك يعد مجازفة إيرانية محفوفة بالمخاطر، وستجعل النظام الإيراني في وضع أكثر تعقيدا إذا ما فاز ترامب بدورة ثانية أو جاءت إدارة جديدة سارت في اتجاه الإدارة الحالية، ناهيك عن احتمالية ارتفاع وتيرة الضغوطات الداخلية على النظام لأسباب معيشية بالدرجة الأولى.
إنّ إيران لا تزال تقف عاجزة عن تقديم أي حلول لأزمتها الداخلية التي تتسع رقعتها جغرافيًا واجتماعيًا، في ظل انهيار كبير في القطاع التجاري الصغير والمتوسط، وخروج هذين القطاعين بشكل كامل من السوق في ظل تدهور العملة المحلية والضرائب والعقبات البيوقراطية، فضلًا عن خروج مؤسَّسات حكومية مثل الحرس الثوري عن جميع هذه المعوقات من خلال إعفاءات وتسهيلات حكومية واعتماده أيضا على التهريب وامتلاكه شركات حكومية تقدّم تسهيلات مباشرة وغير مباشرة لشركات أخرى موالية له تحت أسماء مدنية. هذه النقطة تحديدا ستجعل الخزانة الأمريكية أمام تحديات كبيرة في تتبّع الأفراد والكيانات المرتبطة بالحرس الثوري؛ ومن ثم وضعها على قائمة العقوبات. ومع أن واشنطن تعلن بشكل مستمر عن قوائم جديدة في هذا الصدد إلا أنّ الحرس الثوري الإيراني يملك الكثير من الكيانات داخليًا وخارجيًا، ويحتاج التعرف عليها وتصنيفها إلى وقت أطول وجهود كبيرة.
وخارجيًا ـ ربما باستثناء روسيا والصين، ولأسباب سياسية وتنافسية مع الولايات المتحدة الأمريكية ـ ستجد كثير من الدول بما فيها الدول الأوروبية نفسها مضطرة لإيقاف التعامل الاقتصاديّ مع إيران، أما الاستثمار في الداخل الإيراني يعد أمرًا شبه مستحيلٍ في الوقت الراهن. ومع وجود بعض الشركات الأوروبية والآسيوية الصغيرة التي ليس لها تعاملات مع الولايات المتحدة الأمريكية قد تستمر في التعامل مع إيران إلا أنّها عاجزة عن إنقاذ الاقتصاد الإيراني أو ملء فراغ الشركات الكبرى. من جانب آخر وفي هذا الصدد من المتوقع أن تعمل دول المنطقة وبخاصة الخليجية على اتباع سياسة العصا والجزرة من خلال بناء علاقات مع الشركات التي اضطرت للانسحاب من السوق الإيرانية أو تجميد علاقاتها التجارية معها ومنحها حصص استثمارية تنافسية في الأسواق المحلية من ناحية، ومن أخرى إيقاف هذه الدول أي تعاملات تجارية مع الشركات التي تتجاهل العقوبات وتتعامل مع إيران.
بهذا فإنّ إيران ستمرّ بعد هذه العقوبات بأزمة كبيرة خارجيًّا وداخليًّا، فهي ستجد نفسها محاصرة اقتصاديًّا بمقاطعة نفطها أو تعويضها بسلع تجارية، قد لا تكون لها حاجة فيها، كما أنّ الأوضاع الداخلية ستزداد سوءًا؛ إذ ستنعكس هذه العقوبات على الأوضاع المعيشية بشكلٍ مباشرٍ، وستنعدم العملات الصعبة، ولن تجد طهران سبيلًا لتوفير شيء منها؛ فمن ثمّ سيصبح النظام آيلًا للسقوط.
مترجم عن : Arab News
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد