ضمن حدَّة الصراع التاريخي بين جمهورية الصين الشعبية وتايوان، يجمِع العديدُ من المتخصِّصين في تحليل أحداث منطقة المحيطين الهندي والهادئ (الإندوباسفيك)، على دخول الصراع الصيني-التايواني فصلًا جديدًا من التصعيد، أكثر حدَّةً وخطورة على الأمنين الإقليمي والدولي. وفي أعقاب التصعيد الواضح في مضمون الخطاب التايواني بحلول فترة حُكم الرئيس الجديد لاي تشينغ-تي في العشرين من مايو 2024م، في قضايا جوهرية، رفعت الصين من مستويات تصعيدها المضاد، بتنظيمها مناورات عسكرية تحمل دلالات تصعيدية ورسائل ردْع أقوى بكثير من رسائل المناورتين السابقتين الكبيرتين؛ 2022م و2023م، وذلك بمحاكاتها، ولأول مرَّة في تاريخ المناورات الصينية التصعيدية ضدّ تايبيه، كيفيةَ الاستيلاء التام على السُلطة في تايوان، من خلال توجيه ضربات برِّية وبحرية وجوِّية مشتركة تُفضي إلى السيطرة على مفاصل الجزيرة، ومحاورها الإستراتيجية، بعد تطويقها وعزلها عن العالم.
يحظى التحوُّل في مستويات التصعيد الصينية-التايوانية في منطقة شرق آسيا باهتمامٍ عالميٍ واسع؛ لكونها تشكِّل أخطرَ دوائر الصراع الدولي الحاسمة للمعركة الكُبرى بين القوّتين العُظميين؛ الولايات المتحدة والصين. ويدور في أبرز الدوائر الإستراتيجية، التي تتمتَّع بأهمِّية خاصَّة في إستراتيجيات الفواعل الإقليمية والدولية، بحُكم احتوائها على دولٍ مصنَّفة ضمن قائمة كبار الاقتصاديات في العالم، من حيث شراء النفط والغاز والإنتاج الصناعي والتكنولوجي عالميًا، وسط مخاوف من تدحرُج التصعيد نحو إشعال حرب عالمية كارثية تزيد العالم المضطرب بفعل الحرب في أوكرانيا وغزة، اضطرابات وأزمات وتعقيدات إضافية، قد لا تتحمَّل تبِعاتها الاقتصادية والأمنية العديدُ من الدول المُنهَكة بفعل الحروب الدائرة. لذلك، تعدَّدت التساؤلات حول مؤشِّرات التصعيد ودوافعه ومآلاته على الصراع في «الإندوباسفيك».
أولًا: ملامح خطاب الرئيس التايواني الجديد
حمَلَ خطاب الرئيس التايواني الجديد التابع للحزب الديمقراطي التقدُّمي، ذو الأجندة الانفصالية، الذي ألقاه أثناء حفل تنصيبه رئيسًا لتايوان في العشرين من مايو 2024م، مفردات ومفاهيم ومضامين انفصالية جريئة للغاية عن جمهورية الصين الشعبية، أثارت قلق وغضب السُلطات في بكين؛ لكونها حملت -في تقديرها- رسائل قوية على نوايا لتجاوز الخطوط الحمراء الصينية، بإنجاز ملف الاستقلال خلال فترة حُكمه لتايبيه، ما من شأنه تسطير بداية فصل جديد من التصعيد والتصعيد المُتبادَل بين بكين وتايبيه.
وفيما يلي المؤشِّرات، التي أشارت إليها الصين، وتدلِّل على عزْم الرئيس لاي تشينغ، على التنفيذ الفعلي للأجندة الانفصالية، بصياغته خطابًا انفصاليًا أشبهَ ببرنامج عمل تنفيذي لإعلان الدولة التايوانية المستقِلَّة:
1. تبرير انتفاء قاعدة الوحدة الترابية: حمَلَ خطاب لاي تشينغ مضامين صريحة ومباشرة على إصراره على تحقيق الهدف الانفصالي خلال فترة حُكمه لتايوان، بقوله: «عندما كنت صغيرًا، كنت مصمِّمًا على ممارسة الطب وإنقاذ الأرواح، وعندما دخلت السياسة، بِتُّ مصمِّمًا على إحداث تحوُّل في تايوان.. نُبحِرُ نحو حقبة جديدة مليئة بالتحدِّيات، لكنّها مليئة أيضًا بالأمل الذي لا حدود له». وأشار في خطابه أيضًا، إلى ما يؤكِّد الإصرار الانفصالي، عندما أدلى بانتفاء قاعدة الوحدة الترابية بين البر الصيني والجزيرة، بقوله: «أراضي تايوان وأراضي جمهورية الصين الشعبية غير تابعين لبعضهما البعض»، وهو ما تُعِدُّه الصين تجاوُزًا للحقائق الجغرافية والتاريخية المؤكِّدة على الوحدة الترابية للبر الصيني (الصين) والجزيرة التايوانية.
2.تأكيد غياب قاعدة الانسجام الهويّاتي: لم يرَ لاي تشينغ الفروقات بين ضفّتي المضيق في «عدم الاندماج الترابي» فحسب، وإنَّما أيضًا في انتفاء «الانسجام الهويّاتي»، بتركيزه على سيادة قِيَم الديمقراطية الغربية في الجزيرة، وتحديد بوصلة سياستة الخارجية نحو تعزيز علاقاته مع الديمقراطيات، وغالبيتها غربية، بقوله: «سنواصل العمل مع الدول الديمقراطية لتشكيل مجتمع ديمقراطي.. والسماح لتايوان بأن تصبح أفضل لاعب في العالم الديمقراطي». هذه النقطة تُحسَب لصالح تايبيه، وتشكِّل تحدِّيًا أمام بكين، حال المُضي في ضمِّ الجزيرة، حيث ترسَّخت الهويّة الديمقراطية الغربية في تايوان على مدى أكثر من 75 عامًا، تحديدًا منذ سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على البر الصيني، بعد انتهاء الحرب الأهلية الصينية عام 1949م، وإعلان ماو تسي تونغ تأسيسَ جمهورية الصين الشعبية، وفرار قادة حزب الكومينتانغ إلى تايوان وإعلانها عاصمةً مؤقَّتة لجمهورية الصين. الآن وبعد 75 عامًا من الانفصال، يمكن القول إنَّ الأجيال التي كانت تحمل قِيَمًا شيوعية في تايوان، لرُبَّما اندثرت بالكامل؛ وبالتالي اندثار معتنقي الأفكار الشيوعية لصالح مجتمع يعتنق الأفكار الليبرالية، بخلاف المجتمع في البر الصيني.
3. الترويج الواضح لنظرية الدولتين: على الرغم من وجود اتفاق راسخ بين بكين وتايبيه على مبدأ «صين واحدة ونظامان، يتضمَّن اعتبار تايوان تابعةً للأراضي والسيادة الصينية مع سيادة الحُكم الذاتي في الجزيرة»، غير أنَّ خطاب الرئيس التايواني حمَلَ مصطلح «الدولة» ضِمنًا، عند الإشارة إلى الجزيرة، في عدَّة مضامين أساسية: أولها؛ عندما اعتبر تايوان بمثابة دولة مثل الصين في حفظ الأمن بمضيق تايوان وشرق آسيا، بقوله: «أدعو الصين إلى وقْف ترهيبها السياسي والعسكري ضدّ تايوان، وتقاسُم المسؤولية العالمية مع تايوان في الحفاظ على السلام والأمن والاستقرار في مضيق تايوان، وكذلك في المنطقة بأسرها»، ثانيها؛ عندما كرَّر وصفهُ للصين بالقُوى الخارجية الراغبة في التدخُّل في تايبيه، بقوله إنَّ «تايبيه ترفض الخضوع لتأثير قُوى خارجية»، وبقوله: «أشكُر زملائي المواطنين مرَّةً أخرى على دعمكم، وعلى رفضكم التأثُّر بالقُوى الخارجية، وعلى دفاعكم الحازم عن الديمقراطية، وعلى المُضي قُدُمًا دون الرجوع إلى الوراء، وعلى فتْح صفحة جديدة في تاريخ تايوان»، وثالثها؛ عند مطالبته الصين بأن تتعامل مع بلاده بموجب قاعدة التكافؤ، بقوله: «آملُ أن تواجه الصين حقيقة وجود جمهورية الصين (أي تايوان)، وتحترم خيارات شعب تايوان، وتختار الحوار بدلًا من المواجهة، في إطار مبادئ التكافؤ والانخراط في الحوار».
4. العمل على تعزيز القُدرات الدفاعية: يرى لاي تشينغ، أنَّ بلاده أصبحت تجربةً اقتصاديةً فريدة، ونموذجًا يُحتذَى به في التطوُّر الصناعي والتكنولوجي على مستوى العالم، وباتت مؤثِّرةً في سلاسل التوريد العالمية، بل وفي اقتصاديات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي عالميًا. ولذلك، لابُدَّ من تعزيز قُدراتها الدفاعية وتحالفاتها العسكرية والإستراتيجية مع حلفائها من الدول الديمقراطية المتقدِّمة في العالم، خصوصًا في التعاون العسكري. ويعتقد أنَّ ذلك يهدُف لتشكيل مجتمع عالمي سِلْمي قادر على إظهار قوَّة الردع، ومنْع الحرب بفرض قوَّة السلام بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ؛ وذلك لتحقيق قوَّة الردع ضدّ أيّ مساعٍ صينية مُحتمَلة لضمِّ تايوان.
5. اتّخاذ خطوات فعلية للاعتراف الدولي: فيما يعكس نيّته في اتّخاذ خطوات فعليه لتعزيز الاعتراف الدولي بتايوان، كشفَ الرئيس التايواني أنَّ تحقيق ذلك الهدف يتطلَّب التحرُّك من خلال مساريين: الأول؛ تجاه الدول، بتوقيع اتفاقيات ثنائية مع الديمقراطيات بمختلف أنحاء العالم للتعاون التجاري والاستثماري، والثاني؛ تجاه المنظَّمات الدولية، حيث تقدَّمت تايبيه بطلب رسمي للانضمام إلى الاتفاقية الشاملة والتقدُّمية للشراكة عبر المحيط الهادئ، وستسعى إلى الانضمام للعديد من المنظَّمات الدولية، على حد قوله.
لكن بموجب قرار الاعتراف الأُممي للعام 1971م، بجمهورية الصين الشعبية الممثِّل الشرعي الوحيد للأراضي الصينية قاطبة، وأنَّها إحدى الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، تواجه تايبيه تحدِّيًا أمام تعزيز الاعتراف الدولي بها؛ لكونها جزءًا من الأراضي الصينية، وعبارة عن إقليم حُكم ذاتي بموجب مبدأ «صين واحدة ونظامان». ولذلك، تحظى تايوان باعتراف دولي محدود للغاية، ومن قِبَل دول ضعيفة غير مؤثِّرة في مجريات الشؤون الدولية ولا الإقليمية، وتقع معظمها في البحر الكاريبي وجنوب المحيط الهادئ، كما يشهد أيضًا عددُ الدول المعترفة بتايوان تناقصًا مستمِرًّا. فبعدما كان عددها 20 دولة، تراجع إلى 13 دولة فقط (*)،بسحب هندوراس اعترافها من تايوان وإقامتها علاقات دبلوماسية مع الصين 2023م،ما اعتبره مراقبون انتصارًا لبكين في طريق كسْب معركة السيادة مع تايبيه دون إطلاق رصاصة واحدة، وخصوصًا مع تحفيز بكين المستمِرّ لبقية الدول المعترفة بتايوان على سحب اعترافها، من خلال المساعدات المالية والتكنولوجية وتعزيز العلاقات الاستثمارية والتجارية. وحتى الولايات المتحدة، التي تقيم علاقات دبلوماسية مع بكين منذ 1979م، تعلن باستمرار تمسُّكها بمبدأ «صين واحدة ونظامان».
ثانيًا: التصعيد الصيني ضدّ تايوان مع بداية حُكم لاي تشينغ
لم تمُرّ سوى ثلاثة أيام فقط على خطاب لاي تشينغ، حتى أجرت الصين مناورات حربية؛ «السيف المشترك 2024م»، على مدى يومين؛ 23 و24 مايو 2024م، وقالت إنَّها تشكِّل عقابًا على التوجُّهات الانفصالية للاي تشينغ، حيث فرضت عشرات المقاتلات الحربية وعشرات السُفُن والقاذفات الإستراتيجية طوقًا حول تايوان، في نموذج تحاكي فيه قوّات الجيش الصيني؛ البرِّية والبحرية والجوِّية، كيفيةَ انتزاع السُلطة من تايبيه وحصار تايوان برًّا وبحرًا وجوًّا، وقصف سُفُن أجنبية. وعرَضَ الجيش الصيني مقطع فيديو على حساب قيادة العمليات على منصَّة التواصل الاجتماعي «وي تشات»، لمحاكاةٍ على الكمبيوتر بالرسوم المتحرِّكة، تُظهِر إطلاقَ صواريخ تجاه الجزيرة؛ لتسقط بعد ذلك على مُدُن تايبيه وكاوشيونغ وتايتشونغ وهوالين بكراتٍ من اللهب، وفي نهاية المقطع كتبت عبارة «أسلحة مقدَّسة لقتل الانفصال».
خريطة (1) مناطق عمليات تمرين «السيف المشترك 2024م»
المصدر: https://2u.pw/IKIuB6W2
تختلف مناورات 2024م عن المناورتين السابقتين في 2022م و2023م، من حيث الأهداف ومناطق المناورات والحجم والكثافة، على النحو التالي:
1. من حيث الأهداف: تحاكي مناورات 2024م، كما سبق القول، اختبار قُدرة الجيش الصيني على إمكانيةَ الاستيلاء على السُلطة في تايوان، بما يتماشى وحديث المحاضر في أكاديمية جيش التحرير الشعبي الصيني تشانغ تشي، عن أنَّ جيش بلاده أرادَ التدريب على وقْف واردات الطاقة للجزيرة، بل خنقها اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، وقطْع طُرُق هروب الساسة التايوانيين للخارج، ومنْع وصول الدعم والمساندة الأمريكية والغربية للجزيرة. بينما حاكت مناورتي 2022م، والتي أعقبت زيارة رئيسة مجلس النوّاب الأمريكي السابقة نانسي بيلوسي، ومناورة 2023م، والتي أعقبت لقاء الرئيسة السابقة تساي إنغ وين برئيس مجلس النوّاب الأمريكي آنذاك كيفن مكارثي، تطويق وعزْل تايوان بشكل كامل عن العالم.
2.من حيث مناطق المناورات: أظهرت خريطة مواقع المناورات، إجراء مناورات 2024م في خمس مناطق رئيسية لحصار تايوان، وأربع مناطق أصغر تحيط بجُزُر تايوان النائية (كينمن، ووكيو، وماتسو، ودونجين) بوصفها أهدافًا، ولم تُصدِر خلالها تحذيرات للسُفُن والطائرات من الدخول في المناطق الخمس؛ ما يزيد من خطورتها، بخلاف المناورتين السابقتين، اللتين لم تشملا الجُزُر الصغيرة المظلَّلة بالأحمر في الخريطة السابقة. لكنّها أجرت مناورات 2022م في 7 مناطق حول تايوان، بينما لم تحدِّد مناطق في مناورات 2023م، وحذَّرت خلالهما السُفُن والطائرات الأجنبية من دخولها، تفاديًا لوقوع أخطاء تُحدِث تفجيرًا للصراع.
تمَّ اختيار المناطق ذات الميزات الإستراتيجية والاقتصادية العالية لإجراء المناورات؛ فالمنطقة الشمالية قريبة من مراكز القياده في تايبيه، والمنطقة الشرقية تحتوي على أحد موانئ الشحن الدولية الرئيسية في تايوان، وتُتيح السيطرة عليها إغلاق ثلاثة طُرُق رئيسية: طريق تدفُّق الطاقة إلى تايبيه، وطريق المغادرة المُحتمَلة لكبار قادة تايوان حال اندلاع الصراع، وطريق الولايات المتحدة لحماية تايوان. والمنطقة الجنوبية الشرقية، التي تحتوي على الممرّ المائي -قناة باشي- الذي يربط مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي بالمحيط الهادئ، وهو طريق ضروري لحركة الشحن الدولية، والمنطقة الجنوبية الغربية الواقعة قبالة ساحل كاوشيونغ، تحتوي على أكثر موانئ شحْن الحاويات ومراكز واردات الطاقة، والمنطقة الغربية تمكِّن الصين من التحكُّم في مضيق تايوان.
3. من حيث الحجم والكثافة: تُعَدُّ مناورات 2024م، أصغر حجمًا وأقلّ كثافة من المناورتين السابقتين، لكن تزداد فيها عوامل الخطورة، أو وقوع حوادث وسوء تقدير يؤدِّي لانفجار الصراع، كما تحمل رسائل ردْع قوية لتايبيه وتحذيرًا مُصاغًا بدقَّة عاليه، مفاده: قُدرة الصين على إخضاع لاي تشينغ متى رغِبَت في ذلك.
لم تكتفِ الصين بإجراء المناورات ردًّا على خطاب الرئيس التايواني، وإنَّما انتقدت الدول التي شاركت وفودها في مراسم حفل تنصيبه، وعدَّتها دولًا مُنتهِكة لمبدأ «صين واحده ونظامان». وأدانت الصين رسالة التهنئة، التي أرسلها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن للرئيس لاي تشينغ، واعتبرتها انتهاكًا أمريكيًا لمبدأ الصين الواحدة، وللبيانات الثلاثة المشتركة الصينية-الأمريكية(*). وفي 22 مايو 2024م، فرضت الصين عقوبات على 12 شركة دفاع أمريكية و10 مدراء تنفيذيين لشركات دفاع؛ بسبب تصديرها السلاح لتايبيه، وذلك ضمن إستراتيجية صينية لمواجهة الدعم الأمريكي لتايوان، منذ تنامي العلاقات الأمريكية-التايوانية عقب سيطرة الحزب الديمقراطي التقدُّمي على الحُكم في تايوان عام 2016م.
وفي خطوة وُصِفت بأنَّها نادرة الحدوث، وتحمل دلالات بارزة على دورٍ صيني أكبر مُحتمَل في الداخل التايواني في المستقبل للضغط على القيادة في تايبيه، استضاف الرئيس الصيني شي جين بينغ الرئيس التايواني الأسبق ما ينغ جيو؛ التابع لحزب الكومينتانغ الراغب في التقارب مع بكين ضمن مبدأ «صين واحدة ونظامان». ووصف ما ينغ جيو رحلته لبكين، على أنَّها «رحلة سلام»؛ من أجل تهدئة التوتُّرات مع بكين. ويحمل اللقاء رمزيةً سياسية، حيث تُعَدُّ المرَّة الأولى، التي تستضيف فيها بكين رئيسًا سابقًا لتايوان منذ انسحاب حزب الكومينتانغ إلى تايوان قبل أكثر من 75 عامًا، كما يحمل دلالةً على رغبة الصين في تعزيز علاقاتها بحزب الكومينتانغ؛ لتعزيز أوراق ضغطها في المجتمع التايواني، ومقاومة الأحزاب الراغِبة في استقلال تايوان عن الصين.
ثالثًا: مفسِّرات التصعيد الصيني ضدّ الرئيس التايواني الجديد
تغيَّرت لغة الخطاب الصيني بشكل كبير للغاية تجاه تايبيه، منذ فوز لاي تشينغ في الانتخابات الرئاسية في يناير 2024م، ووصفته آنذاك بـ «الانفصالي العنيد أو الخطير»؛ بسبب عقيدته ومواقفه السياسية السابقة، التي أبداها تجاه مبدأ «صين واحدة ونظامان» ضمن أجندة الحزب الديمقراطي التقدُّمي «الانفصالية»، وإيمانه بضرورة تطبيقها الفعلي انطلاقًا من افتراق الهويّات، ما بين هويّة تايوانية تنتمي مضمونًا وسلوكًا إلى الهويّة الليبرالية أو الديمقراطية الغربية، وهويّة صينية ذات منظومة فكرية شيوعية مُغايِرة ومنافِسة للهويّة الغربية، ونزوعه نحو تطبيق «نظرية الدولتين»، بدلًا من الدولة الصينية الواحدة ضمن تعريفه لذاته على أنَّه «عامل براجماتي من أجل استقلال تايوان».
تصاعدت لغة الخطاب الصيني الحاد منذ خطاب التنصيب للرئيس التايواني الجديد، الذي يشكِّل بداية مرحلة فارِقة وجديدة من التصعيد الصيني ضدّ تايبيه؛ لتقييمه من قِبَل السُلطات الصينية على أنَّه برنامج عمل تنفيذي لترجمة الانفصال على الأرض، وأنَّه يحمل تنكُّرًا واضحًا من الرئيس الجديد لتبعية تايوان للبر الصيني، ورفضه لإعادة توحيد أو ضمّ تايوان مع الصين، ووصفه للدولة المركزية على أنَّها دولة أو قوَّة أجنبية تمارس عدوانًا خارجيًا على تايوان.
يتّضِح التحوُّل الكبير في الخطاب الصيني تجاه تايبيه، في لغة كبار المسؤولين الصينيين الحادَّة والقوية ضدّ لاي تشينغ، والتي تحمل دلالات على إمكانية لجوء الصين إلى استخدام القوَّة العنيفة ضدّ نظام الحُكم في تايبيه. وتحدِّد التصرُّفات الصينية المقبلة لخنق تايبيه وحصارها، ما ينذر بتصعيدٍ جديد أكثر خطورةً على الأمن في شرق آسيا، خلال فترة حُكم لاي تشينغ. وقد صرَّح وزير الخارجية الصيني وانغ يي بوضوح ضدّ لاي تشينغ، ضمن خطابه في الاجتماع رفيع المستوى لمنظَّمة شنغهاي للتعاون، بقوله: «أولئك مثل لاي تشينغ قد خانوا أمتهم وأجدادهم. ما فعلوه هو بكُلِّ بساطة مشين.. كل الانفصاليين، الذين يطالبون باستقلال تايوان، سيرون أسماءهم مكتوبةً على جدار العار». وكذلك حذَّر الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ ونبين من وصفهم بـ «قُوى استقلال تايوان»، من أنَّ «رؤوسهم ستتحطَّم ودماءهم ستسيل».
تعكس المفردات الجديدة، مثل تحطيم الرؤوس وإسالة الدماء، للخطاب الصيني، خروجًا عن التصريحات المعهودة عن الدبلوماسية الهادئة الصينية، وتعكس توجُّسًا صينيًا عالي المستوى ممّا تعتبره نزعة انفصالية واضحة للرئيس التايواني الجديد، بما قد يؤدِّي إلى إستمرارية التصعيد العسكري الصيني ضدّ تايوان. وتقدِّر الاستخبارات المركزية الأمريكية، والغربية، والتايوانية كذلك، الموعد النهائي لتحرُّك الجيش الصيني لاسترداد تايوان، بالعام 2027م، معتمدين في ذلك على تصريح للرئيس الصيني شي جين بينغ أصدر خلاله تعليماته لجيش التحرير الشعبي بضرورة التحوُّل إلى قوَّة عسكرية حديثة تتمتَّع بالجاهزية والقُدرات القتالية العالية بحلول عام 2027م، وهو ما عدَّته المخابرات الغربية والتايوانية، على أنَّه استعدادٌ لغزو تايوان في 2027م.
خاتـمـة
تكشف المعطيات السابقة، عن دخول التصعيد الصيني-التايواني لمرحلة تصعيدية جديدة أكثر خطورة على الأمن والاستقرار في منطقة «الإندوباسفيك»، في ظل النزعة الانفصالية القوية للرئيس التايواني الجديد، وإيمانه بضرورة إرساء نظرية الدولتين، وارتفاع درجة تشاؤم الصين وتشديدها القوي على أنَّ انتهاك مبدأ «صين واحدة ونظامان» يضطرّها إلى استخدام القوَّة المسلَّحة، بل والعنيفة ضدّ تايبيه. لذلك، يُتوقَّع استمرارية ممارسة الصين أنشطة عسكرية واسعة النطاق حول الجزيرة؛ لإظهار القوَّة والقُدرة أمام الطرفين التايواني والأمريكي، بما يكفي على حسم الأزمة التايوانية لصالحها بالقوَّة العسكرية. وقد تلجأ الصين إلى عمليات أكثر توسُّعًا جغرافيًا من كافَّة المناورات السابقة، تحاكي الغزو العسكري بشكل يمكِّن الصين من الانخراط في عمليات تفتيش أو تعطيل حركة المرور التجارية بمضيق تايوان، أو عزْل جزر تايوان النائية عن تايبيه.
وعلى ما يبدو أنَّ أيّ تصعيد بين بكين وتايبيه، سيجعل الولايات المتحدة؛ الداعمَ الإستراتيجي لتايوان، طرفًا فيه، حيث يُدرِك القطبان الأمريكي والصيني أنَّ إحكام السيطرة على تايوان يُتيح السيطرة على القيادة الدولية خلال القرن الـ21. ففيما ترى واشنطن أنَّ استمرارية تايوان بعيدًا عن الصين تُعَدُّ بمثابة رمز على استمرارية الهيمنة الأمريكية المنفردة على القيادة الدولية، تتمسَّك بكين بأنَّ كسْب المعركة سيطيح بعصر الأُحادية القطبية، ويحوِّل الولايات المتحدة إلى موازِنٍ وليس مهيمِنٍ دولي، بما يسهم في إرساء نظام دولي متعدِّد الأقطاب. ولعلّ ذلك يتأتَّى بحُكم الموقع الجيوسياسي للجزيرة، ضمن منطقة هامَّة للفواعِل الدولية، تُتيح لمن يتحكَّم فيها الهيمنة على الاقتصاد الدولي، حيث تحتوي على ثروات ضخمة، وممرّات إسراتيجية للتجارة الدولية: مضيق تايوان وملقا، ومرور نصف الحاويات المنقولة في العالم عبر بحر الصين، واحتوائها على عدد من الاقتصاديات الآسيوية الكُبرى، مثل الاقتصاد الصيني الثاني في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي، والاقتصاد الهندي واقتصاديات دول «الآسيان» الصاعِدة، إلى جانب الاقتصادين الياباني والكوري الجنوبي، وهُم جميعًا من كبار المشترين للنفط والغاز، ومن كبار المصدِّرين للتجارة عالميًا. وما تشكِّله تايوان أيضًا من نقطة انطلاق للهيمنة في المحيطين، ومركز لتصنيع تقنيات الرقائق الإلكترونية، التي تشِّكل عصبَ الصناعات المستقبلية، إذ يشبِّهُ القائد الأمريكي ماك آرثر أهمِّيتها الإستراتيجية بـ «حاملة طائرات لا يمكن إغراقها».
رُبّمَا أخذت الأحداث الجارية في أوكرانيا وتداعيات الحرب في غزة، شيئًا من اهتمام العالم بالأوضاع في منطقة «الإندوباسفيك»، لكن تسارُع الأحداث في تلك المنطقة يُثير المخاوف من اندلاع أزمة عالمية، لا يقتصر أثرها على منطقة «الإندوباسفيك»، بل ستمتَدُّ آثارها إلى جميع الدول، لما تمثِّله تلك المنطقة من تأثير وأهمِّية بالغة في الاقتصاد العالمي.
* تقريبًا الدول التي تعترف باستقلال تايوان تشمل: سانت كيتس ونيفيس، باراغواي، سانت لوسي، سانت فنسنت، جُزُرغرينادين، توفالو، ناورو، غواتيمالا، هايتي، الفاتيكان، بليز، إسواتيني (سوازيلاند سابقًا)، وجُزُر مارشال.
* البيانات الثلاثة بين الولايات المتحدة والصين بشأن تطبيع العلاقات بين البلدين: الأول كان في عام 1972م، وتضمَّن تفاهُمات على احترام الدولتين لمبدأ عدم التدخُّل في الشؤون الداخلية، وتأييد واشنطن مبدأ الصين الواحدة، والثاني في يناير 1979م، والذي أسفر عن ترسيخ العلاقات الدبلوماسية، وإعلان الولايات المتحدة إنهاء علاقاتها الرسمية مع تايوان بينما تحتفظ بالروابط الاقتصادية والثقافية، والثالث في أغسطس 1979م، والذي أعلنت خلاله الولايات المتحدة نيّتها تقليل مبيعات السلاح إلى تايوان بشكل تدريجي.