في تطور أمني لافت في مسار الضربات الإسرائيلية ضد أهداف إيران في سوريا، استهدفت إسرائيل، يوم الاثنين الأول من أبريل 2024م، مبنى القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق، وقُتل إثر هذا الهجوم عدد كبير من أهم القيادات الإيرانية.. ومن هنا تكثر التساؤلات حول طبيعة الاستهداف وتداعياته، ومسارات الرد الإيراني.
أولاً: طبيعة الضربة الإسرائيلية واستهدافاتها
طالت الضربة الإسرائيلية منشأة إيرانية في دمشق وتناقضت الأقوال بشأن هُوية هذا المبنى؛ فبينما اُعتبر في الرواية الإسرائيلية أنها منشأة تابعة لـ«فيلق القدس»، تبنّت روايات أخرى ومنها إيران رواية كون المبنى قنصليةً إيرانية على الأراضي السورية، وبغض النظر عن أي الروايتين أصدق، فإن هذا لا يُخفي أن الموقع يحمل أهمية كبيرة لكل من إيران وإسرائيل، لاعتبارات تتعلق بقيمة من كان موجودًا في المبنى أثناء العملية، ولطبيعة موقعه القريب من السفارة الإيرانية وعددٍ من السفارات الغربية، ولاعتبارات ما حملته اللقطات التي تمّ تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي والتي أظهرت وزير الخارجية السوري فيصل مقداد موجودًا في موقع العملية وتسريبات اتصاله بنظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان من مقر السفارة الإيرانية في دمشق، ما يشي بأن المكان ذو أهمية كبيرة لإيران.
وبغض النظر عن إشكاليات الموقع، فإنّ الأهم هو النظر إلى العملية لجهة تأثيرها على مستوى تنظيم «فيلق القدس» وفاعليته، حيث يمكن القول إنّ غرفة عمليات الفيلق في سوريا ولبنان وفلسطين قد تمت تصفيتها، وذلك بحسب إعلان الحرس الثوري الإيراني بأن العملية استهدفت واحداً من أهم قادة «فيلق القدس» في سوريا ولبنان، وهو محمد رضا زاهدي ، والمعروف ب(حسن مهدوي، أو رضا مهدوي)، وانضم زاهدي إلى الحرس الثوري عام 1980م، وتنقَّل بين مناصب عدة في «الحرس الثوري»، إذ قاد لواء «قمر بني هاشم 44» خلال الفترة «1983–1986م»، وكان قائد القوات الجوية في «الحرس الثوري»، وقائد القوات البرية، وقائد قوات «ثأر الله» المسؤولة عن الأمن في طهران، وترأَّس لاحقًا قيادة فيلق القدس في سوريا ولبنان، خصوصًا في ما يتعلق بالمساعدة العسكرية التي يقدمها «فيلق القدس» لـ«حزب الله» في لبنان، وفي الحفاظ على علاقة وثيقة بين إيران والحزب، وهو ما يعطي تصورًا واضحًا عن مدى أهمية «زاهدي» بالنسبة لإيران وإسرائيل، وما تمثله عملية مقتله من خسارة طهران، باعتباره أحد أهم رجالاتها في المنطقة، ولشخص ظلَّ في الميدان لفترة طويلة، ويتمتع بعلاقات قوية مع المليشيات الإيرانية في المنطقة.
بصرف النظر عن وفاة محمد رضا زاهدي، فقد تناولت الأخبار حضور أسماء عدة كانت موجودة في القنصلية الإيرانية في أثناء هذا الاستهداف، من بينها سعيد آزادي، رئيس الفرقة الفلسطينية لفيلق القدس في بيروت، وعبد الرضا شهلائي، رئيس عمليات الحرس الثوري في اليمن، وعبد الرضا مسجاريان، رئيس مكتب رمضان الذي يشرف على المليشيات في العراق)، لكن أحد أهم الأسماء في هذه الضربة التي شنتها إسرائيل على مبنى القنصلية الإيرانية هو محمد هادي حاجي رحيمي، الذي شغل مؤخرًا منصب نائب منسق «فيلق القدس» قبل أن يُعیَّن نائبًا لزاهدي.. وهذا يعني أن رحيمي كان في وقت ما المسؤول الكبير الثالث في فيلق القدس، لذا، وبجانب ما يمثله مقتل زاهدي، فإن مقتل رحيمي هو بمثابة ضربة كبيرة أخرى لفيلق القدس.
ثانيًا: حرب غزة وتغيير التكتيك الإسرائيلي
تُعتبر العملية الإسرائيلية واستهداف القنصلية الإيرانية في دمشق ومقتل زاهدي مسارًا مُكمّلًا لحملة إسرائيلية ضد إيران في سوريا تصاعدت منذ هجوم السابع من أكتوبر 2023م باستهداف حركة حماس إسرائيل في قطاع غزة. والحال أن الحكومة الإسرائيلية نفذت ما بين عام 2013م وأكتوبر 2023م بضع مئات من الضربات كانت تستهدف آنذاك شحنات الأسلحة والفصائل العسكرية التابعة لإيران في سوريا، ضمن ما يُعرف بسياسة »جَزّ العُشب«، لشلّ قدرات إيران في سوريا ولبنان. وقد تعايشت إيران طويلًا مع هذا النهج الإسرائيلي لإبقاء المخاطر في حالة منخفضة، ولكن الحال تبدّل بعد 7 أكتوبر 2023م، إذ تخلّت إسرائيل عن «قواعد اللعبة» القائمة على التكتُّم على ضرباتها في سوريا سابقًا، وحصر عملياتها في المستوى الأول من قواعد الاشتباك بين الطرفين، وذلك عبر استهداف عمليات التسليح والفصائل العسكرية التابعة لطهران في سوريا، نحو ترقية لقواعد الاشتباك بينهما بتكبيد طهران خسائر فادحة في مناطق نفوذها، ويؤكد هذا التحول اتباع تل أبيب تكتيك الاغتيالات عبر ضربات دقيقة تستهدف من خلالها الأفراد والقادة الإيرانيين في سوريا، بجانب تصعيد كبير وتوسيع للنطاق الجغرافي للغارات الجوية على أهم مراكز النفوذ الإيراني منذ مطلع العام الجاري 2024م، إذ نفذت 30 غارة بعد الأول من يناير 2024م من أصل 55 غارة إسرائيلية شُنَّت في سوريا منذ أكتوبر 2023م.
وسبق وأن وقعت هجمات عدة على المصالح الإيرانية في سوريا لا تقل أهميةً عن الاستهداف الأخير ومقتل عدد كبير من أهم القادة الإيرانيين في سوريا، حيث اغتالت الحكومة الإسرائيلية في ديسمبر 2023م، رضي موسوي، أحد أقدم مستشاري الحرس الثوري في سوريا، وكذلك اغتالت في 2 فبراير 2024م مستشارًا بالحرس الثوري يُدعى سعيد علي دادي في غارة إسرائيلية بدمشق. وفي 26 مارس 2024م، قُتِلَ ضابط إيراني برتبة عقيد بهجوم إسرائيلي في دير الزور.
والآن، ومع رمزية مكان الاستهداف والشخصيات الإيرانية التي كانت موجودة فيه، يبدو أن تل أبيب رفعت سقف مواجهتها عبر إرسالها رسائل خشنة مؤثرة تتجاوز الشخص، أو الشخصيات، المعني بأوزانها العسكرية والسياسية إلى ساحة الحرب المفتوحة، وإسقاط أي خطوط حمراء سابقة جمعتها بإيران في سوريا. وبالتالي، فهي رسالة واضحة جدًّا إلى طهران من تل أبيب للنظر في أنشطتها بسوريا وتدفقات أسلحتها إلى فصائلها في المنطقة، وما يمثله من تهديد للأمن الإسرائيلي على وجه التحديد. وتشير أخبار عدة، تغيب القدرة على التحقق من صحتها، إلى كون الاستهداف جاء بتوقيت اجتماع ضم قادة من «الحرس الثوري» الإيراني ومسؤولين من حركة «الجهاد الإسلامي»، ويأتي بعد زيارة لقادة حركتي «حماس» و«الجهاد» إلى إيران نهاية مارس 2024م، ما يعكس رغبة إيرانية في تعزيز نفوذ طهران في الصراع القائم داخل قطاع غزة.
ثالثًا: تساؤلات إيرانية حول خلفية الاستهدافات المتتالية لقادتها في سوريا
أعاد الاستهداف الدقيق للمبنى الملاصق لسفارة إيران في دمشق، والقنص الثمين لأهم القادة العسكريين في منظومة «فيلق القدس» الإيراني في سوريا، إلى الأذهان ما جرى تداوله مؤخرًا عن آليات تسريب المعلومات الأمنية عن أماكن وجود القادة الإيرانيين في سوريا وطبيعة اجتماعاتهم، وتزايد الشكوك منذ مدّة في وجود خرق أمني داخل إيران أو في علاقات «الحرس الثوري» لإيران مع دمشق. وهي تكهنات سبق أن أُثيرت في إيران عدة مرات، إذ سبق أن حذر القائد السابق لهيئة الأركان المشتركة للحرس، حسين علائي، ومن ثم تكررت هذه التحذيرات على لسان قائد «الحرس الثوري» السابق، محسن رضائي، والرئيس الإيراني السابق، أحمدي نجاد، بجانب وزير الاستخبارات الإيراني السابق، علي يونسي، من خطر تغلغل الاستخبارات الإسرائيلية في إيران على مسؤولي النظام الإيراني، فضلًا عن أن دقة الأهداف ونوعيتها أثارت تحذيرات من وجود مصادر بشرية ميدانية داخل سوريا، لا يغيب فيها توجيه أصابع الاتهام نحو الحكومة السورية وأجهزتها الأمنية في تسريب معلومات دقيقة ومحددة عن أماكن وتحركات المستهدَفين الإيرانيين من إسرائيل، منذ اغتيال رضي موسوي وحجة الله أميدوار والاستهداف الأخير لرضا زاهدي ومحمد هادي حاجي رحيمي.
رابعًا: خيارات الرد الإيراني
ردود الفعل الإيرانية لم تختلف كثيرًا عن جملة التصريحات الرسمية التي سِيقت في أوضاع مشابهة حدثت خلال أهم عمليات الاستهدافات الإسرائيلية السابقة، في تبني مسؤولي طهران سردية دراسة خيارات الرد وتنفيذها بما يتناسب مع خياراتها المقترحة. ومن هنا يمكن توقُّع عدد من مسارات الرد الإيراني:
1. الرد المباشر، ولا يعني أن يكون داخل إسرائيل، بالنظر إلى حرص إيران على عدم الانجرار إلى مواجهة مُباشرة مع الجانب الإسرائيلي، خصوصًا أن الأخير سعى بعمليته هذه إلى تجاوز الخطوط الحمراء، وإظهاره الاستعداد للانخراط في أي مواجهة وعلى أي جبهة من الجبهات والرد خارج حدوده. ومن هنا، فإن الرد الإيراني المباشر قد يتجه نحو استهداف المصالح الإسرائيلية كالسُّفن التابعة لها في الخليج أو البحر الأحمر، أو ضرب الممثليات الدبلوماسية الإسرائيلية في جميع أنحاء العالم، أو استهداف مقرات تتبع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وفق المنظور الإيراني، كما فعلت في يناير 2024م باستهداف أربيل في كردستان العراق.
2. تصعيد عبر أذرع إيران وفصائلها العسكرية في المنطقة، وهو الخيار الأرجح والمفضل كذلك لدى إيران والأقرب توقيتاً في حدوثه. وفيه من المحتمل اختيار الساحات المجاورة لإسرائيل كمجالٍ حيوي لشنّ هجمات على حلفاء الأخيرة بقصف صاروخي أو بالطائرات المسيّرة. ويسند هذا الخيار العُرف التاريخي لإيران وطبيعة تعاملها مع مثل هذه المواقف، إذ نفذت إيران عبر وكلائها عمليات عدة للرد على الضربات الإسرائيلية. وعلى الرغم من حالة التهدئة التي فرضتها طهران على الهجمات بالوكالة ضد القوات الأمريكية في سوريا والعراق منذ أوائل فبراير 2024م، فإن من المرجح بعد عملية الاستهداف الأخير في دمشق ومقتل عدد من أهم قادتها الميدانيين في سوريا أن ترفع طهران هذا التجميد في الأيام المقبلة، وتعود إلى استهداف المصالح الأمريكية، وقد يكون تحت معرفة مسبقة من الجانب الأمريكي، لا سيما مع وجود رسائل متبادلة بين الطرفين أعقبت هذا الهجوم، أرسلتها طهران إلى واشنطن عبر السفارة السويسرية (مفادها أن على الولايات المتحدة أن تتحمَّل المسؤولية وأنه يجب محاسبتها باعتبارها المؤيد الرئيس لإسرائيل)، فيما أبلغت واشنطن بدورها طهران بخلو مسؤوليتها عن أي دور في هذا الهجوم، وهي ربما إشارة ورغبة من الطرفين في رفع الحرج بينهما وتقليل حدة التوتر ووضعها في حدها الأدنى.
وتبدو الساحة العراقية هي الأقرب للرد الإيراني من الساحة السورية، وذلك بهدف استثمار عملية الاستهداف للضغط على الإدارة الأمريكية، خصوصاً مع قرب زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني منتصف أبريل 2024م إلى واشنطن. بينما وإن كان المنطق يفرض أن يكون رد الفعل الإيراني وخيارها في الرد على ضربها في سوريا، بتوجيه ضربات عسكرية لإسرائيل من الساحة ذاتها التي جرت عليها العملية الإسرائيلية. لكن تقف أمام هذا الخيار تحديات كبيرة، من أهمها موقف الحكومة السورية وعدم رغبتها في الانخراط المباشر في المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية على أراضيها. وهو موقف اتضح كثيراً منذ حرب غزة، باستثناء ما أصدرته الأجهزة الرسمية السورية من بيانات رسمية وإدانات إعلامية، ولم تسمح بحصول تطورات عسكرية كبيرة عبر جبهتها الجنوبية المحاذية لإسرائيل.
3. البحث عن رد فعل نوعي يتناسب مع حجم العملية وتأثيرها، لا سيما وأن إيران تدرك أن سياق المواجهة الإقليمية قد يتغير بالفعل لصالح إسرائيل إن لم تتجه طهران هذه المرة نحو تبني رد فعل مختلف يتماهى مع تصعيد إسرائيل لقواعد الاشتباك في ظل الضغط المتراكم على حكومتها نحو استرضاء الداخل الغاضب وحفظ الصورة عن نفوذها، لا سيما في ظل ضغوط الداخل وردود الفعل من الشارع الإيراني بخروج تظاهرات جرت في ساحة فلسطين في طهران بعد عملية استهداف محيط السفارة الإيرانية في سوريا، للمطالبة باتخاذ إجراءات صارمة بحق هجوم تل أبيب.
ولكن يقف دون ذلك عوائق عدة، ومن بينها استمرار التحذير الأمريكي السابق لإيران بشأن عدم رغبتها في مزيدٍ من التصعيد في المنطقة وتحميل طهران مسؤولية أي استهداف قد يحدث للمصالح الأمريكية، فضلاً عن أن موازنة طهران لمعايير الربح والخسارة يفرض عليها البحث عن الخيارات التي تخدم مصلحتها ونفوذها في المنطقة، وابتعاداً عن جرّ إسرائيل نحو كسر المستوى الثالث والأخير من قواعد الاشتباك، وهي المواجهة الحتمية المفتوحة على جميع الجبهات ومنها استهداف الأراضي الإيرانية.
وفي خلاصة تقدير الموقف هذا، فإن استهداف تل أبيب مبنى قنصلية طهران في دمشق، ومقتل العميد محمد رضا زاهدي، هو تطور نوعي، وربما فصلٌ جديدٌ في المواجهة المفتوحة بينهما، أو ما يعرف بـ«حروب الظل» بين إسرائيل وإيران، وذلك لعدة أسباب، أولًا من حيث أهمية المستهدفين الإيرانيين في هذه العملية ومكان الاستهداف، وثانيًا مستوى علاقات «الحرس الثوري» بسُلطات دمشق، وأخيرًا مستوى ردة الفعل المحتملة من إيران ضد إسرائيل، التي قد تدفع المواجهة بينهما إلى ذروة جديدة، ولكنها مواجهة ستبقى محكومةً بضمان عدم خروج الأمور عن السيطرة، لأن ذلك ليس في صالح أي من الطرفين، بيد أن ذلك لا يمنع من وجود مخاوف أن تؤدي تلك الهجمات إلى انفلات غير محسوب لهذا الصراع، بما ينعكس سلبًا على الوضع في الإقليم.