اتفاق دمشق- قسد: خطوة نحو إعادة تشكيل المشهد السياسي في سوريا

https://rasanah-iiis.org/?p=37350

في واحد من أهم التطورات السياسية والعسكرية في سوريا ما بعد سقوط نظام بشار الأسد، توصل رئيس الحكومة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، إلى اتفاق مع القائد العامّ لـ«قوات سوريا الديمقراطية» مظلوم عبدي، يقضي بإدماج كل المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية الكردية في إطار الدولة السورية، ووقف إطلاق النار على الأراضي السورية كافة، فضلًا عن دعم الدولة السورية في مكافحتها لفلول الأسد، والتهديدات كافة التي تهدد أمن ووحدة سوريا. يُعَدّ الاتفاق خطوة تاريخية وتطورًا سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا مهمًّا، خصوصًا والمسألة الكردية ومطالب الانفصال في سوريا هي مطالب يعود تاريخها إلى عقود طويلة، كما أن إنجاز هذا الاتفاق في هذا التوقيت الصعب من عمر الدولة الجديدة من المتوقع أن يحمل انعكاسات مهمة في ما يتعلق بنزع فتيل أزمة متوقعة ما بين الحكومة السورية الجديدة وأحد أكبر المكونات المجتمعية للدولة السورية، في ظل سقف الطلبات العالي التي أبداها كل طرف أمام الآخر ما قبل الاتفاق الأخير. وبالتالي يقودنا ذلك إلى تساؤلات مهمة: ما المعطيات السياسية والعسكرية التي أوصلت «قسد» إلى الجلوس إلى الطاولة وتوقيع هذا الاتفاق مع الدولة المركزية؟ وما دور السياقات الإقليمية والدولية في تحفيز هذا التوافق الصعب والتاريخي؟ وما أبرز التحديات أو المخاطر التي تقف أمام الطرفين في سياق عرقلة الاتفاق وإفشاله؟

أولًا: دوافع الاتفاق وسياقاته المصاحبة

لم يكُن الاتفاق بين الحكومة السورية والقيادة الكردية في سوريا وليد لحظة بل رافقته سياقات عدة لا يمكن فصل أي منها عن غيره، كانت عوامل ضغط دفعت قيادة «قسد» إلى القبول بالانضواء والاندماج مع الدولة السورية، ومنها:

  1. تغليب لغة الحوار والتفاوض بين حكومة دمشق وقسد: كانت المفاوضات منذ أحداث الإطاحة بالأسد في ديسمبر 2024م هي الخيار الأول لمختلف الأطراف، وتضمنت في بداية انطلاقها رسائل إيجابية عامة من الطرفين، بخصوص اعتراف الأكراد بالحكومة السورية الجديدة، وضمان الحكومة السورية حقوق جميع السوريين، ومن بينهم الأكراد، في المشاركة في العملية السياسية ومؤسسات الدولة كافة. إلا أن تفاصيل التفاوض بقيت هي المجال الأكبر لبروز التباينات والخلافات بين حكومة دمشق وقسد، خصوصًا ما يتعلق بمسألة إدماج «قسد» ضمن قوات وزارة الدفاع السورية، فبينما اعتبرت حكومة دمشق مسألة حل القوات الكردية ضرورة لإدماجها في الهيكل العسكري للدولة السورية، اشترط عبدي آنذاك الاحتفاظ بقواته كهيكل خاص داخل وزارة الدفاع السورية، الأمر الذي يتطلب نمطًا من الحكم اللا مركزي في سوريا الجديدة يحافظ على قدر من الإدارة الذاتية داخل الشمال الشرقي لسوريا، وهو ما قُوبِل برفض تامّ من حكومة دمشق في ذلك الوقت. وبعد قرابة شهرين من المفاوضات بين الجانبين، أعلنت الرئاسة السورية أخيرًا توقيع هذا الاتفاق واندماج «قسد» ضمن مؤسسات الدولة بما في ذلك المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز، مع وقف إطلاق النار فوق الأراضي السورية كافة.
  2. تفاهم تركي-كردي سابق للاتفاق: جاء توقيع الاتفاق بعد نحو أسبوعين من الرسالة التي أطلقها الزعيم الكردي عبد الله أوجلان من سجنه في تركيا، والتي شكلت دافعًا رئيسيًّا لكثير من الأكراد إلى إعادة النظر في استراتيجياتهم، وهيأت لهم مناخات سياسية للدخول في حوار مع السلطات في دمشق. ورغم أن مظلوم عبدي كان قد سارع بعد بيان أوجلان مباشرة بالقول إن دعوته موجهة إلى أعضاء حزبه في تركيا فقط ولا شأن لـ«قسد» بها، فمن المؤكد أن هذا المتغير التاريخي أثّر معنويًّا وماديًّا في «قسد» وأحبط كثيرًا من تطلعاتها الانفصالية.
  3. استيعاب «قسد» متغيرات المنطقة: جاء الاتفاق في سياق المتغيرات العديدة التي شهدتها المنطقة منذ أكتوبر 2023م من الضربات التي وُجّهت إلى إيران وحلفائها وما يُسَمَّى «محور المقاومة» في المنطقة وسقوط نظام الأسد في سوريا، بجانب القبول بأحمد الشرع رئيسًا للمرحلة الانتقالية، سواء على المستوى العربي أو الإقليمي والدولي، وما رافقه من رغبة جامعة لجميع الأطراف السابقة في رفض العمل المسلح واستتباب الأمر في الدولة السورية بعد 14 عامًا من الصراع على أراضيها. علاوة على ذلك، لا يزال مستقبل الوجود العسكري للولايات المتحدة في سوريا غير واضح في عهد الرئيس دونالد ترامب، والخشية الكردية من رغبة أمريكية في نهاية المطاف بسحب قواتها الموجودة على الأراضي السورية. مجمل ما سبق يجافي مصالح «قسد»، وهو ما أضعف موقف الحركة بشدة في المفاوضات مع سلطة دمشق الجديدة، وفرض عليهم إظهار مرونة أكبر بخصوص بعض مطالبهم السابقة، وهو ما عكسته البنود الثمانية المعلنة للاتفاق، والتي تشي -رغم عموميتها وعدم وضوحها- بقبول «قسد» بالانضواء بالكامل تحت السلطة السياسية والعسكرية الجديدة في دمشق.

ثانياَ: تداعيات الاتفاق على أطرافه الداخلية والإقليمية

يحمل الاتفاق عددًا من التداعيات والتأثيرات المحتملة، سواء على الحكومة السورية ومصالحها في إبرام اتفاق مع القيادة الكردية في سوريا، وعلى مستوى القيادة الكردية ومصالحها المنظورة في التوافق مع الحكومة السورية في هذا الاتفاق، وكذلك له تأثيرات أخرى في الواقع الإقليمي.

ومن هذه التأثيرات:

  1. التداعيات المحتملة على الحكومة السورية

يوفّر الاتفاق مع «قسد» في هذه اللحظة الحرجة من عمر الانتقال السوري فرصة لحكومة دمشق في تعزيز أركان الدولة الجديدة واستعادة مكانتها، إذ تمتلك «قسد» قوة وخصوصية لا تمتلكها غيرها من الفصائل المسلحة المنتشرة في سوريا، بسيطرتها الجغرافية على ما يقارب 30% من الأراضي السورية، توّزعت على نطاق محافظة الحسكة في الشمال الشرقي، والرقة، علاوة على أجزاء من دير الزور وريف حلب الشمالي الشرقي، وهي مناطق ذات ثقل اقتصادي أيضًا بحكم احتضانها حقول النفط والغاز الرئيسية، علاوة على إسهاماتها في القطاع الزراعي، ومن ثم من شأن الاتفاق فتح الباب أمام تعزيز فرص دعم جهود السلطات الحالية للبناء الاقتصادي للدولة السورية.

كذلك يوفر الاتفاق فرصة لحكومة الشرع لمعالجة أكبر معضلة أمام توحيد الجغرافيا السورية والتوفيق بين كل مكوناتها العرقية والطائفية، وتقليل التحديات الأمنية التي تواجهها حكومة دمشق في مناطق الشمال السوري، ليتسنى لها التفرغ للتعامل مع باقي التحديات الأمنية المركبة وبؤر التوتر المحتملة الأخرى في مناطق الساحل السوري والسويداء والقنيطرة ودرعا جنوبًا، فضلًا عن التوغل الإسرائيلي المستمر في الجنوب السوري.

كذلك يمثل الاتفاق بابًا لتخفيف حدة الانتقادات الدولية لقوات السلطة الجديدة بارتكاب جرائم جماعية بحق مدنيين في أثناء محاولتها السيطرة على الأحداث الأمنية التي جرت في الساحل السوري، في وقت تعددت فيه الأنباء حول دعوات لمجلس الأمن لعقد جلسة علنية بشأن تطورات الساحل السوري. بالتالي يمثل اتفاق حكومة دمشق مع قسد في هذا التوقيت الحرج فرصة لاستعادة التوازن لصورة الإدارة السورية الجديدة، وإظهارها بمظهر الحريص على السلم الأهلي، القادر على إدارة التنوع السوري سلميًّا.

  • التداعيات المحتملة على «قسد» في سوريا

يمثِّل اتفاق الحكومة السورية مع قائد «قسد» تَحوُّلًا نوعيًّا في العلاقة بين الطرفين، إذ يُعَدّ أول وثيقة رسمية تُوقَّع مباشَرةً بين دمشق والمكوّن الكردي، مما يكرّس وجود «قسد» طرفًا فاعلًا في المشهد السوري. ففي حين كان النظام السوري سابقًا يتعامل مع الإدارة الذاتية عبر قنوات أمنية وعسكرية، بلا أي اعتراف سياسي رسمي بها، فإن الاتفاق الحالي يمنحها شرعية سياسية، ويفتح الباب أمام دور أوسع لها في مستقبل سوريا. علاوة على ذلك، يُعتبر الاعتراف الرسمي بالمجتمع الكردي جزءًا أساسيًّا من الاتفاق، إذ يؤكّد حقوق الأكراد الثقافية واللغوية ضمن الدستور السوري الجديد. هذا المطلب ظلّ لسنوات طويلة في قلب المطالب الكردية، وبات اليوم على طاولة النقاش جزءًا من إعادة تشكيل سوريا ما بعد الحرب.

كذلكأحد أهم المكاسب التي أغرت «قسد» بالتوقيع على هذا الاتفاق هو تخفيف الضغوط والتحديات الإضافية التي تواجه «قسد» بعد انهيار نظام بشار الأسد، مع استمرار التهديدات التركية بالضربات الجوية على مواقع «قسد» في الشمال السوري، إذ من الممكن أن يدفع هذا الاتفاق وانضواء الأكراد تحت إطار الدولة السورية نحو سحب الحجة التركية لمزيد من الهجمات واستهداف المناطق الواقعة تحت سيطرة «قسد» مستقبلًا.

  • تأثيراته الإقليمية

على الصعيد الإقليمي، يشكِّل هذا الاتفاق عائقًا أمام محاولات بعض القوى الإقليمية، وفي مقدمتها إيران وإسرائيل، لزعزعة الاستقرار في سوريا وإبطاء عملية بناء الدولة الجديدة، فلطالما سعت كل من طهران وتل أبيب لاستغلال قضية «قسد» لتعزيز مخططات تقسيم وإضعاف الدولة السورية وجوارها الإقليمي، ولم تُخفِ رغبتها في الاستمرار في هذا الطريق منذ سقوط نظام بشار الأسد، إذ سعت إيران للتلويح بإثارة التوترات الطائفية والأمنية في مناطق «قسد»، كما كثّفت إسرائيل هجماتها على الأراضي السورية في مسعى واضح للتأثير في المشهد السياسي والعسكري بالدولة السورية.

أما تركيا فيمثل هذا الاتفاق بابًا لإضعاف «قسد» ونزعتها إلى الاستقلال وإلغاء أي احتمال للاعتراف الرسمي بإدارة كردية منفصلة شمال شرق سوريا، وتقليل التهديد الأمني الذي كانت تمثِّله على أنقرة، بخاصة بسبب ارتباط «قسد» بـ«حزب العمال الكردستاني»، وهو ما كانت أنقرة تسعى إليه منذ سنوات. على الجانب الآخر، للاتفاق دور أيضًا في تقليص الدور الإيراني في الملف الكردي، إذ كانت إيران تستخدم الملفّ الكردي مرارًا لمساومة تركيا، ولكن مع إنهاء الوضع الخاص بـ«قسد»، باتت طهران أقل قدرة على توظيف هذا الملفّ ضد أنقرة مستقبلًا.

ثالثًا: التحديات المحتمَلة أمام نجاح هذا الاتفاق

على الرغم من أن توقيع الاتفاق بين الحكومة السورية و«قسد» يمثِّل حدثًا مفصليًّا ومهمًّا في إعادة تشكيل التحالفات داخل سوريا وحولها، على المديين القصير والطويل، بجمعه أكبر قوتين في سوريا ضمن جسم واحد في حال أخذ طريقه إلى التطبيق، فلا شك في أنه سيواجه عديدًا من التحديات، من بينها أن الاتفاق بخطوطه العامة جيد، ويلبي طلبات الطرفين والحيلولة دون تقويضه مستقبلًا، ولكن لم تتكشف بعد التفاصيل الفنية الدقيقة للاتفاق المقرر أن يجري تنفيذه على مراحل خلال عام 2025م، بخاصة النقاط شديدة الإشكال كالآليات التي تندمج من خلالها «قسد» ومؤسساتها المدنية بالحكومة السورية، هل ككتلة واحدة أم بإعادة هيكلة أم بشكل هجين، بجانب توضيح مسؤولية أي طرف عن حماية سجون ومخيمات تنظيم الدولة في الشمال السوري، ومصير المقاتلين الأجانب المطلوبين لدى تركيا. ومن التحديات المحتملة أمام مسار الاتفاق مستقبلًا موقف بعض معارضي الاتفاق من المكونات الأخرى في مناطق سيطرة قسد، والمطالبة بجانب الكوادر الأجنبية لـ«حزب العمال الكردستاني»، وعلى رأسهم بعض القيادات القوى والكيانات والتشكيلات غير السورية ضمن «قسد» والموالية لـ«حزب العمال الكردستاني» وقيادته في جبل قنديل، أو تلك المرتبطة بدول أو كيانات أجنبية، واحتمال اتخاذ هذه القوى خُطُوات تخريبية بشكل مباشر أو غير مباشر، بخاصة أنّ الخطوط العامة لبعض بنود الاتفاق تتعارض بوضوح مع مشاريع وأهداف عدة قوى وكتل مؤثرة في الطرفين. كذلك لا يزال عديد من المتغيرات قائمًا وسيستمر في زعزعة استقرار سوريا، فإسرائيل تواصل قصف أجزاء من الدولة السورية، فيما تُتَّهم أيضًا بإثارة الاضطرابات بين الأقليات، بمن في ذلك الدروز والعلويون والأكراد، ولا يزال النفوذ الإيراني مصدر قلق ومهدِّدًا محتمَلًا سيحدد مدى صلابة الاتفاق أو هشاشته.

خاتمة

يمثِّل هذا الاتفاق الأخير بين الحكومة السورية و«قسد» خطوة هامة نحو تسوية داخلية وإنهاء حالة من الصراع دامت لعقود على الأراضي السورية، ويمنح الحكومة السورية شرعية سياسية جديدة ويعزز موقفها أمام المجتمع الدولي، ومن جهة أخرى يمنح «قسد» اعترافًا رسميًّا بمكانتها طرفًا سياسيًّا وعسكريًّا رئيسيًّا. إلا أن نجاح هذه المبادرة يتطلب تجاوز عديد من التحديات الميدانية والسياسية وتضارب الأجندات الإقليمية والدولية التي تتداخل في الأزمة السورية، ما بين تنافس تركي-إيراني، وتدخُّل إسرائيلي، وقد تلبِّد مستقبل هذا الاتفاق بالشكوك المعتبَرة.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير