مع استمرار تأجُّج الاحتجاجات في جميع أنحاء إيران، يبدو أن المؤسسة الأمنية والاستخباراتية الإيرانية عازمة على مهاجمة الجهات الخارجية، وتوجيه أصابع الاتهام لها، وآخرها المملكة العربية السعودية. وهدَّد وزير الاستخبارات الإيراني إسماعيل الخطيب -في مقابلة نُشِرت على موقع المرشد علي خامنئي- الرياض، وألقى باللوم عليها في إثارة الاضطرابات في البلاد. وقال الخطيب إن «صبر إيران الإستراتيجي» بدأ ينفد، وزعم أن السعودية تموِّل وتدعم القنوات الإعلامية المعادية لإيران. وألقى باللائمة على قناة «إيران إنترناشونال» -وهي قناة إخبارية فارسية مقرّها لندن- في إثارة الاحتجاجات في جميع أنحاء إيران. وفي الشهر الماضي، حذَّر رئيس الحرس الثوري حسين سلامي السعودية من السيطرة على وسائل الإعلام، التي يزعم أنها تخضع لنفوذها. وبحسب ما أفادت به وسائل إعلام رسمية إيرانية، قال سلامي: «إنني أحذِّر العائلة الحاكمة السعودية …، انتبهوا لتصرفاتهم، وسيطروا على وسائل الإعلام هذه …، وإلا ستدفعون الثمن. هذا هو تحذيرنا الأخير؛ لأنكم تتدخَّلون في شؤون دولتنا من وسائل الإعلام هذه. قُلنا لكم احترسوا». وبالنظر إلى هذه التهديدات، والتي ليست بالجديدة، فإنه من المهم البحث في الدوافع والرسائل والدلائل، التي تنبع منها بالنظر إلى توقيتها.
أولًا: لدى إيران تاريخ في خلق روايات كاذبة ونظريات مؤامرة، عندما تواجه مشاكل داخلية. ولطالما ألقت إيران باللوم على الولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة العربية السعودية في الماضي، في حال واجهت احتجاجات، مثل احتجاجات «الحركة الخضراء» في 2009م. وترغب إيران بصرف انتباه الرأي العام الإيراني عن إخفاقات الحكومة، وتحويل التركيز إلى الأعداء الخارجيين، كما هو الحال الآن في الاحتجاجات المحتدمة، التي لا يزال يواجها النظام الإيراني، مع دخولها أسبوعها العاشر. لكن هذه المرة خلافًا للمرات السابقة، فإن الشعب الإيراني أصبح أكثر وعيًا بألاعيب حكومته، ومن غير المرجَّح أن يقع في هذا الفخ ويوجِّه أصابع الاتهام إلى السعودية. ثانيًا: لطالما دعا الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى التقارب مع الدول المجاورة لإيران، وزار كلًا من قطر وعمان. بالإضافة إلى ذلك، أعادت الإمارات والكويت سفيريهما إلى طهران، وزار كبار المسؤولين الإماراتيين طهران. من المهم أيضًا تذكُّر جولات المحادثات العديدة، التي أُجريت بين السعودية وإيران في بغداد. تتناقض هذه التحركات الإيرانية على ما يبدو مع التهديدات التي وُجِّهت إلى السعودية؛ لأنه من الواضح أن لدى المؤسسة الاستخباراتية والأمنية الإيرانية منظورًا مختلفًا للعلاقات الإيرانية-الخليجية عن الحكومة الإيرانية. وتسعى المؤسسة الاستخبارية الإيرانية؛ بسبب الدور القوي الذي تلعبه في تشكيل السياسة الخارجية الإيرانية، لأن تُخضِع الحكومة لتوجيهاتها، وإلى تبِّني نهج التصعيد والتصادم مع السعودية، ما دامت القيادة مستمرة في مواجهة التحديات الداخلية، التي تهدِّد وجودها. ثالثًا: جاءت التهديدات الإيرانية في سياق المحادثات النووية المتوقفة في فيينا، والانتخابات النصفية الأمريكية الأخيرة. ومع توقُّع المحللين الأمريكيين فوزًا ساحقًا للجمهوريين في الانتخابات، فقد دبّ الذعر في طهران؛ لأن أيّ تحرُّك في المسار النووي سوف يعرقله الجمهوريون، الذين انتقدوا التهدئة، التي تنتهجها إدارة بايدن مع الحكومة الإيرانية. ونتيجةً لذلك، دفع هذا الذعر والخوف القيادة الإيرانية إلى استخدام تكتيكها المعتاد، وهو تهديد السعودية للضغط على الجمهوريين؛ من أجل إخضاعهم لنهج بايدن النووي الدبلوماسي، بدلًا من إجبار إدارة بايدن على تبنِّي نهج الضغوط القصوى، كما رأينا في عهد إدارة ترامب. مع عدم تحقيق الحزب الجمهوري فوزًا ساحقًا، كما كان متوقعًا في الانتخابات النصفية الأمريكية، فإن المسؤولين الإيرانيين سوف يكونون سعداء بفوز الجمهوريون بأغلبية طفيفة في مجلس النواب واحتفاظ الديمقراطيون بالأغلبية في مجلس الشيوخ. ربما نشهد تغييرًا طفيفًا في السلوك الإيراني تجاه السعودية، بدلًا من أن تركِّز الحكومة الإيرانية اهتمامها على نسج روايةٍ زائفة أخرى، أو نظرية مؤامرة جديدة. رابعًا: منذ اندلاع الاحتجاجات في إيران بعد مقتل مهسا أميني، دبّ الخوف بين أوساط النُّخبة الإيرانية الحاكمة، خوفًا على مصيرهم. لقد أدركت النُّخبة الحاكمة أن استخدام العنف لم يعُد مجديًا، بعد أن حطَّم الإيرانيون حاجز الخوف. ونتيجةً لذلك، هاجمت النُّخبة الحاكمة الجميع، بما في ذلك جماعات المعارضة الإيرانية الكردية في شمال العراق، وأيضًا هاجمت القنوات الإعلامية الفارسية الأجنبية، والولايات المتحدة، وإسرائيل. إلا أن تحريف الحكومة الإيرانية للحقيقة، واللجوء إلى سياسة «كبش الفداء»، فشلت تمامًا في التأثير على الرأي العام الإيراني؛ إذ لا يزال الشعب الإيراني عازمًا على الاستمرار في احتجاجاتهم للمطالبة بالعدالة لمقتل أميني، ويبقى الهدف الأمثل بتغيير النظام بعيد المنال إلى حدٍ ما؛ نظرًا لقلة الدعم الخارجي وغياب القيادة السياسية للمحتجين. في الختام، تحتاج النُّخبة الحاكمة الإيرانية إلى محاسبة نفسها، وأن سياساتها وأجهزتها ومؤسساتها وسلوكها، هي المسؤولة عن موجة الاحتجاجات الأخيرة. وسياسية إلقاء اللوم على الآخرين وتشتيت الانتباه، ليست العصا السحرية لإخماد الاحتجاجات، فلن ينسى الشعب الإيراني حجم الظلم الذي يعيشونه يوميًا بهذه الطريقة. وتُفاقِم الحكومة من عزلتها بترويجها للروايات الكاذبة، وانتقاد الآخرين، وإثارة المزيد من الغضب العام، إذ أصبح الشعب الإيراني يدرك جيدًا من هو المسؤول عن أزماته ومخاوفه؛ المسؤول ليس طرفًا خارجيًا، بل هو الحكومة الإيرانية والنُّخبة السياسية والدينية، التي أهدرت موارد البلاد على مشاريع إقليمية فاشلة على حساب التنمية الاجتماعية والاقتصادية المحلية. لكن بالنظر إلى عقلية الحكومة الإيرانية، لن نشهد هذا النقد الذاتي، حتى إن كانت تعيش مراحلها الأخيرة، تماشيًا مع التعبير القائل إن «الطبع غلّاب».