بعد مرور عقدين على توقُّف آلة الاغتيال خارج الأراضي الإيرانيَّة، تشير الأخبار اليوم إلى إمكانية تَحرُّك هذه الآلة القديمة مرة أخرى.
في شتاء عام 2016م لقي خبر مقتل تقنيٍّ إيرانيّ الأصل يعمل في مجال الكهرباء يُسَمَّى علي معتمد، أصداء واسعة بعد أن بُثّ الخبر على إحدى قنوات هولندا التليفزيونية التي تهتمّ بالأخبار الجنائية، وبعد سلسلة من التحقيقات المفصلة، وبعد تعرُّف الناشط اليساري المقيم بهولندا مرتضى صادقي، على هُوِيَّة القتيل، مفيدًا بأنه محمد رضا كلاهي المتهَم بتفجير مقرّ حزب “الجمهورية الإسلامية” [عام 1981م]، أعلنت الشرطة الهولندية أن الضحية هو رضا كلاهي الذي كان يعيش منذ سنوات في هولندا سِرًّا بعد تغييره هُويّته، ورغم هذا لم تُشِرْ أصابع اتهام أجهزة الأمن الهولندية الرسميَّة إلى إيران.
في العام التالي اغتيل أحمد ملا نيسي، أحد قادة جماعة الأحواز الانفصالية في مدينة لاهاي، وجرت تحقيقات موسعة بشأن هذا الاغتيال أيضًا، والتزم المسؤولون الهولنديون مرة أخرى الصمت، ولم يتحدثوا حول تفاصيل مخطِّطي ومنفِّذي هذا الهجوم الإرهابي، رغم أن أقارب وأصدقاء ملا نيسي اتهموا إيران بهذه العملية.
لكن الحادثة التالية كانت مختلفة عمَّا سبقها، إذ اتُّهِمَت إيران هذه المرة في باريس بمحاولة تنفيذ تفجيرات خلال المؤتمر السنوي لمنظَّمة مجاهدي خلق، وقُدِّمَ أحد الدبلوماسيين الإيرانيّين في فيينا على أنه أحد المخططين لهذا الهجوم الإرهابي، وحسب تصريحات المسؤولين الفرنسيين، كان هذا الدبلوماسي يفتقر إلى الحصانة الدبلوماسية وقت اعتقاله، ومؤخَّرًا أعلنت الدنمارك عن اعتقال نرويجي من أصل إيرانيّ بتهمة محاولة اغتيال ناشط آخر ينتمي إلى جماعة الأحوازية، ووَفْقًا للسلطات الدنماركية فإن الشخص الذي قُبض عليه هو من عناصر الاستخبارات الإيرانيَّة، وقد قُبض عليه في أثناء عملية استطلاعية يصوِّر فيها الشخص المستهدف.
أثارت هذه القضية ردود فعل شديدة لدى مسؤولي الدنمارك والاتِّحاد الأوروبيّ أيضًا، لكن إيران وصفت ذلك بالمؤامرة الرامية إلى التأثير على العلاقات الإيرانيَّة-الأوروبيَّة قُبيل بداية المرحلة الثانية من العقوبات الأمريكيَّة.
لكن هل حقًّا لدى إيران برنامج جديد للتخلص من معارضيها في الخارج، أم إن أجهزة استخبارات الدول المعادية لها هي التي تحاول تلفيق مثل هذه الملفات؟
لقد كان اغتيال المعارضين السياسيين سواء في الداخل أو في الخارج خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي أحد البرامج الإيرانيَّة المدوَّنة والسرية، وقائمة الاغتيالات التي نفَّذَتها الأجهزة الأمنية الإيرانيَّة في الداخل والخارج لا تحتاج إلى شرح، وربما إذا تَتبَّعْنا أسبابَ الاغتيالات التي نفّذتها إيران في الماضي، لما كان صعبًا إثبات فرضية إمكانية عودة تصفية المعارضين خارج الحدود.
لتصفية المعارضين السياسيين سواء داخل إيران أو خارجها جذور مرتبطة بمسألة الأمن القومي الإيرانيّ، فقد كانت إحدى أدوات الحفاظ على الأمن القومي والدفاع عن النِّظام الحاكم في إيران في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وذلك بهدف الحد من إمكانية نفوذ هؤلاء المعارضين ونشاطهم داخليًّا وخارجيًّا، ففي هاتين الحقبتين كانت المعارضة الخارجية تحظى بقدرات تنظيمية كبيرة خارج إيران، لذا كانت تُعتبر أداة ضغط على «الجمهورية الإيرانيَّة» على الصعيد الدولي، كما كانت علاقة النشطاء السياسيين في الخارج مع المعارضة في الداخل أحد الهواجس الحقيقة لأجهزة الأمن الإيرانيَّة على الدوام.
ولكن لم تكُن هذه الهواجس والمضايقات هي السبب الوحيد لتصفية المعارضين، إذ تؤكّد المعلومات الجديدة أن السبب الرئيسي وراء بعض عمليات الاغتيال السياسي كانت منوطة بالخلاف بين التيَّارات داخل إيران، فقد كانت إيران في ثمانينيات القرن العشرين عبارة عن مجموعة جُزُر من مؤسَّسات اتخاذ القرار الموازية، التي تتخذ القرارات حسب ما تقتضيه مصالح أفرادها، وبعض الاغتيالات المذكورة كانت نتاج هذا التنافس، على الأقلّ تنطبق هذه الحقيقة على اغتيال عبد الرحمن قاسملو[*] في أثناء التفاوض مع النِّظام الإيرانيّ.
بعد إقصاء اليساريين من “الجمهورية الإسلامية” سرّعت عصابة علي فلاحيان وسعيد إمامي، المسؤولَين بوزارة الاستخبارات، من عمل آلة الاغتيالات، واستأنفوا مشروع التصفية الجسدية للمعارضين السياسيين تحديدًا باغتيالهم کاظم سامي، وشابور بختیار، وکاظم رجوي، وفي النهاية اغتيال المفكرين وأعضاء اتِّحاد الكتاب في الداخل، لكن ينفي بعض المسؤولين السياسيين الذين كانوا يتولون مناصب في الحكومة والنِّظام في تلك الفترة علمهم بهذه السياسات، أو على الأقل يشيرون إلى عدم قدرتهم على منع تنفيذها، ومن بين هذه الشخصيات تطالعنا أسماء من قبيل هاشمي رفسنجاني، ومیر حسین موسوي، وعطاء الله مهاجراني، وغلام حسین کرباسجي، ومحمد خاتمي، وغيرهم من الإصلاحيين الذين تولوا مناصب في حكومات الثمانينيات والتسعينيات قبل وصول الإصلاحيين إلى السُّلْطة.
(يستدلّ البعض بأن بعض هذه الاغتيالات كان في الأساس محاولة لمنع اتّصال الإصلاحيين في الداخل بمعارضي النِّظام في الخارج، لهذا سعى المتشددون لمنع هذا التقارب بتنفيذهم مجموعة من الاغتيالات، والمثال الواضح على هذا الاستدلال سلسلة الاغتيالات التي وقعت في عهد محمد خاتمي، التي نفّذها عناصر وزارة الاستخبارات آنذاك، لكن كما أوضح حسام الدين آشنا، مستشار حسن روحاني، في حوار له مع الصحفي مرتضى كاظميان عبر تويتر، فإن وزير الاستخبارات حينها لم يكُن على علم بعمليات القتل هذه! وعلى فرض صحة ادِّعاءاته، يمكن استنتاج أن كثيرين ممن سحقتهم آلة اغتيال “الجمهورية الإسلامية”، كانوا ضحية الخلافات داخل تيَّارات النِّظام الإيرانيّ).
الآن، وبما أن ظروف «الجمهورية الإيرانيَّة» السياسية تقترب من تلك التي سادت في عقدَي الثمانينيات والتسعينيات، يبدو أن آلة اغتيال المعارضين السياسيين قد بدأت عملها ثانية، متخذة من الحفاظ على الأمن القومي والتخلُّص من المنافسين الحزبيِّين دافعًا لها، فالنِّظام من جهةٍ قلقٌ من المعارضين الذين زادوا نشاطهم الإعلامي للإطاحة به، ومن ناحية أخرى يسعى الجناح المتشدد بتنفيذه عمليات إرهابية في أوروبا لإجبارِها على تَبنِّي موقف أمريكا والخروج من الاتِّفاق النووي، حتى يهيئ المجال بذلك لسقوط حكومة روحاني، وبالطبع فإن خطر تلاقي مصالح معارضي الاتِّفاق في الداخل والخارج سيمهّد الطريق أمام آلة الاغتيال.
لقد دفع النِّظام الإيرانيّ في الماضي الثمن باهظًا لقاء اغتيال المعارضين السياسيين في أوروبا، وأدَّى اغتيال صادق شرفكندي[**] والملف الذي جرى تشكيله لحادثة مطعم ميكونوس في نهاية المطاف إلى إدانة علي فلاحيان وزير الاستخبارات في فترة حكومة هاشمي رفسنجاني، فضلًا عن رفسنجاني نفسه، والمرشد الإيرانيّ، بصفتهم من أصدروا الأمر لتنفيذ هذا الاغتيال.
(بعد صدور حكم محكمة برلين، قطعت دول الاتِّحاد الأوروبيّ علاقاتها السياسية والاقتصادية بإيران، ورغم أن الأوضاع تغيرت مع مجيء حكومة خاتمي، فإن حكومة إيران تعهدت خلال مفاوضاتها مع الاتِّحاد الأوروبيّ بعدم تنفيذ أي عمليات إرهابية على الأراضي الأوروبيَّة، لكن ما المصير الذي ينتظر النِّظام الإيرانيّ في حال نقض عهده مع أوروبا هذه المرة؟)
يبدو أن كل شيء قد ارتبط بالفعل بالاتِّفاق النووي ومصيره، وما يهمّ أوروبا في الظروف الراهنة هو التزام إيران هذا الاتِّفاق، وستتغاضى من هذا المنطلق عن التحركات الإرهابية الأخيرة، وإن نُسِبت إلى إيران، فأوروبا تعرف أن حكومة روحاني بعد خروج أمريكا من الاتِّفاق النووي تواجه مأزقا سياسيًّا واقتصاديًّا كبيرًا مع المعارضين في الداخل والخارج، العاجزين بدورهم عن تقديم المساعدة لتحسين الأوضاع، لهذا يمكن لغضّ الطرف عن هذه العمليات أن يكون مكافأة لحكومة روحاني على محاولاتها الحفاظ على الاتِّفاق النووي.
مادة مترجمة عن موقع زيتون
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد