نشبت خلافات كبيرة بين جماهير الشيعة العراقيين بسبب تحديد أول أيام عيد الفطر لهذا العام (2018م-1439ه). ففي حين أعلن المراجع الكبار، ومكاتب المرجعيات الكبرى في النجف، أنّ أول أيام العيد وأول شوال 1439ه هو يوم الجمعة الموافق 15 يونيو 2018م، أعلن السيستاني (المرجع الأعلى) أنّ أول أيام العيد هو السبت الموافق 16 يونيو، بسبب عدم ثبوت رؤية الهلال عنده.
مرتكزات السيستاني في عدم التماشي مع باقي المراجع
اعتمد رأي السيستاني على مبانٍ فقهية واجتهادية خاصة به:
1- عدم وحدة الأفق: بمعنى أنّ الهلال لو تمّ استطلاعه في أمريكا أو أستراليا أو أي مكان في الكرة الأرضية يختلف مع العراق في شروق الشمس وغروبها، فلا يُعتدّ بهذه الرؤية، لأنّ السيستاني يؤمن بعدم وحدة الأفق، وكلّ من قرر أن العيد هو يوم الجمعة بنوا رأيهم -في نظر مكتب السيستاني- على القول بوحدة الأفق.
2- الرؤية بالعين المجردة: فلا يجوّز السيستاني أن يُرى الهلال بغير العين المجردة، أو بما يُسمّيه فقهاء السنّة والشيعة بالعين المسلحة، أي بالأجهزة الحديثة والتلسكوبات ونحو ذلك. وفي رأي مكتب السيستاني أنّ من قالوا بأن الجمعة أول شوال اعتمدوا في رؤية الهلال على تلك الأجهزة/ العين المسلحة.
3- تقديم النفي على الإثبات: حتى ولو ثبت الهلال عند الفقهاء الشيعة بالعين المجردة، وقام البعض بنفي رؤيته، فإنّ السيستاني يُقدّم النفي على الإثبات في هذه الحالة، لكن بشرط أن يكون المُثبت من المراجع الآخرين والنافي من مكتبه، أمّا إذا ثبت لدى مكتبه فإنّه يُعمل الإثبات حتى ولو كان ثمة نفي عند الآخرين!
منع الصلاة في ساحة الحُسين
وبناءً على أنّ الهلال لم يثبت عند السيد السيستاني ولم يكن الجمعة أول شوال عنده، فإنّ وكيله عبد المهدي الكربلائي منع صلاة العيد في ساحة مسجد الحسين في كربلاء، وكذلك منعت المرجعية العليا صلاة العيد في العتبة العلوية في النجف الأشرف.
ورغم أنّ العتبات المقدسة تخضع للوقف الشيعي لكن الواقع أنّه لا يمكن إبرام أمر خاص بالعتبات المقدسة في النجف وكربلاء وسامراء إلا بموافقة المرجعية العليا. وعلى رأس الإدارة الوقفية تخضع شخصية حوزوية تُزكّى من قِبل مكاتب المرجعيات، لا سيّما المرجعية العليا (السيستاني).
لا يمكن هنا بأيّ حالٍ من الأحوال تجاهل التوازنات القائمة بين المراجع الكبار، فرئيس ديوان الوقف الشيعي رشّحه المرجع محمد سعيد الحكيم، أي أنّ إدارة العتبات في كربلاء والنجف وسامراء وإن كانت تتبع المباني الفقهية للمرجعية العليا/السيستاني، فإنّ هناك توازنات مهمّة مع المراجع المؤثرين الآخرين.
أمّا بالنسبة إلى الوضع القانوني للعتبات فيظلّ ملتبسًا، فهي قانونيًّا تتبع الوقف الشيعي، لكنها فعليًّا شبه مستقلّة وتتبع المرجعية العليا، بحواضنها الشعبية الضخمة.
وظهرت قوة السيستاني التقليدية في التزام أكثر من 80% من الشعب العراقي بقراره كون العيد يوم السبت وليس يوم الجمعة، مما يحمل دلالات مهمة للنظام الإيراني.
موقف الحكومة العراقية
الحكومة العراقية غالبًا ليس لها موقف محدد، بل تحاول إرضاء السنّة والشيعة، وتقوم بزيادة أيام الإجازة الرسمية ترضية للجميع، بيد أنّ الميل الرسمي كتحديد مواعيد الاحتفالات ونحو ذلك يتبع المرجعية العليا.
نعم، هناك مفتي العراق الشيخ مهدي الصميدعي له صفة مفتي العراق، إلا أنه يفتي لأهل السنّة فقط ممن يتبعه، وبعض أهل السنّة يتبع ديوان الوقف السنّي، وآخرون يتبعون هيئة علماء المسلمين، وآخرون يتبعون السعودية، وهكذا. فالحالة السنّية متشظية، والحالة الشيعية لا تخلو من تشظٍّ قلق أيضًا. والأكراد لهم أيضًا وقف خاص بهم يتبع الحكومة في أربيل.
الموقف الإيراني
يحاول النظام الإيراني إيجاد موضع قدم للمرشد الأعلى وسط جماهير التقليد العراقية، وفي الحالة العراقية تختلف استراتيجيته عن الحالة الإيرانية، ففي الحالة الإيرانية استخدم الترغيب والترهيب، وسيف السلطة أحيانًا، لكنّه في الحالة العراقية استخدم طريقة التسقيط والتشويه عبر أدواته ورجاله.
فنجد الباحث أحمد الكاتب (التابع لإيران في السنوات الأخيرة) يهاجم السيستاني هجومًا شرسًا، ويقول: “السيستاني يحتاط في أمر الهلال ولا يحتاط في أمر الاحتلال”.
ويخرج المفكر الشيعي حيدر حب الله الذي يعيش في قم، ليدعو السيستاني إلى إعادة النظر في اجتهاده بخصوص رؤية الهلال وقوله بعدم وحدة الأفق.
والمتابع للسوشيال ميديا العراقية يجد هجومًا شرسًا على السيستاني من جماهير مقلدي المرشد الإيراني علي خامنئي، واصفين السيستاني بالمرجعية “الصامتة، المهادنة، الرجعية”… ويأتي هذا التسقيط المتعمد في سياق استجابة أكثر من 80% من العراقيين للسيستاني في صلاة العيد. فكان هناك عملية تسقيط ممنهجة ضد السيستاني، بوصفه غير مساير للعصر وتطوراته، وكونه سببًا في انقسام الشارع الشيعي، ويأتي هذا الهجوم في طور اعتقاد النظام الإيراني أنه الممثل الشرعي والوحيد لمسائل الطائفة الشيعية في العالم، واعتقاد المرشد الأعلى أنه ولي لجموع المسلمين وليس للإيرانيين فقط.
هناك تململ من نوع آخر من داخل النجف نفسها، إذ ترى مجموعات أخرى من المقلدين أن السيستاني يستأثر بالرأي الشيعي كله ولا يحترم المرجعيات الأخرى، كونه يحتكر إدارة العتبات المقدسة، في حين أن من حق بقية المراجع ومقلديهم ممارسة شعائرهم وفق اجتهاداتهم ومبانيهم الفقهية، ومعظم هذه المكاتب تابعة لإيران مثل مكتب الحيدري والمدرسي وغيرهما، وبعضها ينحو هذا المنحى بسبب المنافسة الحوزوية الطبيعية بين المراجع.
مستقبل الخلاف الشيعي-الشيعي
نرى أنّ النجف ستظل متماسكة طيلة وجود السيد السيستاني وتنسيقه التام والمتكامل مع مرجعية سعيد الحكيم القوية هي الأخرى، لكن قد تشهد الساحة الشيعية صراعًا محمومًا بُعَيد وفاة السيستاني بوصفه شخصية مركزية ومحورية عليها شبه إجماع شيعي وعراقي، بخلاف غيره، سواء كان هذا الغير مرجعية عراقية أو إيرانية.
وهذه الخلافات بين السيستاني وغيره من مراجع لا يُعوّل عليها في أي تغييرات في الساحة العراقية والمشهد الديني الشيعي الراهن، لأن السيستاني هو المرجعية العليا المنفردة بالقرار الديني في العراق، ولا يوجد منافس حقيقي له ولزخمه الجماهيري، علاوة على تنسيقه مع المرجعية الثانية الكبرى، وهي مرجعية سعيد الحكيم، مما شكّل تكتلًا مُهِمًّا وتحالفًا كبيرًا في مواجهة المرجعيات الإيرانية والنظام الإيراني المنبوذ من قِبل المرجعية النجفية، بوصفه نظامًا سلطويًّا يهدف إلى إلغاء استقلالية الحوزة النجفية على غرار ما فعله في قم ما بعد الخميني.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد