استهداف القاعدة الأمريكية على مثلث الحدود الأردنية-السورية-العراقية.. الدلالات وخيارات الرد

https://rasanah-iiis.org/?p=33933

تتوالى عمليات التصعيد الإيراني ضد القوات الأمريكية في أكثر من دولة في المنطقة، إذ قصفت الميليشيات الإيرانية عددًا من القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، وردّت أمريكا على هذا القصف بالاستهداف المباشر لتلك الميليشيات. وكان آخر عمليات التصعيد تلك يوم 28 يناير 2024، والإعلان الأمريكي عن مقتل 3 جنود أمريكيين وإصابات تجاوزت في تقديراتها الأولية 30 إصابة، جراء هجوم بطائرة مسيَّرة على إحدى قواعدها العسكرية الواقعة في نطاق شمال شرق الأردن بالقرب من الحدود مع سوريا. ولا شك في أن هذا التطوُّر يمثِّل نقطة تحول نوعية في مسار التصعيد الذي تشهده المنطقة على خلفية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ويتوقع أن يحمل بالتالي مزيدًا من التداعيات أو والانعكاسات على المشهد الإقليمي.

أولًا: تفاصيل الهجوم ومواقف الأطراف الضالعة في الاستهداف

ملاحظات وحيثيات عدة ساقتها عملية استهداف القاعدة الأمريكية على الحدود الأردنية مع سوريا والعراق، يمكن سردها وفق النقاط التالية:

1. تصعيد نوعي في حجم الأضرار وجغرافيا المكان

مثَّلَت عملية استهداف القاعدة العسكرية الأمريكية قرب الحدود الأردنية السورية تصعيدًا كبيرًا ونقلةً نوعية قياسًا إلى المناوشات التي وقعت خلال الفترة القصيرة الماضية بين أمريكا وأذرع إيران بالمنطقة، في ضوء ما تشهده المنطقة على خلفية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وذلك لعدة أسباب: كون هذا الاستهداف المباشر هو الأكبر ضد القوات الأمريكية العاملة في المنطقة، فضلًا عما خلَّفَه من قتلى ومصابين عسكريين في صفوف القوات الأمريكية، وبالتالي يمكن اعتبار هذه الضربة محاولة إيرانية لتحسين صورة طهران بعد عمليات واشنطن وتل أبيب المتكررة التي استهدفت عددًا من قياداتها في سوريا خلال الفترة الماضية.

الموقع المستهدَف في هذا الهجوم على الحدود السورية الأردنية يشير كذلك إلى إضافة جغرافيا جديدة في صراع الاستنزاف بين طهران وواشنطن، بعد أن كانت جميع الاستهدافات التي أطلقتها الميليشيات الإيرانية في المنطقة تجاه المصالح الأمريكية المستهدفة تقع داخل الحدود التي تنتمي إليها هذه الميليشيات، سواء في العراق وفي غيره، أما العملية الأخيرة فهي الأولى من نوعها التي تَستهدف فيها فصائل «المقاومة الإسلامية في العراق»، بالتحديد »كتائب حزب الله العراقية« ، القواعد الأمريكية خارج حدود العراق وسوريا، ما يعني أن استهداف مصالح أخرى في بلدان مختلفة أمر وارد، وهو ما يقود إلى إمكانية إحداث ارتباك في المشهد الإقليمي وتوسيع لدائرة الصراع فيه.

2. تباين روايات أطراف الاستهداف

تباينت التصريحات والبيانات الصادرة عن أطراف الاستهداف حول موقع القاعدة العسكرية الأمريكية التي قُتل فيها الجنود الأمريكان الثلاثة، فوفق القيادة المركزية الأمريكية وقع الهجوم على قاعدة الدعم اللوجستي الواقعة في البرج 22 في المثلث الحدودي الفاصل بين الأردن وسوريا والعراق، بالتحديد شمال شرق الأردن ناحية الحدود مع سوريا، يعني ذلك أن العملية وقعت في منطقة الركبان الأردنية المقابلة لمنطقة التنف بسوريا. التصريح الأردني الأولي أكد أن الهجوم حصل خارج الحدود الأردنية، إلا أن الأردن أصدر لاحقًا بيانًا رسميًّا قال فيه إن الهجوم الإرهابي استهدف موقعًا متقدمًا على الحدود مع سوريا، بلا تحديد لطبيعة هذا الموقع هل هو على حدودها مع سوريا أم حدث الاستهداف داخلها.

البيان الصادر عن مكتب «المقاومة الإسلامية في العراق» جاء فيه إقدام فصائلها على استهدف أربع قواعد خارجية، ثلاث منها في سوريا، هي قاعدة «الشدادي» وقاعدة «الركبان» و«قاعدة التنف»، والرابعة تجاه منشأة «زفولون» البحرية داخل فلسطين المحتلة، بطائرات مسيَّرة، وربطت في بيانها بوضوح بين الهجوم وتصرفات إسرائيل في غزة، مما يشير إلى أن هدف إيران والميليشيات التابعة لها هو الضغط على الرئيس الأمريكي جو بايدن ووضعه في مأزق، فإما يضغط على إسرائيل من أجل وقف إطلاق النار في غزة، وإما يواجه تصعيدًا إيرانيًّا مستمرًّا في العراق وسوريا تجاه وجود ومقرات القوات الأمريكية في المنطقة.

3. فرض مزيد من الضغوط الإيرانية على الإدارة الأمريكية

منذ انطلاق الحرب الإسرائيلية على غزة سعت طهران إلى تعزيز سرديتها في أن استمرار الحرب في غزة سيغيّر المنطقة، واعتمدت في ذلك على التصعيد وفرض الضغوط على الحضور العسكري الأمريكي في المنطقة، وهو الضغط الذي تَجسَّد في تنامي معدلات استهداف هذه القوات، بغية إيصال رسالتها في قدرتها على إلحاق الضرر بمصالح واشنطن أو مصالح حلفائها في المنطقة. في هذا السياق لجأت إلى التصعيد في البحر الأحمر وعمليات القصف المباشر لبيوت سكنية في أربيل، بذريعة أنها مركز للتجسس، وكذلك قصفت المناطق الخاضعة للمعارضة في إدلب السورية، لتأتي جولة التصعيد الأخيرة لتضيف بعدًا آخر في مسار طهران نحو إحراج الإدارة الأمريكية الراهنة والضغط عليها، مستغِلَّةً في ذلك غياب الجدية الأمريكية في التصدي لمشاريعها بالمنطقة، ولا سيّما أن التهديدات الأمريكية كانت متلازمة مع رسائل مغلفة بعدم الرغبة في التصعيد وتوسيع الصراع في المنطقة، وآخرها تصريحات المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي، وهذا ما تدركه إيران وتسعى للاستفادة منه، مستغلَّةً ضعف إدارة بايدن، وقرب موعد الانتخابات الأمريكية في أواخر هذا العام.

4. الأردن واقتراب أكبر نحو دائرة الصراع الإقليمي

رغم التباين في التصريحات الرسمية للأردن في حدود وموقع الاستهداف، فإنه لا يخفي حقيقة الواقع الأردني وما يمرّ به من عملية استنزاف سياسي وأمني متواصل من إيران وعبر حدوده مع سوريا سواء في ما يتعلق بقضايا تهريب المخدرات أو الأسلحة إلى الداخل الأردني، مروراً بعمليات الضغط السياسي على الحكومة الأردنية منذ انطلاق الحرب في غزة في 07 أكتوبر 2023م في مسألة الضغط الأمريكي والإسرائيلي تجاه تهجير النازحين الفلسطينيين نحو الأردن ومسألة الضغط الإيراني عبر وجود ميليشيات عراقية على حدود الأخيرة مع الأردن، لتعتبر العملية المنفَّذة الأخيرة أحد أوجه التحذيرات الأردنية السابقة والقلق طويل الأمد بشأن التصعيد الإقليمي، وتقدير موقفها في الحاجة إلى مضاعفة استعدادها العسكري ومنظومتها التسليحية، تَجنُّبًا لزيادة الضغوط الإيرانية وتعقيد ملفّ أمنها الحدودي ودرء الخطر القادم من حدودها المشتركة مع سوريا والعراق.

ثانيًا: خيارات بايدن وحدود الرد الأمريكي

يشكّل كل من حجم العملية والسردية التي رافقتها تصعيدًا خطيرًا يستوجب من الإدارة الأمريكية تبنِّي ردٍّ فوري يتماشى مع حجم التصعيد بما يحافظ على سمعة الولايات المتحدة وصورتها الداخلية والدولية، في ظل تنامي عمليات الاستنزاف تجاه نفوذها والحاجة إلى فرض ردع تجاه سلوك إيران وميليشياتها في المنطقة ودفعهم إلى إعادة التفكير قبل تكرار مثل تلك العمليات التي تستهدف المصالح الأمريكية. ومبدئيًّا كان ردّ الفعل الأولي للولايات المتحدة متبلورًا من خلال تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن ومسؤولين في البنتاغون والكونغرس جاء أكثر حدة من التصريحات الصادرة بشأن عمليات سابقة، لكن يبقى الأهمّ هنا هو طبيعة الرد الفعلي والميداني لواشنطن وسيناريوهات الرد وتداعياته على المشهد في المنطقة، ويمكن تلخيصه في النقاط التالية:

1. استمرار النسق السابق: في أن يكون الرد عبر ضرب مواقع الفصائل والميليشيات الإيرانية في الداخل العراقي أو السوري، أو عبر اغتيال بعض قادة الصف الأول لهذه الفصائل والمجموعات المسلحة، وهو مسار مكرر ومرجح، ولن يكون له تداعيات كبيرة على سلوك الميليشيات الإيرانية لكون واشنطن فقدت عنصر الردع والمباغتة في ردودها السابقة، وفي ظلّ سياسة الإنكار الإيرانية في ضلوعها في هذا الهجوم، مقابل تبنِّي ميليشياتها المسؤولية كاملة، وفي ظل قدرة ميليشياتها على التكيف والاستعداد لمثل هذا المسار. في المقابل سيترتب على هذا المسار استمرار توجيه الانتقادات إلى إدارة جو بايدن في تبنِّيها ردًّا ضعيفًا لا يرقى إلى مستوى الضرر الذي تعرضت له القوات الأمريكية ولا يحقِّق الهدف الذي تسعى له واشنطن وهو إعادة ضبط الردع في المنطقة.

2. تصعيد أمريكي نوعي يتماشى مع نمط استهداف قاعدتها الأخير: تقتضي طبيعة المُستهدَف وجغرافيته وحجم الخسائر، ردًّا أمريكيًّا غير تقليدي على هذه العملية، خصوصًا أن الإدارة الأمريكية الحالية تواجه انتقادات كبيرة من الأوساط السياسية، بخاصة من الجمهوريين بشأن إدارة ملفّ الأزمة في الشرق الأوسط وأمن القوات الأمريكية في هذه المنطقة، ومطالبتهم بضرب إيران في العمق وعدم الاكتفاء بضرب ميليشياتها وأذرعها، في ظلّ ضعف ردودها على الهجمات السابقة وغياب عامل الردع تجاه إيران وميليشياتها من تكرار تنفيذ هذا النوع من الهجمات. لذا في حال اتجهت الإدارة الأمريكية إلى هذا المسار فلن يكون من باب ضرورة الردع والدفاع عن الأمن القومي للدولة وحسب، بل من باب الدعاية الانتخابية وتوظيف أي حدث في الداخل والخارج لخدمة الأهداف الانتخابية.

3. توجيه ضربة جامعة لكلا المسارين السابقين: وهو خيار مرجح أيضًا، وذلك عبر توجيه استهداف نوعي إلى معسكرات الميليشيات الإيرانية في المنطقة، بجانب توجيه ضربات انتقائية في العمق الإيراني بضرب مواقع استراتيجية كالمؤسسات الأمنية والعسكرية الإيرانية، وبالتالي اتساع رقعة الصراع الحالية في المنطقة.

4. انسحاب أمريكي كاستجابة للضغوط الإيرانية: قراءة أخرى لحدود الرد الأمريكي تُستقى من تواتر الأخبار والتسريبات عن احتمال لسحب أمريكا قواتها من العراق، وبالتأكيد كذلك من سوريا، ولم يكُن تسريب خبر الانسحاب هو الأول من نوعه، إذ غالبًا ما حظي خبر سحب القوات الأمريكية من سوريا بشدّ وجذب طوال السنوات الماضية، غير أن التسريب الأخير يأتي في سياق التوتر المتصاعد في المنطقة على خلفية الحرب المندلعة في غزة، والضغط المتزايد الذي تمارسه إيران، إذ صعَّدَت ميليشياتها هجماتها ضد المنشآت العسكرية الأمريكية مستندة في ذلك إلى حرص واشنطن على عدم التصعيد لاعتبارات عدة. إلا أنه في الواقع من المستبعد أن تستجيب الإدارة الأمريكية لمثل هذه الضغوط الإيرانية، فالتوازنات الإقليمية الحالية لا تمنح واشنطن مجالًا في اتخاذ قرار من هذا النوع.

ومن المؤكد أن الرد الأمريكي على الهجوم الذي تعرضت له قاعدة أمريكية في الأردن قادم لا محالة، وتتساوى كل خيارات الرد الأمريكي المذكورة سابقاً في الترجيح، ولكن في تقديرنا أن الردّ لن يكون رادعاً كما يتوقع البعض في استهداف الداخل الإيراني، بل ستكتفي الإدارة الأمريكية بتوجيه ضربات قاضية على البنى التحتية التابعة للميليشيات الإيرانية وقياداتها الميدانية وبشكل متواصل في أكثر من منطقة، وقد تساهم إيران نفسها في ضبط إيقاع الاشتباكات حتى لا تتوسع، ويدعم هذا التقدير استباق ميليشيا كتائب حزب الله العراقية ردّ واشنطن على مقتل جنودها بإعلانها تعليق عملياتها ضد القوات الأمريكية.

ختامًا، تكشف عملية استهداف القوات الأمريكية على المثلث الحدودي بين الأردن وسوريا والعراق عن تصاعد التوتر عمومًا في المنطقة وعلى عدة جبهات، من العراق إلى سوريا فاليمن ولبنان وأخيرًا في الأردن، وهو ما يُعَدّ كسرًا جديدًا لقواعد الاشتباك ونقطة مفصلية في مسار الصراع بالمنطقة، وستقود نحو حرب استنزاف متقابلة بين كل أطراف الصراع وستتكثف عمليات الميليشيات على مصالح المنطقة وعلى أهداف غربية وأمريكية وفي مضيق هرمز وعرقلة الملاحة في ممرَّين بحريَّين حاسمَين للتجارة العالمية في البحر الأحمر والخليج العربي. في المقابل تقف واشنطن أمام اختبار حقيقي لسمعتها الدولية، وعمومًا، وبغضّ النظر عن التكهنات نحو لجوء واشطن إلى ردّ مفصلي من عدمه، فهذا بكل تأكيد سيتوقف على مقاربات الإدارة الأمريكية الحالية ورؤيتها للمشهد وإدارة مصالحها المشتركة مع إيران، على حساب الرد على اختراقات إيران في دول المنطقة.

أما طهران فلن يتوقف مسارها في الربط بين جهود ميليشياتها العسكرية في المنطقة ووقف إطلاق النار في غزة، بغية اختطاف المسار السياسي الحالي، بين واشنطن وعدد من الدول العربية التي تسعى لوقف للعمليات الإسرائيلية العسكرية الطاحنة على الأراضي الفلسطينية، وذلك ضمن ترتيبات سياسية دائمة وعادلة في ملف الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. في حين تسعى إيران عبر تثوير الوضع الأمني الإقليمي وتحشيد بيادق ميليشياتها العسكرية نحو الإدارة الأمريكية إلى وقف العمليات الإسرائيلية في فلسطين وفق قواعدها الخاصة بما يثبت معادلة كل من «حماس» في فلسطين والميليشيات الإيرانية الأخرى في عموم المنطقة، باعتبار ذلك بوابة للهيمنة الإيرانية الإقليمية.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير