خلال السنوات الماضية احتدّ النقاش مرات عديدة حول اقتصاد إيران، فاليساريون والشيوعيون كانوا ومازالوا يعدّون اقتصادها «نيوليبرالي»، أما الـنيوليبراليون فيعدّونه شعبويًا واشتراكيًا، وهذا مستخلص من النقاشات والحوارات المكتوبة التي جرت بين أستاذ علم الاجتماع بجامعة طهران يوسف أباذري والخبير الاقتصادي موسى غني نجاد منذ سنوات مضت، فقد سمّى أباذري حكومة أحمدي نجاد «الحكومة الأكثر ليبرالية»، ولم يكن مثل هذا الزعم مقبولاً لدى غني نجاد المعروف بأنه من المدافعين عن خبراء الاقتصاد فريدريش فون هايك وميلتون فريدمان.
كان هذا النقاش مستمرًا بين أنصار موسى غني نجاد ويوسف أباذري، وبشكل عام كان يحتدم ويشتد بين اليساريين واليمينيين، فقد كان البعض يستخدم مصطلحات النيوليبرالية والشيوعية والاشتراكية كشتيمة، وهذا على نحو ما كان في المناظرات السياسية الأمريكيّة، فكان مثلًا السيناتور جون ماكين يقول إبّان مناظراته مع باراك أوباما إنّ الأخير ينوي تحويل أمريكا إلى أوروبا اشتراكية وبالتالي ستدمّر أمريكا، وكما كان دونالد ترامب يستخدم أيضًا الاشتراكية كشتيمة، ويقول إنّ الحزب الديمقراطي قد سيطر عليه الاشتراكيون الذين يريدون تحويل أمريكا إلى فنزويلا أخرى، أما وهكذا الحال في دول أخرى كالبرازيل مثلًا فقد صرّح العسكري السابق جايير بولسونارو مرشح اليمين المتطرف عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية في البرازيل قائلاً: «سأغير مصير الدولة، فمن الآن وصاعدًا لا يمكن تحمّل الاشتراكية والشيوعية واليسار المتطرف ومغازلتهم»، وهذه الاتهامات كلّها تشبه ما وظفه السياسيون في إيران، فكلمة «الليبرالية» وُظّفت في إيران لدى بعضهم عدة عقود وظيفةَ شتيمة وإساءة.
في الحقيقة إنَّ اقتصاد إيران اقتصادٌ حكومي، نفطي، ريعيّ، فاسد، غير عادل، وصانع للفقر، وهو لا يخرج عن فضاء أحد هذين الفكرين: النيوليبرالية، أو الاشتراكية، وبالتأكيد لا يمكن إنكار أنَّ جميع خبراء الاقتصاد الذين كانوا يخطّطون فكريًا وعمليًا لحكومات رفسنجاني وخاتمي وأحمدي نجاد وحسن روحاني ليس من بينهم يساريوّن أو اشتراكيون، فأغلبهم كانوا يميلون لليبرالية والبعض للنيوليبرالية، أما محمود أحمدي نجاد فقد كان يرفض علم الاقتصاد بأكمله وكان يعدّه علانية ظاهرةً غربية، وبهذا فيمكن القول إنّ نتاج الاقتصاد الإيراني على مدى أربعين عامًا لم يكن سوى هيكل حكومي، ونفطِّي، يقوم على الريعية، ممّا كرّس للفساد وأدّى إلى تعميق الفجوة الطبقية.
في السابع والعشرين من أكتوبر الماضي قدّم حسن روحاني وزراءه الأربعة في المجال الاقتصادي (الاقتصاد، والصناعة، والنقل، والعمل) للبرلمان من أجل الحصول على الثقة، وقال مدافعًا عن هؤلاء الوزراء: «بصفتي مستأمنًا من قبلكم ومن قبل الشّعب، قمت بدراسة كل واحد من هؤلاء الوزراء لعشرات الساعات، وتشاورت حولهم، وبالطبع استخرنا خلال الأسابيع الأخيرة، ولم تكن نتيجة الاستخارة جيدة، وقد قمنا بدعوة البعض للتعاون معنا لكنهم قالوا بأنَّهم استخاروا ولم تكن النتيجة جيدة، والبعض الآخر قبلوا، لكنّ صوتهم كان يرتعش، وكانوا يتحدثون بتردُّد، كما كانوا يتساءلون كيف سيعملون بالنظر إلى كلّ هذه المشاكل؟ وفهمت من أصواتهم المرتعشة أنهم لا يمكنهم تحمل المسؤولية في هذه الظروف».
عادةً ما يكون الأشخاص المختارون لمثل هذه المناصب من بين خبراء الاقتصاد أو المهندسين، أي أنّهم خريجو جامعات، وأغلبهم مختصّون في العلوم الإنسانية، وكونهم يجمعون بين التكنولوجيا والمعتقدات الدينية والخرافات ليس بالأمر الصعب، لكن جمعهم بين العلوم الإنسانية-خاصةً علم دنيوي واقتصادي بالكامل-والقضايا الغامضة التي لا تخضع للأرقام، أمرٌ صعب تحقيقه.
يقول حسن روحاني إنّه اقترح الوزارة على المختصّين ـ من بين خبراء الاقتصاد في الغالب ـ لكنهم لم يقبلوا، والسبب هو أنهم استخاروا، والنتيجة كانت سيئة، فكأن روحاني يُقدّم تبريرًا لا عقلانيّ لرفضهم هذا المقترح؛ إذ إنّ الاستخارة ليست من مستلزمات هذه المناصب ولا علاقة لها بها، فالخميني الفيلسوف والفقيه ومرجع التقليد، الذي يفتخر أغلب فقهاء إيران بالتلمذة على يديه، ويعدّه خامنئي مرجعًا، لا يُدخل هذه المعتقدات الدينية في قراراته السياسيّة؛ إذ ذكر رفسنجاني أن رجلًا جاء إليه في زمن الحرب مع العراق، وزعم أنه مرتبط بإمام الزمان [المهدي]، وأنَّ بإمكانه الحصول على المساعدة منه للانتصار في الحرب، وعندما نقل رفسنجاني القصة للخميني، لم يقبل هذا الكلام، وقال: «أنا لا أقبل هذه الأمور، يا أيها المحتالون، انتهوا عن أفعالكم». وكذلك حينما طلب من القائد العام للحرس الثوري في زمن الحرب، محسن رضائي ـ وقد استقلّ متن طائرة فانتوم تابعة للجيش؛ لمقابلة الخميني في زمن الحرب ـ وطلب منه قائد الحرس أن «يستخير» قبل بدء العمليات الكبرى فردّ عليه الخميني: «الأمر ليس بحاجة لاستخارة، قوموا بدراسة الموضوع ومن ثمّ اتخذوا القرار».
ففي إنجاز أعمال الدولة لم يكن الخميني نفسه يلجأ لإمام الزمان ولا للاستخارة، حتى عندما أصدر الحكم بذبح السجناء السياسيين والمذهبيين في صيف 1988م لم يلجأ إلى شيء من ذلك، فقد أصدر حكم تلك الجريمة من تلقاء نفسه، في حين نجد سفير إيران في لبنان إبّان الحرب الأهلية، شيخ الإسلام، قد استخار مرات عديدة لاتخاذ القرارات.
والواضح ممّا سبق أن رفض بعض خبراء الاقتصاد لتقلّد الوزارة ليس لعجزهم أو لسبب الاستخارة التي ذكرها روحانيّ، وإنّما هم غير مستعدين للتعاون مع الحكومة لتدخّلات خامنئي والحرس الثوري والمؤسَّسات العسكرية وحسن روحاني شخصيًا والمتحدث باسم الحكومة الإيرانية محمد باقر نوبخت، ولكنَّ حسن روحاني كان يرمي من قوله هذه العبارة، إلى إلقاء الأمر كلّه على عاتق هؤلاء الخبراء؛ لتبرير اختيار وزراء جميعهم يفتقدون للتخصص.
إنَّ قرار روحاني بتوحيد سعر الصرف، وتحديده عند سعر 4200 تومان للدولار، لم يكن علميًا، أي أنه لا يقوم على أسُس علم الاقتصاد، كما لم يكن منسجم مع حقائق الاقتصاد الإيرانيّ منذ أربعين عامًا، فضلًا عن أنّه يتجاهل الأجواء السيئة الراهنة بعد خروج أمريكا من الاتفاق النووي، وببساطة كان قرارًا يقوم على الاستخارة.
قال حسن روحاني في البرلمان: «السيولة كانت ومازالت مشكلة في إيران، وإذا قمنا بعملية حسابية، نجد أن متوسط نمو السيولة قبل الثورة وصل بين عامي 1962 و1978 إلى 25%، وازدادت هذه النسبة بعد الثورة، حتى وصلت إلى 26% في بعض الأحيان، وفي الحكومة السابقة [حكومة أحمدي نجاد] كانت تصل أحيانًا إلى 27%، وفي حكومتي السابقة تراجعت إلى 24.4%، وفي عام 2017 كانت النسبة 22.1%، وتقريبًا يمكن أن أقول بأنَّ ألف مليار تومان (238 مليون دولار) يجب أن تُضاف يوميًا إلى معدل التضخم في إيران»، ولكن كيف يمكن كبح سعر الدولار بالنظر إلى حجم السيولة الكبير، ومعدل التضخم خلال الأربعين عامًا الماضية؟
لقد كان سعر البنزين في إيران خلال أربعين عامًا مضت يقوم كذلك على الاستخارة، وهذا القرار الذي يقوم على الاستخارة أدى إلى:
أ – انتشار ظاهرة تهريب البنزين إلى دول الجوار.
ب- ارتفاع معدل الاستهلاك.
جـ- تلوث شديد في الجو (خاصة مع المركبات التي تفتقد للمعايير).
د – هدر مئات المليارات من الدولارات لدعم الطاقة.
ولعلاج جميع هذه المشاكل لم يكن هناك حل سوى تحرير سعر البنزين، لكن عندما تنعدم الشجاعة اللازمة لاتخاذ القرارات الأساسية لصالح الدولة والناس، فالنتيجة هي أن تصبح «الاستخارة» أساسًا في إدارة الدولة، وهذه هي الشعبوية، لكنها شعبوية تقوم على الاستخارة، ولا شكّ أن تحرير قيمة البنزين سيؤدي إلى التضخم وإلحاق مزيد من الضرر بالطبقات الفقيرة، لكن «الشعبوية القائمة على الاستخارة» لم ولن تؤدّي إلى حلٍّ لبؤس إيران، فباستطاعة الحكومة تحرير سعر البنزين مع تقديم دعم غير نقدي للفئات الخمس الأدنى في المجتمع على سلّم التقسيم العشري، ومن بينها فئة العمال والمعلمين، أي تعينهم على ما يوفّر لهم احتياجات الحياة الأساسية، فالحلّ لهذه القضية هو «التمييز الإيجابي» (Positive Discrimination)، ولكن تظلّ السياسة المتبعة في تحديد أسعار الطاقة والتعامل مع الدولار هي أصدق مثالين لسياسة «الشعبوية القائمة على الاستخارة».
وما يجدر ذكره أنّ حسن روحاني هو الذي أسَّس لمراسم الحداد خلال اجتماعات مجلس الوزراء، في حين أن الدولة فيها من الوعّاظ ما يُغني رئيس الجمهورية عن الاجتهاد في ذلك، والسؤال الأهم هو: هل الحكومة هي مكانٌ لإقامة مراسم العزاء؟ وهل هذا الأمر من مهام رئيس الجمهورية؟ هذا مثال آخر على الشعبوية وسياسة الاستخارة.
لقد نبّه السياسي والاقتصادي الألماني وأحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث ودراسة الإدارة العامة في مؤسَّسات الدولة [صاحب تعريف البيروقراطية] ماكس فيبر، الجميع في بدايات القرن العشرين إلى أنّ العلم التجريبي الحديث قد نزع الأسطورة والشعوذة عن العالم والمجتمع، حين قال: «من لم يتحمّل هذا العالم، عليه اللجوء إلى الحوزات الدينية والكُنُس والكنائس والمساجد، فهناك سيُرَحَّبُ بهم أحسن ترحيب»، فالحكومات والدول تعمل بالعقل وعلم الحساب، إلا أنَّ نواب البرلمان الإيراني أنفسهم فضلًا عن الحكومة يتبعون «الشعبوية القائمة على الاستخارة»، إنَّ العبور من مرحلة الحكومة الفقهية التي تلجأ لـِ «الكائنات الغامضة المليئة بالأسرار»، شرطٌ للوصول إلى العقلانية والنهج العلمي، إذ لا يمكن حلّ مشكلات إيران بوجود حكومة فقهاء، وعلى خامنئي وحسن روحاني وسائر الفقهاء التوجّه إلى الحوزات العلمية لإقامة مراسم العزاء والاستخارة، ولن يعارض ذلك أحد، بل سيدعو لهم الجميعُ بالتوفيق.
مادة مترجمة عن موقع راديو فردا
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد