الأبعاد الوظيفية للعملية الانتخابية في السياسة الإيرانية

https://rasanah-iiis.org/?p=35500

مقدِّمة

تجرى الانتخابات الرئاسية الإيرانية المُقرَّر عقدها في 28 يونيو 2024م، بين ستَّة مرشَّحين منحَهم مجلس صيانة الدستور الحق في الترشُّح، وذلك من بين ثمانين مرشَّحًا تقدَّموا لخوض السباق الانتخابي. وبينما تمَّ استبعاد العديد من الأسماء البارزة، وبينما يبدو أنَّ النظام قد قام بعملية هندسة من أجل خلْق أجواء انتخابية تنافسية، وذلك بخلاف انتخابات عام 2021م، التي لم يُسمَح خلالها بوجود منافس حقيقي للرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، فإنَّ تشكيل المشهد الانتخابي والدفع بأحد الأسماء «الإصلاحية» وسط منافسين آخرين محسوبين على الجناح «المتشدِّد» في النظام، يفتح النقاش من جديد حول دور هذه الانتخابات كآلية ضمن تفاعُلات النظام السياسي الإيراني. وذلك بوصفه نظامًا استثنائيًا، يستند في تشكيل السُلطة إلى قِيَم ومبادئ تقليدية وأخرى حداثية في آنٍ واحد، وهي قِيَمٌ ارتبطت بطبيعة نشأة النظام والنظرية الدينية، التي يستند إليها في الحُكم، ومزجه بين التقاليد الإسلامية الشيعية وبين التقاليد الجمهورية الغربية، وهو الأمر الذي ترك تأثيرًا وتجاذبًا حول قضية السُلطة والشرعية السياسية المرتبطة بهذا النظام وآليات تشكيل بنيته.

فعلى مدى بضعٍ وأربعين عامًا، يبدو وكأنَّ النظام الإيراني حريص على إجراء انتخابات عامَّة لتشكيل مؤسَّسات الحُكم، بما في ذلك منصب الرئاسة والبرلمان والمجالس المحلِّية الشعبية، ورُبَّما شِهَدت هذه الانتخابات على مدى أعوام مشاركة شعبية واسعة، بنسبة تصِل في المتوسِّط إلى قرابة 60%، وهو ما يعتبرها النظام دليلًا على شرعية واسعة.

وقد يبدو الأمر للوهلة الأولى، وفي ظل هذه المشاركة الشعبية الكبيرة، والتي تراجعت في السنوات الأخيرة، منطقيًا، حيث لعِبَت هذه الانتخابات دورًا وظيفيًا في تجديد شرعية النظام مرَّةً بعد أخرى. لكن على أرض الواقع، لا يُرَى أنَّ أيًّا من تلك الانتخابات أسهمت في إحداث تغييرات جوهرية على سياسات النظام أو بنيته، فلم يحدُث على مدى أربعين عامًا تداوُلٌ حقيقي للسُلطة، وأخفقت برامج كافَّة الحكومات والرؤساء المُنتخَبون بفعل السُلطة العُليا الممثَّلة في المرشد وعدد من المؤسَّسات التابِعة له؛ «المؤسَّسات الموازية»، بل فُرِضت قيودٌ أشدّ صرامةً أمام وصول تيّارات بعينها إلى السُلطة. وحتى مع صعود تيّارات سياسية امتلكت بدورها تصوُّرات جديدة لأزمات المجتمع والدولة، لكن ما تلبث أن تتكشَّف الحقيقة؛ بأنَّ الانتخابات ما هي إلا آلية لتبادُل الأدوار داخل النُّخبة ذاتها، وأنَّ هذا النظام لديه تصوُّراته ومبادئه، التي لا يقبل تغييرها عبر صندوق الاقتراع، ولديه وجهات نظر في هؤلاء الذين يُفترَض أن يتنافسوا خلال هذه الانتخابات، التي ينظِّمها.

ولعلَّ من أبرز دلائل الفجوة بين ادّعاء النظام بأنَّ الانتخابات دليل شرعيته وشعبيته الواسعة وبين الواقع، هذا الحراك والتعبئة الاجتماعية الواسعة التي شهِدَتها إيران خلال السنوات الأخيرة والتي وجَّهت انتقادات واسعة للنظام ككُل، سواءً قياداته أو بنيته أو أفكاره وأيديولوجيته، وحتى توجُّهاته الداخلية والخارجية.

بناءً على ذلك، سوف تقدِّم هذه الورقة محاولةً لفهم الأبعاد الوظيفية للانتخابات، ضمن نظام إيران الاستثنائي، وذلك من خلال عدد من العناصر، هي: الدور الوظيفي للانتخابات الديمقراطية، ثمَّ الانتقال نحو تناوُل أبرز العوامل البنيوية المؤثِّرة على فعالية الانتخابات في إيران، وبعدها تناوُل كيفية توظيف النظام الإيراني للانتخابات وأهمّ مقاصده وأهدافه، وأخيرًا تناوُل انعكاسات غياب الفعالية الانتخابية على الواقع السياسي الإيراني.

أولًا: آلية الانتخاب وإشكاليات النظام السياسي الإيراني

أثَّرت توجُهات آية الله الخميني والنُّخبة الدينية، التي هيمنت على السُلطة على كافَّة التفاعلات السياسية بعد الثورة في إيران، هذا الواقع بدوره أثَّر على البيئة، التي تتِم فيها الانتخابات؛ ما أفرغها من مضمونها، وجعلها عمليةً صوريةً لا أكثر؛ ويُلاحَظ ذلك من خلال ما يأتي:

1. واقع دستوري غير ديمقراطي:

تقترن إشكالية الانتخابات في إيران بالنزاع على الديمقراطية في دستور إيران بعد ثورة عام 1979م، فبحلول أوائل عام 1979م، كان لدى لجنة من الفُقهاء وقُضاة الحقوق المدنية مسوَّدة تمهيدية أوّلية جاهزة للموافقة عليها.

احتوت هذه المسوَّدة على عدد من النقاط البارزة:(1) برلمان مُنتخَب بشكل شعبي يتمتَّع بسُلطة حصرية لتمرير القوانين. (2) عدم وجود «قيادات عُليا» أو أيّ نوع آخر من الهيئات الدستورية العُليا.(3) التمسُّك بقوانين الشريعة. (4) «مجلس صيانة الدستور» مكوَّن من ستَّة عُلماء مدنيين وستَّة من الفُقهاء، وهؤلاء يفحصون ما إذا كانت القوانين، التي يقرّها البرلمان تتّفِق مع الشريعة.

في البداية، دعم الخميني هذا الدستور، وأعلن للصحافيين في عدَّة مناسبات، أنَّه لا ينوي المشاركة في حُكم إيران، بل طرَحَ بدلًا من ذلك أن يكون مستشارًا روحيًا للأُمَّة؛ أي أنَّه كان لا يزال عند المرحلة، التي وَصَل إليها الفُقهاء في دستور 1906م. ووفقًا لممثِّليهِ، فإنَّ الفُقهاء لم يطلبوا دورًا أكبر في الدستور الجديد؛ وبالتالي كانت هناك قناعة بأنَّ الدستور الجديد سيكون ديمقراطيًا معبِّرًا عن إرادة الشعب([1]).

بعد مرور وقت قصير، اتّضح أنَّ دعْم الخميني لهذه المسوَّدة الدستورية الأولى كان سطحيًا، ونوعًا من المواءمة السياسية والمراوغة؛ لأنَّ الخميني بعد شهرين فقط من الإطاحة بالشاه، قام بتنظيم استفتاء شعبي يطلب من الناخبين أن يقرِّروا مسألةَ «هل سيكون شكل الدولة المستقبلية هو “الجمهورية الإسلامية” أم لا؟». وكانت تلك هي البداية الحقيقية لاندفاع الفُقهاء نحو لعِب دور أكبر في النظام السياسي، عبر فرْض وصاية كاملة على الدستور، بدلًا عن دور رقابي على التشريعات، كان دستور 1906م قد منحه إيّاهم، وكانت نسبة المشاركة عاليةً للغاية، وتمَّت الموافقة على الاستفتاء من قِبَل 98.2% من الناخبين، في ظل حشْدٍ ارتبطَ بالأجواء الثورية، في ذلك الوقت.

وقد عمِلَت الجمعية الجديدة على تقويض المسوَّدة الأولى، وتبنَّت بدلًا من ذلك نسخةً جديدة عزَّزت كثيرًا سُلطة الخميني والفُقهاء، وجعلت مركزية السُلطة السياسية في أيدي الفُقهاء، وفقًا لنظرية ولاية الفقيه، وخلال الاستفتاء الذي جرى على المسوَّدة الجديدة، بعكس الاستفتاء الأول، كانت هناك اتّهامات واسعة النطاق حول عدم نزاهة العملية برُمّتها([2]).

في النسخة المعدَّلة، قام مجلس الخُبراء، الذي كان يتألَّف من أكثر من 80% من الفُقهاء، بتعديل مشروع الدستور، ولم تتّفِق نصوص هذا الدستور مع متطلَّبات بناء ديمقراطية حقيقية، وضمن ذلك لم يضمن شروطًا واقعية لعملية انتخابية سليمة، بل أوجد تحدِّيات حقيقية أمام إجراء انتخابات تتّسِم بالنزاهة والشفافية. وبهذا، تحوَّلت ضمن هذا النظام الانتخابات إلى عملية ديكورية أو شكلية؛ لإضفاء شرعية شكلية على السُلطة، وإلى آليةٍ وظيفية لخدمة الاستبداد والقمع ([3]).

2. الطبيعة الثيوقراطية للنظام السياسي:

أتاحت الموافقة على الاستفتاء لصالح الدولة الإسلامية بنسبة 92% الفُرصة لتأخذ الخمينية السياسية (ولاية الفقيه العامَّة/المُطلَقة) شرعيتها في الحُكم، عبر الالتزام بتشكيل حكومة يرأسها الولي الفقيه، تطبِّق بدورها أحكام الإسلام المعطَّلة حتى ظهور الإمام الثاني عشر. حيث اعتبر الخميني أنَّ إقامة تلك الحكومة هي توأم الإيمان بالولاية، وفرْض كفاية على الفُقهاء؛ أي وصلت ولاية الفقيه إلى مرتبة الأحكام الدينية الواجبة التنفيذ، وهذه الحكومة بحسب الخمينية واجبة الطاعة من جانب الأتباع([4])، وقد نصَّ الدستور على إقامة هذه الحكومة.

بهذا استوفت الحكومة، في ظل ولاية الفقيه، شروطَ الحُكم الثيوقراطي، بعدما أصبح الفقيه/ولي الله/نائب الإمام على رأس النظام الجديد. وتكفي في الوثيقة الدستورية الأوصاف، التي تمتَّع بها الخميني -القائد الفقيه- لتُعطي انطباعًا عن نمط الحُكم الفردي، الذي اعتمدهُ الدستور؛ فالخميني هو: الفقيه الأعلى، والقائد الأعلى، ومرشد الثورة، ومؤسِّس «الجمهورية الإسلامية»، وملهم المُستضعَفين، وإمام الأُمَّة الإسلامية. وقد انسحبت بعضٌ من هذه الأوصاف لخليفته علي خامنئي؛ فوفقًا لموقعه في الدستور، فإنَّه الحاكم الفعلي والمشرف على كافَّة السُلطات وهو حاكم أبدي، ليس للشعب أو للمؤسَّسات سلطان على قراراته أو توجُّهاته. ففي كتابه «الحكومة الإسلامية»، يقول الخميني: «تملك الحكومة الإسلامية في زمن الغيبة تفويضًا إلهيًا للنهوض بدورها، كما كان للنبي وللأئمَّة من بعده»([5]).

أصبح من الصعب الحديث عن انتخابات حقيقية؛ ففي ظل الفردانية والشخصنة، التي اتّسم بها النظام الإيراني، لا تُوجَد بيئة حقيقية لإقامة انتخابات ديمقراطية، ولا مجال للحديث عن حُكم القانون، ولا حتى هناك مجالٌ للحديث عن سُلطة مقيَّدة بدستور يخضع له الحُكّام والمحكومون على السواء. فسلطات المرشد فوق دستورية، وليست هناك مساءلة سياسية، حيث تسند السُلطة الفعلية لهيئات غير مُنتخَبة، بل لا يُوجَد نظام قضائي مستقِلّ لحماية الأفراد والإشراف على تطبيق القانون؛ فمن يعيِّن رئيس السُلطة القضائية هو المرشد؛ وبالتالي يخضع الحُكّام المُنتخَبون لسيطرة ورقابة الهيئات غير المُنتخَبة، والتي تملك السُلطة الفعلية، وعلى رأس هذه الجهات المرشد، بما يملكه من مكانة وشرعية تُوصَف بأنَّها إلهية، تجعل قراراته غير قابلة للمراجعة.

3. وصاية الفُقهاء:

لا يملك المواطنون في ظل الدستور الإيراني حق المشاركة في صُنع القرارات السياسية؛ فباسم الدين أصبح الفُقهاء يمتلكون وصايةً كاملة على النظام والمجال العام، والولي الفقيه على قمَّة الهرم السياسي هو الضامن للدستور وللحُكم الديني، وهو المرجع المحدَّد لتطابق النظام مع تعاليم الإسلام الحقيقية، فضلًا عن أنه موجِّهٌ لكل السياسات، ورأس كل المؤسَّسات، لديه صلاحيات مُطلَقة ويبقى قائدًا فوق القانون وفوق الإرادة الشعبية. فهو يستمِدّ سُلطته من النيابة عن الإمام والتكليف من الله، بل أصبح في ظل الولاية المُطلَقة له حق تخطِّيهِما، ويحتفظ لنفسه بمعرفة الحقيقة واحتكار الصواب، وهو قائد ديني ولديه مهمَّة مقدَّسة لحين ظهور الإمام. وقد أشار إلى هذه المهمَّة الدستور، بأنَّه «تمشِّيًا مع ولاية الأمـر والإمـامـة، يُهيِّئ الدستور الظروف المناسبة لتحقيق قيادة الفقيه جامع الشرائط، الذي يعترف به الناس قائدًا لهم (…)، وبذلك يضمن الدستور صيانة الأجهزة المختلفة من الانحراف عن وظائفها الإسلامية الأصيلة»([6]). ويتّفِق هذا مع ما جاء في كتاب «الحكومة الإسلامية»: «القانون آلة ووسيلة لتحقيق العدالة في المجتمع، وسبيل لتهذيب الإنسان خُلُقِيًا وعقائديًا وعمليًا، وقيادتهم إلى سعادة الدنيا والآخرة، ويُناط بالفُقهاء منصب القضاء وتنفيذ أحكام القانون»([7]).

كما أنَّ حق التنافس للوصول إلى السُلطة غير مُتاح، في ظل غياب مبدأ تداوُل السُلطة، الذي انحسر في تنافُس شكلي بين قُطبي النخبة الحاكمة؛ «الإصلاحيون» و«الأُصوليون»، الذين ينتمي كلاهما إلى الطبقة الحاكمة المؤيِّدة لـ «ولاية الفقيه». وبهذا يختفي مبدأٌ دستوريٌ أصيل، وهو أنَّ الشعب مصدر كل السُلطات، والذي يَظهر في قيام مجلس صيانة الدستور بحرمان المواطنين من الترشُّح وخوض المنافسات الانتخابية، على أساس تمييز ديني وثقافي وسياسي، وخدمةً لهيمنة فصيل سياسي على السُلطة.

لقد طغت الأيديولوجيا في إيران على الاعتبارات الدستورية والقانونية؛ فشرعية الدستور نفسه مُستمَدَّة من تأويلات دينية وافتراضات غيبية حول عودة الإمام، وبهذا فإنَّ المصدر الحقيقي للسُلطة ليس الشعب، ولكنه ترتيبًا، هو الله ثمَّ الإمام، ثمَّ الولي الفقيه صاحب السُلطة المُطلَقة، حتى رئيس السُلطة التنفيذية يحدِّد الدستورُ انتماءاته واعتقاداته، فهو يجب أن يكون من «الرجال المتديِّنين السياسيين، الذين يتمتَّعون بالأمانة والتقوى»، وأن يكون مؤمنًا ومعتقِدًا بمبادئ «الجمهورية الإسلامية» وبالمذهب الرسمي للبلاد، وهو المذهب الاثنى عشري.

كما أنَّ سقف عمل كافَّة السُلطات مرتبط بالسقف الذي تحدِّده القيادة الدينية، فهو مشرف على عملها ويملك من الأدوات ما يمكن أن يفرِّغ سياساتها من مضمونها، ولا مشروعية للمؤسَّسات التشريعية المُنتخَبة، ولا قُدرة لديها للتعبير عن استقلاليتها في ظل القيود المفروضة عليها من مجلس صيانة الدستور.

طالت وصاية الفُقهاء المجتمع، من خلال سقف «مبادئ الثورة الإسلامية»، ودور الدولة ومهمَّتها، التي كرَّسها الدستور، فلم تعُد الدولة وسيلةً للتعبير عن مصالحهم وطموحاتهم وممثِّلةً لفئاته، بل إنَّ المجتمع مجبور على حماية الثورة والدفاع عن مبادئها، وتحمُّل تبِعات هذه الأيديولوجيا الدينية، التي أصبحت ركيزةً أساسية في بنية المجتمع وثقافته ومؤسَّساته.

وباعتبار أنَّ آلية الديمقراطية توفِّر الفُرصة للتعبير عن برامج وقِيَم وأفراد متنافسين، فإنَّ الوصاية لا تدع مجالًا لأيّ نوع من أنواع التنافس؛ فالأُسُس النظرية التي استمَدَّ منها النظام قيِمَه، تَعتبر المرشد بمثابة القيِّم على الصغار، ومن ثمَّ فإن احتكاره للحقيقية يفرض نفسه على الواقع، بصرف النظر عن وجود عملية تنافُسية شكلية تجسِّدها الانتخابات.

4. تحييد دور المجتمع:

لم يُنشِئ الدستور عقدًا اجتماعيًا يعكس إرادة الأُمَّة/الشعب، ويضمن حق المشاركة والتمثيل، بل كرَّس حُكم أقلِّية، وجعَلَ المواطنين في مواجهة السُلطة مجرَّد رَعايا؛ لأنَّه كان دستور المتغلِّبين في الحوزة، وعلى المستوى العِرْقي والمذهبي، حيث لا تتمتَّع الأقلِّيات الدينية والعِرْقية بكامل حقوقها. وانعكس ذلك على ولائها، وبات تماسُك الدولة مهدَّدًا نتيجةً لهذا التهميش والإقصاء المُتعمَّد للسُلطة المتغلِّبة مذهبيًا وعِرْقيًا، وحتى الحقوق التي أقرَّها هذا الدستور، عُطِّلت ولم تجد طريقها لدخول حيِّز التنفيذ([8]). فلا تملك كل الأقلِّيات حقَّ التمثيل النيابي، ولا يحَقّ أن يترشَّح لـ «رئاسة الجمهورية»، سوى المؤمن بالمذهب الشيعي الاثنى عشري، وبولاية الفقيه. وعلى الرغم من بعض الحقوق الدستورية، لكن واقعيًا هناك غيابٌ لأيَّة ضمانات فعلية للحرِّيات السياسة والاقتصادية والاجتماعية، حيث تعاني الأقلِّيات ضغوطًا وسياسات تمييزية، وتهميشًا وإقصاءً سياسيًا.

5. هيمنة المؤسَّسات الموازية على القرار السياسي:

كان للطبيعة الاستثنائية للنظام، الدور في خلْق مؤسَّسات سياسية موازية يهيمن بها المرشد على النظام السياسي، ويقوِّض من خلالها المؤسَّسات المُنتخَبة؛ فالاستثناءات المقرَّرة في الفصل التاسع تحرم السُلطة التنفيذية من القُدرة الفعلية على ممارسة مهامها وتحمُّل مسؤولياتها، إذ إنَّ الرئيس لديه صلاحيات واسعة، لكن صلاحيات المرشد الأعلى يمكن أن تجُبَّ هذه الصلاحيات وتلغيها([9]). كما أنَّ الحصول على حق دخول معترك الانتخابات سواءً للرئيس أو أعضاء مجلس الشورى، تسبقه عمليةُ فلترة غير مباشرة تسبق عملية المنافسة وتلحق بعملية التقدُّم بأوراق الترشُّح، بما يجعل قنوات التمثيل السياسي المُتاحة داخل النظام على المستويات الوطنية والمحلِّية مفتوحةً فقط أمام العناصر المقبولة لدى القيادة ممثَّلةً في المرشد، ويقوم بهذا الدور تحديدًا مجلس صيانة الدستور، الذي يختار المرشد نصف أعضائه ويرشِّح النصف الآخر رئيس السُلطة القضائية، الذي يعيِّنه المرشد. حتى السُلطة التشريعية تظل مقيَّدة، في ظل صلاحيات هذا المجلس، حيث تنُصّ المادَّة 93 من الدستور، على أنَّه «لا مشروعية قانونية لمجلس الشورى الإسلامي دون وجود مجلس صيانة الدستور، عدا ما يتعلَّق بإصدار وثائق عضوية النوّاب، وانتخاب ستَّة أعضاء حقوقيين لمجلس صيانة الدستور» ([10]).

خلال الثمانينات، عندما تحوَّلت ممارسة حق النقض من قِبَل مجلس صيانة الدستور ضدّ التشريعات، التي أصدرها مجلس الشورى إلى طريق مسدود بين المؤسَّستين، تمَّ حل هذا المأزق من قِبَل المرشد الأعلى، عن طريق إنشاء هيئة قوية ثالثة تتكوَّن من تسعٍ وثلاثين شخصية سياسية ودينية واجتماعية معيَّنة، تُسمَّى مجلس تشخيص مصلحة النظام، وتتمتَّع بسُلطة الفصل في النزاعات على المؤسَّستين. في عام 2005م، أصبح هذا المجلس بمثابة هيئة إشرافية على جميع فروع الحكومة، وأيضًا كمستشار للمرشد الأعلى، وعُدَّ بذلك هيئةً إضافيةً معيَّنة تُضاف إلى العملية التشريعية؛ ما يحِدّ من سُلطة مجلس الشورى ومن تنفيذ الحكومة لبرامجها.

6. هندسة المنافَسة بين القُوى السياسية المتنافِسة:

خلقت محاولة إضفاء طابع متوازن على الدستور ليكون عصريًا، شكلًا فجًّا من التناقضات، فضلًا عن فجوة كبيرة بين النص والواقع، حيث يتألَّف النظام السياسي من قُطبين متقابلين: الشريعة (القانون الإسلامي)، و«الجمهورية» (إرادة الشعب). في حين ترمز الانتخابات إلى «الجمهورية» (حُكم الشعب)، تمثِّل الشريعة القُطب الديني للبِنية السياسية، التي تضمن حُكم الفُقهاء وتقوِّض دور الشعب. وإذا كانت كلمة «الجمهورية» تعني «دولة ديمقراطية حديثة» ترتكز على سيادة الشعب، والتمثيل والمشاركة من خلال الاقتراع العام، والفصل بين السُلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، فإنَّ «الجمهورية الإسلامية» من الواضح أنها تناقض ذلك تمامًا، بل يتناسب بصورة واضحة معنى «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» مع البِنية التقليدية الشيعية([11]).

هذه البِنية التقليدية انبثقت عنها مجموعات/تيّارت سياسية من الإسلاميين «المحافظين» و«الإصلاحيين»؛ و«المحافظون» هُم من يتابعون خط الإمام بصرامة، وداخلهم هناك من يتّبعون الخط الأكثر تشدُّدًا ومن يتابعون خطًّا معتدِلًا، في حين أنَّ «الإصلاحيين» يجتهدون لتقديم نموذج ديني إصلاحي قابل للتكيُّف مع العصر، دون الخروج عن النهج العام للمرشد. على هذا الأساس، يمكن تصنيف الفصائل السياسية في إيران إلى فصيلين رئيسيين؛ الأول «المحافظين»، الذين يدعمون هيمنة المرشد الأعلى ويسعون إلى الحفاظ على الأيديولوجيا الدينية في الساحة السياسية، و«الإصلاحيين»، الذين يدعون إلى مزيد من الحرِّية والديمقراطية في النظام التشريعي داخل حدود الإسلام. هذا التقسيم مؤثِّر في تحليل العملية الانتخابية في إيران؛ لسببين: الأول أنَّه يعكس المكانة العُليا للدين في تحديد المشهد السياسي في إيران، والثاني، أنَّ التاريخ السياسي ودستور إيران بعد الثورة لا يتغاضيان عن العلمانية والأحزاب السياسية الليبرالية، لكن باستثناء عدد قليل من اليساريين والليبراليين، فإنَّ الساحة السياسية تحتلَّها تمامًا أنماط متنوِّعة من الإسلام الشيعي([12]).

أدَّى هذا الواقع إلى تحويل الانتخابات في إيران إلى مشهد يبدو أنَّه حيويٌ شكليًا، بصرف النظر عن نتائجها وانعكاساتها المحدودة على ديناميات العملية السياسية. ويعود ذلك إلى إظهار الانتخابات لبعض الانقسامات ذات الطابع الديني بين التيّارات السياسي؛ ما يحفِّز المشاركة الجماهيرية بصورة ملفتة للنظر([13]).

هكذا، على مدى أربعين عامًا، بدا المشهد الانتخابي وتفاعُلات القُوى المتنافسة فيه على هذا النحو، متناقضًا وإقصائيًا، وفي ظل هذه التركيبة الطائفية متعدِّدة الولاءات، مع اتفاقها جميعًا على النظام الثيوقراطي القائم، فإنَّه يمكن فهْم محدودية تأثير العملية الانتخابية في المشهد السياسي الإيراني، وفي صُنع القرارات السياسية في الداخل والخارج.

ثانيًا: دور الانتخابات في السياسة الإيرانية

يوظِّف النظام الإيراني الانتخابات لتحقيق عدد من المقاصد، التي تدعم استمرارهُ وتحافظ على بقائه. ومن أهمّ هذه المقاصد، ما يأتي:

1. الحفاظ على الانتخابات كآلية صورية للتمثيل السياسي:

تكتسب القرارات، التي تتّخذها الدولةُ المشروعيةَ بافتراض أنَّها تعِّبر عن المصالح الأكثر أهمِيةً للمجتمع، بوصف الشعب هو مصدر السُلطة، لكن بعدما جاء الخميني إلى السُلطة بمشروعه الديني، قوَّض المفهوم المستقِرّ بأنَّ الشعب مصدر السُلطة([14]).، بل ألغى الإرادة الشعبية وجعلها رهينةً لإملاءات إلهية، وأصبحت السُلطة في يده، بوصفه إمامًا للزمان ومندوبًا عن سُلطة أعلى. فالولي الفقيه حاكم أبدي وغير مُنتخَب، ويمارس سلطات غير محدودة بلا مساءلة أو محاسبة، بل يملك الحق في عزْل الممثِّلين الشعبيين المُنتخَبين أيًّا كانت مواقعهم، لما يبدو أنَّه يمثِّل ردَّةً سياسيةً كُبرى كرّست لحُكم الفُقهاء، ولم تكرِّس لحُكم الشريعة، وأعطت الفُقهاء قداسةً في مواجهة الشعب/الأُمَّة([15]).

بهذا لم تعُد هناك حدود فاصلة بين شخص المرشد والسُلطة، التي يفترَض أنَّها وظيفة يؤِّديها وفقًا لتفويض شعبي وليس إلهي، وأصبحت هذه السُلطة تمارس على غير رضًا من المواطنين ودون قبولهم. إن التأثير المباشر من المؤسَّسات الموازية* على العملية الانتخابية، بما فيها انتخابات «رئاسة الجمهورية» والانتخابات البرلمانية، وكذلك انتخابات مجلس الخبراء، الذي يتولَّى تسمية المرشد، تحصر عملية الاختيار والانتخاب في أشخاص بعينهم، وفق تقييم أيديولوجي مذهبي؛ وبالتالي تفرِّغ الانتخابات من مضمونها الديمقراطي، ولا تجعل الحاكم الفعلي يستمِدّ مشروعيته من صناديق الاقتراع. هذا الواقع خلَقَ فجوة اتّسعت مع الوقت بين الناخبين والسُلطة، حيث أصبح المواطنون مجرَّد متلقِّين ومنفِّذين للقرارات، وغير مشاركين أو ممثِّلين في السُلطة فعليًا.

إلى جانب ذلك، يستخدم النظام الإيراني الانتخابات لإظهار الدعم الشعبي له، لكن الانتخابات الإيرانية تفتقد إلى معايير النزاهة، حيث يلعب النظام دورًا في عملية حشْد الناخبين وتعبئتهم للإدلاء بأصواتهم، ويستخدم المال السياسي في مراحل العملية الانتخابية المختلفة، كما تُستخدَم الحوافز المادِّية والمعنوية، لا سيّما في ظل المحسوبية، التي يقوم عليها النظام بسبب تطابق نموذجه السياسي مع البِنية التقليدية الشيعية، ومن ضمنها علاقة مراجع التقليد بالأتباع، وتوزيع الموارد، التي يبرز خلالها دور زكاة الخُمس ضمن أدوات كسْب التأييد والولاء وتوجيه الناخبين. وفق هذا المنطق، لا تعبِّر هذه الانتخابات عن إرادة المواطنين جماعيًا أو فرديًا، بل تعكس طبيعة علاقة المواطنين بالسلطة، والقائمة على الترهيب أو الترغيب، ولا توفِّر الرضا العام عن السُلطة؛ وبالتالي تُضعِف شرعية الحُكم([16]).

لا شكَّ أنَّ توسُّع الدولة في التعبير عن مصالحها، بغضِّ النظر عن المصالح الأوسع للمجتمع، يُعَدُّ من أبرز عوامل ضعْف شرعيتها، ولأنَّ الدولة في إيران قد تحكَّمَ فيها الفُقهاء وطرحوا من خلالها مشروعهم العقائدي، وغابت نزاهة الانتخابات وفعاليتها كآلية لترسيخ الديمقراطية؛ فإنَّ الدولة تجاهلت المصالح الأوسع للمجتمع، وتعرَّضت شرعية الدولة لخللٍ جسيم.

2. المنافسة الشكلية وإعادة تدوير النُّخبة:

تختار الهيئة الناخِبة في إيران ممثِّليها في البرلمان و«رئاسة الجمهورية»، بعد أن يقوم النظام من خلال مجلس صيانة الدستور بعملية فلترة مُسبَقة للمرشَّحين وتحديد مدى صلاحيتهم([17]). لا تُوجَد معايير محدَّدة لضبط مسألة الصلاحية، بل نَّها تستند في الأغلب إلى معايير لها صِلة بالالتزام الأيديولوجي، وبخط ولاية الفقيه، حيث يُبطِل مجلس صيانة الدستور ترشيح العديد من المرشَّحين، إذا كان يعتقد أنَّ المرشح ليس مخلصًا للنظام([18])، ومن ثمَّ فإنَّ الناخبين مضطرَّين للاختيار بين مرشَّحين محدَّدين مُسبَقًا. وهُنا يبدو مبدأ التفويض الشعبي محل شكّ، حيث لا يُدين هؤلاء الحُكّام والممثِّلين بالفضل في اختيارهم للشعب، بل يكون ولاؤهم للحاكم، الذي مكَّنهم من خوْض المنافسة من الأساس.

من جهة ثانية، لا تضمن هذه القواعد وجود تعدُّدية حقيقية، بل إنَّها تصادر كل الآراء المخالِفة مُسبَقًا، وتحصر المنافسة السياسية بين عناصر غير مختلفة أيديولوجيًا وسياسيًا، وتبقى أغلبية التيّارات السياسية خارج المشهد السياسي، أو على هامشه. ويظهر الطابع الأيديولوجي في شروط تولِّي المناصب العُليا في الدولة، فعلى سبيل المثال تنُصّ المادَّة (115)، التي تحدِّد الشروط التي ينبغي توافرها في المرشَّح لمنصب «رئيس الجمهورية»، على أن يكون من «الرجال المتديِّنين السياسيين، الذين يتمتَّعون بالأمانة والتقوى»، وأن يكون مؤمنًا ومعتقِدًا بمبادئ الجمهورية الإسلامية والمذهب الرسمي للبلاد، وهو المذهب الاثنى عشري([19]). وأخيرًا، لا تجِد الأقلِّيات فُرصةً للتمثيل الحقيقي في مجلس الشورى، أو المجالس الإقليمية والمحلِّية، بل تعاني هذه المجالس المُنتخَبة من الضعف في مواجهة المؤسَّسات الموازية.

لا شكَّ أنَّ هندسة المنافسة قضية مثيرة للجدل في إيران، تتجدَّد مع كل انتخابات، تطرح معها تساؤلات حول هدف النظام من تفصيل عملية منافسة بين تيّارات سياسية من داخل النظام، هل هي لتعزيز عملية المشاركة السياسية، أم لخلق جناح في السُلطة فعليًا لا يملك السُلطة، لكنّه يتحمَّل المسؤولية السياسية وقت الأزمة. على أيّ حال، لا تُنتِج هذه التنافسية إلا عملية تدوير للنُّخَب «الإصلاحية» و«الأُصولية»، تحت مظلَّة الحُكم الفعلي للمرشد ومؤسَّساته القوية.

3. ضمان البقاء وعدم تداوُل السُلطة:

لا توفِّر الانتخابات الإيرانية فُرصةً لتداوُل السُلطة؛ وبالتالي فإنَّها لا تؤِّدي دورها الوظيفي في امتصاص الاحتقان الداخلي، وتهدئة التوتُّرات السياسية؛ فلا تزال الانتخابات آليةً للتنافس بين أعضاء النُّخبة الدينية التابعة للولي الفقيه. لا شكَّ أن ذلك قد انعكس بصورة مباشرة على طبيعة الصراع السياسي؛ فهناك تنافس شكلي خالٍ من المضامين والأفكار الكُبرى المرتبطة بمعالجة القضايا السياسية والاقتصادية على وجه التحديد([20])، كما أنَّ هناك عدم قبول بنتائج الانتخابات، كما حدث فيما يُعرَف بـ «الحركة الخضراء»، التي أعقبت الانتخابات الرئاسية في عام 2009م، احتجاجًا على ما اعتبرته الجماهير عملية تزوير لنتائج الانتخابات، وما ترتَّب عليها من قمْع واسع النطاق للمحتجِّين.

إنَّ الانتخابات الإيرانية لا توفِّر الفُرصة لتغيير خريطة القُوى السياسية، ولا تبديل المراكز السياسية بين مختلف عناصر النُّخبة، ولا يعود ذلك لمواقف وخيارات الناخبين الثابتة، بل يعود إلى التدخُّل في العملية الانتخابية، والتأثير على مجرياتها بأدوات قهرية أو ترغيبية. إنَّ الشعب الإيراني لديه انتخابات فعليًا، وقد يكون بعضها نزيهًا إلى حدٍّ ما، لكنّه ليس لديه فُرصة لتغيير النُّخبة الحاكمة بأيّ صورة، وفق منطق وقواعد الانتخابات، التي تُجرى حاليًا.

فعلى الرغم من وصول بعض الشخصيات «الإصلاحية» إلى السُلطة، لكن الدستور نفسه قيَّد قُدرة هؤلاء، في ظل سلطة الإشراف الواسعة للمؤسَّسات التابعة للولي الفقيه أو للولي الفقيه نفسه، حيث تنُصّ المادَّة 99، على أنَّه «يتولَّى مجلس صيانة الدستور الإشراف على انتخابات مجلس خبراء القيادة و”رئيس الجمهورية”، وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي، وعلى الاستفتاء العام». لهذا، فإنَّ الحكومات قد تعاني من الشلل؛ نتيجةً للتناقض الدستوري، الذي ينُصّ على حُكم إيران الديني وشبه الديمقراطي على حدٍّ سواء، فهناك تناقُض بين الممثِّلين المُنتخَبين للشعب وممثِّلي الله/الإمام غير المُنتخَبين. فعلى سبيل المثال، سُمِح لـ «الإصلاحيين»، مثل محمد خاتمي، بالصعود السياسي بناءً على أفكار أكثر تقدُّمية، ومن داخل مؤسَّسات النظام، لكن النظام نفسه قيَّد حركتهم في النهاية، وأعادَ إنتاج النظام الاستبدادي بصور مختلفة، ورُبَّما أكثر تشدُّدًا.

4. تجديد الشرعية السياسية:

على الرغم من أنَّ النظام الإيراني استبدادي، لكنه يحتاج إلى الانتخابات لإضفاء شرعية على نفسه. ليس هذا وحسب، بل إنَّ الانتخابات تقوم بدور أساسي في التغطية على الازدواجية، التي يمتاز بها هذا النظام، حيث تُشكَّل السُلطات التنفيذية والتشريعية بناءً على انتخابات شعبية على مستوى الرئاسة وعلى مستوى المجالس المُنتخَبة جميعها، لكي يبدو أنَّ هذا النظام ديمقراطي، وأنَّ هذه الحكومة تعكس إرادة الناخبين، وتخضع لإرادة الشعب، من خلال مبدأي التنافسية ودورية الانتخابات.

لكن في الواقع سُلطة الحُكّام والممثِّلين المُنتخَبين مقيَّدة، وغير قادرين عن التعبير عن مطالب المواطنين، حيث تُوجَد في إيران مؤسَّسات غير مُنتخَبة، هي المتحكِّم الرئيسي في العملية السياسية، وكافَّة تفاعلاتها على كافَّة المستويات الوطنية والمحلِّية، في شكلٍ فجّ ومعقَّد يفتقد إلى التوازن بين السُلطات، ويفتقد إلى قواعد المراجعة والمسؤولية.

بناءً على ذلك، أصبحت الانتخابات في ظل النظام الجديد آليةً شكلية لإضفاء طابع ديمقراطي على نظام استبدادي بالأساس، وفُرِّغت من مضمونها، إذ لم ينتج عن أيٍّ منها شرعيةُ تمثيلٍ حقيقي للناخبين. فطبيعة النظام بالأساس لا تفترض ولا تتيح إنتاج أيّ شرعية حقيقية منافسة لشرعية الولي الفقيه، سواءً عبر آلية الانتخابات أو غيرها، ولا شكَّ أنَّ الحاجة إلى شرعية صورية، هي ما تدفع النظام الإيراني إلى الحفاظ على دورية الانتخابات، دون اهتمام حقيقي بأن تكون مصدرًا حقيقيًا لتجديد الشرعية.

ضمن هذه الانتخابات، يطرح النظام أيديولوجيته المهدَّدة وقُدراته على صمود ومواجهة التحدِّيات الخارجية، والعداء للولايات المتحدة، والصراع بين الإسلام والغرب، والحروب الخارجية، كقضايا مركزية لحشد الجماهير في الانتخابات، في الوقت نفسه هي بديلٌ عن الانتخابات الديمقراطية التنافسية، حيث يوظِّف النظام صراعاته الخارجية وأيديولوجيته لإضفاء شرعية شعبية على بقائه وعلى قراراته وسياساته.

في الواقع، لا حديث عن انتخابات في بيئة لا تتمتع بحرية العمل العام وحرية التنظيم، فرغم أن المادة 26 نصّت على السماح بتكوين الأحزاب والجمعيات والهيئات السياسيَّة وأنها تتمتع بالحرّية، بما فيها ما يخص الأقليّات الدينية، ولكن «بشرط ألاّ تتناقض مع الوحدة الوطنيَّة وأُسس الجمهوريَّة الإسلاميَّة والقيم».

كما أنَّه لا حديث عن انتخابات في ظل غياب حرِّية التجمُّع، والذي يُعَدُّ مقيَّدًا بحُكم المادَّة 27، التي تنُصّ على جواز عقْد الاجتماعات العامَّة وتنظيم المسيرات، على ألا تكون «مُخِلَّةً بالأُسُس الإسلامية»، وهذه الحقوق كلها بقيت نظريَّة وأُفرغَت من مضمونها بالقوانين، التي أُقِرَّت فيما بعد. كما أنَّ حقوق الأقلِّيات وكل ما يتعلَّق بالمواطنة الكاملة ومشاركة المرأة جاء مُلتبِسًا، لتأتي القوانين الناظِمة فيما بعد وتضع حدودًا ضيِّقة لمشاركة الأقلِّيات غير المسلمة في الدولة، ولتنتقص إلى أبعد الحدود من المشاركة السياسية للمرأة، ولتقلِّص المشاركة والحقوق لأبناء المذاهب الإسلامية غير الجعفرية في الحكومة والقرار السياسي([21]).

ثالثًا: انعكاسات غياب الفعالية الانتخابية على الواقع السياسي الإيراني

انعكست التوجُّهات الاستبدادية، التي تبنَّتها الدولة بصورة أساسية على وظيفة الانتخابات، ودورها داخل النظام السياسي الإيراني؛ وبالتالي على شرعية هذا النظام، وذلك على النحو الآتي:

1. التمرُّد على الدولة بدلًا عن تهدئة التوتُّرات والصراعات السياسية:

عدم نزاهة العملية الانتخابية والمنافسة في إيران يُبقي على حالة الاحتقان الداخلي والتوتُّرات الاجتماعية والسياسية، حيث لا يشارك المواطنون فعليًا في عملية صُنع القرارات السياسية، ولا يُعتَدّ بواقعهم وآرائهم. والمعروف أنَّ ضعْف مصادر الشرعية يؤدِّي غالبًا إلى السخط وعدم الرضا الشعبي، وهذا الخلل ينعكس في تفشِّي حالة من التمرُّد والخروج على الدولة، وهذا واضحُ من تاريخ إيران خلال الأربعين عامًا الماضية، منذ ثورات الأقلِّيات في الثمانينات، واحتجاجات الطلبة في 1999م، واحتجاجات 2009م، واحتجاجات 2017م، واحتجاجات الوقود في 2019م، واحتجاجات المياه في 2021م، ومظاهرات 2022م إثر مقتل مهسا أميني، وغيرها من مظاهر الخروج غير السِلْمي على السُلطة في الأطراف المهمَّشة سياسًا واقتصاديًا واجتماعيًا.

ورُبَّما أنَّ تقلُّص الفارق الزمني بين الاحتجاجات واسعة النطاق، التي شهِدتها إيران خلال السنوات الأخيرة، يؤكِّد على تآكل كبير لمصادر شرعية النظام، هذا ناهيك عن نمو الاحتجاجات الاجتماعية ذات الطابع الفئوي، والتي تعكس المظاهر والأبعاد المتعدِّدة لأزمة الشرعية، التي بات يعاني منها النظام الإيراني، حيث أنَّ هذه الاحتجاجات، منها ما هو سياسي وما هو اقتصادي وما هو اجتماعي.

2. القمع بديلًا عن الاستيعاب:

في ظل انسداد الأُفُق السياسي، وإغلاق المجال أمام التعبير عن كافَّة الآراء في المجتمع، وغياب الأُطُر القانونية والمؤسَّسية للتعبير عن الرأي وممارسة النشاط السياسي، أصبح القمع والقهر بديلًا عن الرضا، وتعبيرًا عن استمرار الدولة في النهوض بممارسة مهامها الشرعية. فالدولة في إيران لم تُشِع القِيَم الأساسية لتأكيد شرعيتها، كتأكيد قيمة الديمقراطية وإشاعة مفهوم دولة القانون، وذلك كوسيلة فاعلة لدعم مفهوم المواطنة، وتحقيق التنمية الاقتصادية، وإشاعة العدالة الاجتماعية، وتبنِّي ِقَيم معيارية في توزيع الثروة والسُلطة، بما يضمن أهلية الدولة لتمثيل كافَّة مواطنيها على قدم المساواة، وبما يضمن في النهاية قوَّتها وسلامتها ووحدتها الإقليمية وشرعية نظامها.

غياب المساءلة والمحاسبة أتاح للسُلطة ممارسة القمع، دون الخوف من تحمُّل أيّ خسارة أو عواقب سياسية أو قانونية، كما أنَّ مطالب الجماهير لا تكون شاغِل الساسة والقيادات، حيث ولاؤهم الأساسي ليس نابعًا من تفويض شعبي، بقدر ما هو اختيارٌ وظيفي ضمن نظامٍ سُلطوي، أو عملية تمَّت في إطار مصالح متبادلة في نظامٍ يفتقد إلى الشفافية.

3. المحسوبية وضعْف شرعية المؤسَّسات:

اتّسم النظام السياسي الإيراني بطابع فردي، خلق معه محسوبيةً سياسية، تبرز بصورة جلية في الانتخابات، التي تحوَّلت من عملية تنافسية إلى عملية تصعيد انتقائي من جانب النُّخبة الحاكمة. فالولي الفقيه نواة النظام وتدور كافَّة المؤسَّسات في فلكه، ويلتف حوله مجموعة من المنتفعين، ويُعَدُّ هو المُمسِك بكافَّة التفاعلات، ومن ثمَّ فإنَّ الدولة والنظام والسلطة بلا حدود واضحة تفصل بينها، لا شكّ تتداخل مظاهر أزمة شرعية الدولة في إيران مع أزمةِ شرعيةِ مؤسَّساتها. إذ إنَّ البِنية المؤسَّسية لم تكتمل؛ وبالتالي تعاني من عدم النضج، كما أنَّها تعاني من ضْعف في الاستقلالية عن شخص الحاكم، وقد هدَّدت هذه العوامل شرعيةَ هذه المؤسَّسات وشرعيةَ الدولة، على المستوى الشعبي والسياسي والقانوني.

فعلى سبيل المثال، يخضع الحُكّام المحلِّيون والإقليميون المعيَّنون من قِبَل الرئيس المُنتخَب لسيطرة الفُقهاء وخُطباء الجمعة، والذين يمثِّلون المرشدَ الأعلى في هذه المُدُن والبلدات. فعلى الرغم من أنَّ هؤلاء ليسوا مسؤولين، لكنهم يتمتَّعون بقوَّة محلِّية كبيرة، من خلال وضعهم الاجتماعي والديني. كذلك، يتِم تقييد كلٍّ من عمليات ونتائج الانتخابات المرشِّحة لتولِّي مناصب في الفروع التشريعية والتنفيذية، من قِبَل رجال دينٍ غير مُنتخَبين. حتى الرئيس لا يستطيع اختيار أعضاء حكومته، دون التشاور مع المرشد الأعلى. وفي بعض الحالات، يلجأ نوّاب المجلس (البرلمان) إلى مدينة قُم «المقدَّسة» للتشاور مع الزعماء الدينيين، قبل تقديم مشروع قانون في المجلس التشريعي؛ لأنَّهم يعرفون أنَّه لن يُمرَّر دون موافقتهم. ([22])

ويتّسِع نطاق سُلطة المرشد الأعلى من خلال ممثِّليه، حيث ينتشر نحو 2000 منهم في جميع قطاعات الحكومة، ويعملون كوكلاء للقيادة الدينية. وفي بعض النواحي، يكون ممثِّلو المرشد الأعلى أكثر قوَّةً من وزراء الرئيس، ويتمتُّعون بصلاحيات التدخُّل في أيّ مسألة نيابةً عن المرشد الأعلى([23])، بل إنَّ إيران هي الدولة الوحيدة، التي لا تسيطر فيها السُلطة التنفيذية على القوّات المسلحة، بل تخضع مباشرةً لسُلطة المرشد.

لم تنتج الديمقراطية والانتخابات المزعومة في إيران أيَّ روحٍ تجديدية تتأكَّد من خلالها شرعية الدولة، فالنظام جعل من شرعية احتكار استخدام قوَّة الدولة أداةً للهيمنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل والثقافية، لقد تلاشت شرعية الأداء وظهرت بقوَّة شرعية القهر والقمع. وقد أدَّت مركزية الدولة في ظل ولاية الفقيه إلى خلْق محسوبية سياسية واجتماعية، أقصت معها المخالفين في الرأي، وأشاعت الفساد السياسي في غياب المسؤولية والمحاسبة، ومن ثمَّ غياب العدالة الاجتماعية، ورسوخ قِيَم التسلُّطية والفردانية وانتقالها من أعلى بنية السلطة إلى أسفلها، على مستوى الأبنية الاجتماعية المختلف، وارتبط ذلك بأمرين: الأول، غلبة «التعبئة» على «المشاركة» في علاقة الدولة بالمواطنين وضعف المشاركة الشعبية التطوُّعية. والثاني، عدم التوازن الوظيفي في بناء المؤسَّسات، فنمَت مؤسَّسات الحُكم والإدارة والأمن بدرجة تفوق بكثير نموَ مؤسَّسات المشاركة والتعبير عن الرأي والمصالح.

4. ضعْف العلاقة بين الدولة والمجتمع:

تُعَدُّ الانتخابات الآليةَ الرئيسية للمشاركة السياسية للمجتمع في رسْم سياسة الدولة، لكن طبيعة النظام في إيران جعلت من المشاركة السياسية ذات طبيعة رمزية، فالنظام يفرض وصايةً كاملة على المجتمع، حتى في العملية الانتخابية، التي يصدِّرها النظامُ على أنها مُعطى حداثي، لا تتعدَّى كونها شكلية، إذ إنَّ عمليات الانتخابات تخضع لعملية تدقيق وفلترة تسبق مشاركة المواطنين؛ ما يجعل الخيارات المتاحة منحصِرةً في تيّار سياسي يُدين بالولاء لولاية الفقيه، ومن ثمَّ فإنَّ عملية التمثيل السياسي متاحة فقط للتيّار الديني بوجهيه «المحافظ» و«الإصلاحي»، اللذان لم يقدِّما على مستوى السياسات تمايُزات حقيقية فيما بينهما. ومن ثمَّ، فإنَّ المشاركة السياسية بمختلف صورها، يقدِّمها النظام كعملية تبييض للوجه، وإخفاء للطبيعة الثيوقراطية، التي تتخلَّل كافَّة تفاعلاته. ولهذا، فإنَّ بعض من الفئات المهمَّشة سياسيًا واجتماعيًا، تلجأ لوسائل بديلة للمشاركة، سواءً الشرعية منها أو غير الشرعية، كالاحتجاجات المتواصلة، أو يتّجِه بعضها للعنف السياسي للتعبير عن مطالبها. وفي حقيقة الأمر، فإنَّ هذا العنف هو ردّ فعل بالأساس على حالة الانغلاق السياسي، وعلى عنف الدولة تجاهَ المجتمع وكبتها لقُواهِ السياسية والاجتماعية والمدنية.

5. غياب النقد الذاتي:

تتِم عملية الانتخابات في إيران ضمن إطار محدَّد، على مستوى التنافس والبرامج والطموحات وسقف نقْد السُلطة، وذلك لأن منظومة الحُكم تتِسِم بالفردانية، والدولة تدور في فلك شخص واحد وفكرة وحيدة، ومن ثمَّ فإنَّ مسألة النقد الذاتي كانت شكلية، والانتقادات الجَدِّية كانت تتعرَّض للتهميش والتشويه والاضطهاد، كما ظلَّت الانتقادات وقتيةً وجزئيةً وغير شاملة؛ وبالتالي غابت الرؤية الإستراتيجية لتقييم مشروع الدولة، ولم تُطرَح فعليًا رؤية متكاملة وشاملة لعملية الإصلاح.

لقد بدَّد الفساد الكثير من ثروات إيران ومواردها، وأثَّر سلبًا على الجهود التنموية، وأسهم في تنمية غير متوازنة وغير متوازية، خلقت ضمنها بيئةً محفِّزةً للعنف والجريمة والتطرُّف والهجرة غير المنظَّمة، والفساد بدوره كانت له تداعياته على هيكلة العلاقات الاجتماعية، في ظل بيئة غير مناسبة لنمو الديمقراطية وما تفرضهُ من قِيَم وآليات مسؤولة عن مواجهة الفساد. كل ذلك تنامى، في ظل غياب بيئة ناقِدة مصحِّحة لأخطاء الأنشطة السياسية المتعاقِبة

6. التأثير السلبي على التوجُّهات الخارجية:

على الرغم من أنَّ هناك وجهات نظر شعبية في السياسة الخارجية تجلَّت في انتخاب تيّارات تدعو لإعادة بناء العلاقة مع الخارج، وبناء توجُّهات أكثر تصالحية، لكن باعتبار أنَّ عملية الانتخابات فارغة المضمون، وأنَّ القرار السياسي بالأساس ليس للممثِّلين الشعبيين، بل بيد السُلطة الدينية المستبِدَّة، فإنَّ إيران عزلت نفسها عن العالم. وبدلًا عن الاستقلالية، أصبحت إيران خاضعةً للعقوبات والاستهداف الخارجي، بوصفها عنصرَ تهديد للأمن والاستقرار العالمي، وتم َّحصارها لعقود، وتعرَّضت لعقوبات جعلتها في وضْع ومكانة دولية لا تليق بتاريخها ومواردها وموقعها؛ لقد دخلت في نزاعات متعدِّدة مع جيرانها، ويبدو التعاون والتكامل في محيطها الإقليمي عند حدوده الدُنيا، إذ يراقب الجميع إيران بعيون حذِرة؛ نتيجة الطبيعة الثورية للدولة، والمشروع الخارجي الرامي إلى التمدُّد وتوسيع النفوذ، وما تبِعهُ من اضطرابات وعدم استقرار أصاب بعض الدول، على إثر هذه الطبيعة التدخُّلية.

إنَّ النظام الإيراني جعلَ من مشروع الدولة الخارجي قيدًا على تنمية المجتمع في الداخل، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، فكان تصدير الثورة لافتةً حاول النظام من خلالها صناعة شرعية داخلية، ووسيلة للتغطية على الإخفاقات التي مُني بها المشروع، والتآكل الذي بدا عليه. ولأنَّ العملية الانتخابية لا تراعي مطالب الجماهير، التي تنادي بإعادة النظر في المشروع الخارجي، فإنَّ النظام لم يلتفت لأصوات «إصلاحية» من داخله تدعو إلى الاستجابة لهذا المطلب، وظلَّ يدعم وفق توجُّهات أيديولوجية توسّعه وتمدّده على حساب رفاهية وحياة المواطن الإيراني.

إنَّ الدولة، التي نشأت لتعبِّر عن مصالح جماعتها الوطنية، ولتكون عنصًرا فاعلًا في المجتمع الدولي، عجزت عن أداء دورها على المستويين، ومن ثمَّ أصبحت في مواجهة الطرفين، وأصبح العنف المادِّي والمعنوي هو المسيطر على التفاعلات داخلها وفي مواجهة العالم.

7. تقييد عملية الإصلاح:

يمثِّل الحفاظ على النظام الهدف الأسمى لـ «الجمهورية الإسلامية»، وقد تحوَّلت الانتخابات من وسيلة للتغيير إلى وسيلة لبقاء الوضع القائم. ومنذ عام 2009م تحديدًا، وظَّف النظام أدواته لعرقلة أيّ تغيير يهدِّد النظام من داخله عبر الانتخابات، أو يهدِّد مكانة المرشد، وذلك من خلال هندسة مشهد انتخابي يُزيح عن المشهد أيّ وجوه «إصلاحية» كمحمد خاتمي ومهدي كروبي ومير حسين موسوي، وهو التيّار، الذي يسمِّيه النظام «تيّار الفتنة»، أو أيّ تيّار هناك شكوك في ولائه المُطلَق، كتيّار محمود أحمدي نجاد، الذي يسمِّه النظام «التيار المنحرِف»([24]).

لا تقتصر معوِّقات الإصلاح على رفْض مسألة التغيير عبر صناديق الاقتراع، بل قُدرة المؤسَّسات المهيمنة في النظام السياسي على تقييد سياسات أيّ حكومة لها توجُّهات ذات طابع إصلاحي، فمجلس صيانة الدستور لا يتوقَّف دوره على تحديد المرشَّحين قبل بدء عملية التنافس، بل له دورٌ رقابي على التشريعات، وهو ما يحولُ دون أيّ مبادرة إصلاحية من جانب البرلمان([25])، فهذه المؤسَّسات تستخدم القضاء لضرب الصـحافة المعارضة وملاحقة الرموز «الإصلاحية» والنُشطاء السياسيين، كما أنَّ مجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص مصلحة النظام، يُستخدَمان للتحكُّم في سياسات الحكومات، هذا ناهيك عن الأذرع الأمنية والعسكرية التابعة مباشرةً للسُلطات المهيمنة بقيادة المرشد([26]).

 لهذا، فإنَّ الخِطَط الإصلاحية لبعض الرؤساء الإيرانيين، من هاشمي رفسنجاني وحتى حسن روحاني، لا سيّما على الجانب الاقتصادي أو السياسة الخارجية، قد أُحبِطت نتيجةَ العائق الدستوري، الذي يعطي للمؤسَّسات الموازية حقَّ نقْض وإلغاء قرارات الحكومة. فعلى سبيل المثال، استخدم مجلس صيانة الدستور حق النقض ضد 111 من أصل 297 مشروع قانون في البرلمان السادس، الذي كان يسيطر عليه «الإصلاحيون» في عهد خاتمي، وكانت هذه المقترحات التشريعية تتعلَّق بدعم الحرِّيات المدنية، والمشاركة السياسية، وحقوق المرأة، وحظر التعذيب، وحرِّية الصحافة، وحقوق العُمّال، والرفاهية العامَّة([27]).

كما عانت حكومة روحاني في ظل هذه الازدواجية والتناقضات، من عدم سيطرة الرئيس وحكومته على ميزانية الدولة، إذ لم تستطِع السُلطة التنفيذية توجيه بنود الميزانية نحو الأولويات، التي كانت تراها ذات أهمِّية وفق برنامجها، وذلك بسبَّب المؤسَّسات الموازية والبنود والمخصَّصات غير المُعلَنة لبعض الجهات

٢٦ يونيو ٢٠٢٤م

والهيئات العُليا. وفي هذا السياق، عجزت حكومة روحاني عن إخضاع الحرس والحدِّ من دوره في توجيه السياسة الخارجية وتوغله الاقتصادي؛ بسبب النفوذ القوي والمكانة الخاصَّة والحماية، التي يتمتَّع بها داخل النظام([28]).

8. إغلاق المجال العام أمام الأجيال الجديدة:

لا تحقِّق الانتخابات في إيران التجنيد أو الحراك أو المشاركة، باعتبارها انتخابات غير نزيهة، ففلترة عملية التنافس مُسبَقًا لا تجعل منها تمرينًا سياسيًا ووسيلة لتدريب وإعداد وتأهيل النُّخَب الجديدة المتطلعة إلى الانخراط في العمل السياسي، وحتى مع محاولة الدفع بوجوه جديدة في الانتخابات وهندسة التنافس بين «الإصلاحيين» و«الأُصوليين» ليبدو أنَّ هناك انتخابات حقيقية، غير أنَّ هذا لم يؤدِّ إلى الدفع بوجوه جديدة لمراكز السُلطة الفعلية، أو عملية تغيير حقيقي عند هرم السُلطة، على مدى خمسة وأربعين عامًا، ولا إلى التمثيل والمساهمة الحقيقية بصُنع القرارات ووضع السياسات، بما يسهم في حيوية النظام السياسي وفعاليته.

خلاصة

يبدو في الحقيقة، أنَّ آلية الانتخابات لا تعدو كونها عمليةً إجرائيةً خاليةَ المضمون؛ لأنَّ الدستور من الأساس لم يضمن الفصل بين السُلطات، ولم يضمن حرِّية الحق في المشاركة والتمثيل، ولم يضمن عدالة أدوات الحراك والتصعيد السياسي داخل النظام. ولم يضمن الدستور كذلك حُكم القانون، والصلاحيات الممنوحة للعناصر المُنتخَبة هي محدودة ولها سقفٌ محدد، ومن ثمَّ فإنَّ مسألة تداوُل السُلطة لم تتعَدَّ عملية تقاسمٍ للأدوار بين القوَّة المهيمنة على النظام، حتى الانتخابات ذاتها مشكوكٌ في مصداقيتها ونزاهتها. ولهذا، على مدى خمسة وأربعين عامًا، تركَّزت السُلطة في يد الجيل الأول بقيادة المرشد ولا تزال، بل إنَّ النظام بقيادة المرشد يرغب في أن يحافظ على مسيرة النظام وآليات عمله، بما فيها الانتخابات، من خلال ما يُعرَف بالخطوة الثانية للثورة، والتي تعني تمكينَ جيلٍ جديد من مفاصل السُلطة، حيث يحافظ النظام على نهجهِ الثوري ونمطِ عملهِ المعتاد. لكن السؤال المُلِحّ هو: هل النظام لا يزال قادرًا على توظيف هذه الآلية لتأكيد نهجه وتجديد شرعيته؟ الحقيقة أنَّ نتائج جولات الانتخابات البرلمانية والرئاسية منذ فبراير 2020م، تُشير إلى أنَّ هناك قطاعات كبيرة من النُّخبة والشعب في إيران قد بدأت تفقدُ الثقةَ في هذه العملية الانتخابية، إذ بدأت تتراجع نِسَب المشاركة الانتخابية إلى حدود 40%، وذلك بدايةً من انتخابات مجلس الشورى في فبراير 2020م، وهو الأمر الذي يَظهَر أثرهُ في الانتخابات الرئاسية الجارية، حيث تبدو المشاركة أهمَّ قضية انتخابية، حتى أهمّ من أسماء المتنافسين وبرامجهم، إذ يُوجَد تيّارٌ لا يؤمن بجدوى المشاركة ويجدِّدُ دعوته للمقاطعة، وتيّارٌ يحشدُ ويجمِّلُ المشهدَ الانتخابي من خلال الدفع بممثِّل لـ «الإصلاحيين»، في حين أنَّ الجميع يعلم أنَّها مسألة توزيع أدوار، وأنَّ صناعة القرار فيما يتعلَّق بالقضايا الجوهرية داخليًا وخارجيًا أبعد ما تكون عن الممثِّلين الشعبيين. وفي الانتخابات الحالية، أيًّا كان الرئيس المُنتخَب «إصلاحيًا» كان أم «محافظًا/معتدلًا» أو «محافظًا/متشدِّدًا» ليس من المتوقَّع أن تخرج سياسة إيران عن خطِّها المعتاد، وهو ما يُنبئ بأنَّ الديمقراطية في إيران آيلةٌ للسقوط قَبل أن تنهض.


[1] S. Waqar Hasib, the Iranian Constitution: An Exercise in Contradictions, In Al Nakhlah, (Boston Ave, Medford: The Fletcher School –Tufts University, Article 1, spring 2004), p 3.

[2] Ibid. P 4.

[3] كونستاس أرمينجون هاشم، المذهب الشيعي والدولة: رجال الدين واختبار الحداثة، محمد أحمد صبح (مترجم)، (دمشق: دار نينوى، الطبعة الأولى، 2015م)، ص ص 131-132.

[4] محمد السيد سليم، ولاية الفقيه في صورتها المعاصرة، جريدة الشروق المصرية، (1 أغسطس 2009)، تاريخ الاطلاع: 1 يونيو 2024. https://2u.pw/XxI9WGWh

[5] الخميني، الحكومة الإسلامية، (طهران: شبكة الفكر، الطبعة الثالثة، 1389هـ)، المقدِّمة 7-22.

[6] دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية، (طهران: مديرية الترجمة والنشر، 1997)، الديباجة ص14.

[7] الخميني، الحكومة الإسلامية، مرجع سابق، ص 80.

[8] رانيا مكرم، طموح الأقلِّيات ومستقبل الدولة في إيران، في مجلة الدراسات الإيرانية (الرياض: المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، العدد السادس، مارس 2018م)، ص 41-43.

[9] دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، مرجع سبق ذكره، المادَّة 113.

[10] المرجع السابق، المادَّة 91-92.

[11]  Mehrdad Vahabi, Mohajer Nasser, Islamic republic of Iran and Its Opposition, Comparative Studies of South Asia, Africa and the Middle East, (Durham: North Carolina , Duke University Press, 2011), p 20.

[12]  İsmail Kurun, Iranian political system “Mullocracy”, Journal of Management and Economics Research, (Bandirma: Bandirma Onyedi Eylul University, Issue: 1 , Volume 15, January 2017), p 125.

[13] Kulsoom Belal, Elections and Political System in Iran, IPS Situational Brief (Islamabad: institute of policy studies, 2016), p 4-5.

[14] باكينام الشرقاوي، التغيير السياسي في إيران ما بين المتغيِّرات والقضايا، مركز الحضارة، بدون تاريخ، تاريخ الاطلاع: 24 ديسمبر 2018م. http://cutt.us/KRwe4

[15] Viewpoints Special Edition, The Iranian Revolution at 30, (Washington, The Middle East Institute, January 2009), p 25-26.

* يُقصَد بالمؤسَّسات الموازية، المؤسَّسات غير المُنتخَبة، التي يعتمد عليها المرشد في ضبْط المؤسَّسات المُنتخَبة، كمجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص مصلحة النظام وبين المرشد وغيرها.

[16] موقع الحُرَّة، للموافقة على قبول ترشيحاتهم للانتخابات.. إيرانيون يدفعون 300 ألف دولار رشاوى، (28 يناير 2020م)، تاريخ الاطلاع: 24 يونيو 2024م، https://2h.ae/vsWI

[17] Kulsoom Belal, Kulsoom Belal, Elections and Political System in Iran, Ibid, p 3.

[18]  İsmail Kurun, Iranian political system “Mullocracy”, ibid, p 124-125.

([19]) يتّسق هذا النص مع ما ورَدَ في الدستور، من أنَّ الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الاثنى عشري، ويبقى هذا المبدأ قائمًا وغير قابل للتغيير إلى الأبد (المادَّة 12).

[20] محمد بشندي، دولة الفقيه ومعضلة المؤسَّسية الحزبية في إيران، في مجلة الدراسات الإيرانية، (الرياض: المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، العدد الثالث، يونيو 2018م)، ص 16-18.

[21] عبد الغني عماد، “الانتقال المتعثر: صراع التقليد والحداثة في إيران”، مجلة الدراسات الإيرانية، (السنة الأولى، العدد الرابع، سبتمبر 2017)، ص 16-20.

[22] Viewpoints Special Edition, The Iranian Revolution at 30, Ibid, p 109.

[23]the structure of power in iran: An overview of the Iranian government and political system, Public Broadcasting Service (PBS), accessed: June 16, 2024. https://2u.pw/qDiwAhR

[24]  Hosein Ghazian, The Ninth Parliamentary Elections in Iran: Challenges and Perspectives, Heinrich-Böll-Stiftung, (21 February 2012), accessed June 2, 2020, p 4-6. https://2u.pw/5WLW7g1X

[25] Kulsoom Belal, Elections and Political System in Iran, Ibid, p 3-4.

[26] باكينام الشرقاوي، التغيير السياسي فى إيران ما بين المتغيرات والقضايا، مرجع سابق، ص 289.

[27] Viewpoints Special Edition, The Iranian Revolution at 30, Ibid, p 39.

[28] خبرگزاری ایسنا، جهانغيري: جهانگیری در مراسم رونمایی از ۱۰ دستاورد فناورانه جهاد دانشگاهی: بودجه دولت به گوشت قربانی تبدیل شده است، ۲۷(آذر ۱۳۹۷ ه ش)، تاريخ الاطلاع: 24 يونيو 2024. https://2u.pw/NW9jujYA

د. محمود حمدي أبو القاسم
د. محمود حمدي أبو القاسم
مدير تحرير مجلة الدراسات الإيرانية