استئناف الغارات الإسرائيلية على لبنان.. الأهداف والدوافع والمآلات في ظل نظام إقليمي «ممزق»

https://rasanah-iiis.org/?p=38344

في خريف عام 2025م، شهدت المنطقة تصعيدًا جديدًا بانهيار الهدوء الهشّ بين إسرائيل و«حزب الله»، ذلك الهدوء الذي أُرسيَت دعائمه أواخر عام 2024م بعد حرب مُدمِّرة شهدها العام نفسه، فقد استأنفت إسرائيل غاراتها الجوية المكثّفة على أهداف تابعة لـ«حزب الله» في مختلف أنحاء لبنان، الأمر الذي أعاد شبح اندلاع مواجهة إقليمية واسعة النطاق، في خضمّ إدانات دولية متزايدة وتفاقم الأزمة اللبنانية متعددة الأوجه.

وجاءت الموجة الأخيرة من الضربات، التي استهدفت البنى العسكرية للحزب وشبكاته المالية ومواقعه الميدانية، حيث أدانتها بيروت والأمم المتحدة بوصفها خرقًا ممنهجًا للهدنة ومحاولة لإعادة فرض الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة. بين الثالث عشر والتاسع عشر من أكتوبر 2025م، نفّذ الجيش الإسرائيلي سلسلة من العمليات المنسقة في اثنتين وعشرين منطقة لبنانية، حافظت على مستوى عالٍ من الكثافة القتالية مماثل لما شهدته الأسابيع السابقة، وتضمنت سبع غارات جوية وست هجمات بطائرات مسيّرة وعدة تحركات برية. أسفرت تلك العمليات عن ثلاثة قتلى، اثنان منهم من عناصر «حزب الله»، وأحد عشر جريحًا. وشهدت محافظات بعلبك-الهرمل والنبطية وجنوب لبنان الحوادث الأبرز، حيث استهدفت الغارات منشآت عسكرية ومناطق مدنية تحت ذريعة تدمير مخازن أسلحة ومواقع إعادة حفر أنفاق. وفي وقت لاحق من الشهر، نفّذ سلاح الجو الإسرائيلي ما لا يقلّ عن 18 غارة جوية جديدة يومَي 23 و24 أكتوبر على مواقع للحزب، مقارنة بخمس عشرة غارة في وقت سابق من الشهر نفسه، في إطار حملة أوسع لمنع الحزب من إعادة بناء قدراته.

البيانات الصادرة عن الجيش الإسرائيلي وصفت تلك الضربات بأنها «إجراءات وقائية» لمواجهة ما زُعم أنها إعادة بناء لـ«بنية تحتية إرهابية» من قِبل «حزب الله». وفي 16 أكتوبر 2025م أسفرت إحدى الغارات عن مقتل ضابط في الجمارك اللبنانية، كما برّرت إسرائيل هجماتها على مواقع إنشائية قرب صيدا بأنها تستهدف ما وصفته بـ«منظومة إعادة الإعمار» التابعة للحزب، بما في ذلك جمعية «أخضر بلا حدود» التي تتهمها تل أبيب بالعمل تحت غطاء بيئي لإخفاء نشاطات عسكرية.

ولا يمكن فهم هذا التصعيد إلا على خلفية حرب عام 2024م بين إسرائيل و«حزب الله»، تلك الحرب التي بدأت باشتباكات حدودية وتصاعدت إلى غزو إسرائيلي واسع لجنوب لبنان، عقب هجمات تضامنية شنها الحزب مع حركة «حماس» إبان حرب غزة. وتسببت تلك الحرب في نزوح أكثر من مليون لبناني، مخلفةً خسائر بشرية جسيمة بين المدنيين والعسكريين. أما اتفاق وقف إطلاق النار الذي أُبرم برعاية واشنطن في نوفمبر 2024م، فقد نصّ على انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة، ونزع سلاح «حزب الله»، وانتشار الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني.

بيدَ أن هذه الالتزامات لم تُنفَّذ بالكامل بحلول أكتوبر 2025م، فقد أبقت إسرائيل سيطرتها على عدد من التلال الإستراتيجية، بحجة أن الحزب لم يُكمل عملية نزع سلاحه وأن «التهديدات ما زالت قائمة». واستمرت المناوشات المتقطعة طوال الصيف، التي تُوِّجَت بعمليات إسرائيلية مكثفة في أكتوبر. وتتمثل الأهداف المعلنة لتل أبيب في حماية أمنها القومي وتحجيم التهديدات المباشرة من «حزب الله». وتقول مصادر عسكرية إسرائيلية إنّ «الغارات على بعلبك والنبطية جاءت بناءً على معلومات استخباراتية عن قيام الحزب بإعادة بناء أنفاقه، ومراكزه القيادية، ومستودعات صواريخه»، وهو ما يمثل تطبيقًا جديدًا لعقيدة «الضربات الاستباقية» التي لطالما شكّلت محور الإستراتيجية الإسرائيلية.

لكنْ خَلْفَ هذه التبريرات تختبئ دوافع أعمق، إذ تعكس الحملة الإسرائيلية محاولة لاستثمار هشاشة الداخل اللبناني لتقويض القدرات العسكرية والسياسية للحزب بشكل دائم. ومن خلال استهداف المؤسسات المالية ومراكز الدعم اللوجستي التابعة له، تسعى إسرائيل إلى إضعاف شبكاته الاجتماعية والخدمية التي طالما شكّلت مصدرًا لشرعيته بين أبناء الطائفة الشيعية. ويُعيد هذا النهج إلى الأذهان التدخلات الإسرائيلية السابقة في لبنان، لا سيما غزو عام 1982م، وحرب عام 2006م، اللتين بدأتا تحت عنوان «الدفاع الوقائي» وانتهتا إلى مشاريع أوسع للسيطرة الميدانية والبنى التحتية. وتُشير صور الأقمار الصناعية وتقارير منظمات حقوقية، منها منظمة العفو الدولية، إلى أضرار جسيمة لحقت بقرى جنوبية مثل عيتا الشعب وكفركلا، في ما يبدو أنها إستراتيجية فعلية لإفراغ الحدود من سكانها وتحويلها إلى منطقة عسكرية خالية، كما أثارت مواصلة إسرائيل احتلال مناطق متنازع عليها قرب الخط الأزرق مخاوف بشأن نياتها لتغيير الوضع القائم ميدانيًّا، في مخالفة لقرارات مجلس الأمن الدولي.

وقد أدانت الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة الغارات الإسرائيلية بوصفها «خرقًا صارخًا للهدنة». وفي مارس 2025م، حذّر رئيس الوزراء نواف سلام من أنَّ تجدُّد الأعمال العدائية قد «يجرّ البلاد إلى حرب مدمّرة جديدة»، مؤكدًا الأثر الكارثي الذي تخلفه في اقتصاد غارق أصلًا في الإفلاس. ووفقًا لقيادة الجيش اللبناني، سجلت إسرائيل أكثر من 4500 خرق لاتفاق وقف إطلاق النار منذ توقيعه في نوفمبر 2024م حتى سبتمبر 2025م.

وأثار ضعف قدرات الجيش اللبناني في مواجهة «حزب الله» خيبة أمل لدى الشركاء الدوليين، مما دفع الموفد الأمريكي توم براك إلى دعوة السلطات اللبنانية إلى المضي قدمًا في مسار نزع السلاح، محذرًا (في أكتوبر 2025م) من «مواجهة كبرى» إن استمر الحزب في التسلّح. كما أعربت نائبة المبعوث الأمريكي مورغان أورتاغوس، خلال زيارتها إلى بيروت في 28 أكتوبر 2025م، عن دعمها لفتح مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة بين لبنان وإسرائيل لحل قضية سلاح «حزب الله» سلميًّا لا عسكريًّا.

وعلى الصعيد الجيوسياسي، تتقاطع العمليات الإسرائيلية مع الإستراتيجية الأمريكية الهادفة إلى احتواء النفوذ الإيراني في المنطقة، لكن الكلفة الإنسانية كانت فادحة. فوفقًا لبيانات الأمم المتحدة، تُشير العمليات الإسرائيلية منذ أواخر 2024م إلى مقتل عشرات المدنيين وإلحاق أضرار جسيمة بالبنى التحتية، بما في ذلك المستشفيات وشبكات الكهرباء والمناطق الزراعية، كما أثارت الغارات على قرى لا تضم أهدافًا عسكرية تأكيد اتهام إسرائيل بممارسة «العقاب الجماعي». وفي الداخل اللبناني، عززت هذه الهجمات سردية «حزب الله» بوصفه «حركة مقاومة»، الأمر الذي عمّق الانقسام الطائفي وأضعف سلطة الدولة المركزية.

إقليميًّا، لا يزال خطر التصعيد قائمًا، إذ قد يستفز استمرار العمليات الإسرائيلية ردودًا انتقامية من «حزب الله» أو من ميليشيات حليفة في اليمن والعراق، مما يهدد بفتح مواجهة أوسع قد تشمل إيران. وهكذا، فإنَّ استئناف إسرائيل قصف لبنان في أكتوبر 2025م، تحت شعار حماية حدودها الشمالية، يجسّد تلاقيًا بين اعتبارات الأمن القومي، والطموحات الإستراتيجية، والحسابات السياسية الداخلية. ورغم أن العمليات تستند إلى ذريعة منع الحزب من إعادة التسلح، فإنها في جوهرها تعكس سعيًا أوسع نحو ترسيخ الهيمنة الإقليمية وتكريس «الردع عبر العقاب».

خلاصة هذه التطورات هي سياسة تُرسِّخ عدم الاستقرار، وتُقوّض جهود الوساطة الدولية، وتُعمِّق الانهيار الإنساني في لبنان. ولن يتحقق حلّ مستدام إلا بـ«التزام» صارم لاتفاقات وقف النار، ورقابة دولية فعّالة، وإعادة تمكين الدولة اللبنانية لاستعادة سيادتها جنوب الليطاني. وإلا فإنَّ حلقة التصعيد ستستمر، مُهدِدّةً بإشعال مواجهة جديدة لا تقتصر على لبنان وإسرائيل، بل قد تمتدّ لتطال الشرق الأوسط بأسره في دوامة جديدة من الحروب بالوكالة والعنف المتبادل.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير