يُعَدُّ الاستثمار في الإنسان من أولويات كثير من الدول، التي ترى أنَّ رأس المال الأساسي لها كدولة وأُمَّة هو الإنسان، خاصَّةً جيل الشباب، وتعمل على تسخير كل الطاقات لبناء القُدرات البشرية الوطنية، وخلْق الكفاءات، وتأهيل الشباب عبر مؤسَّسات التعليم؛ ليكونوا سواعد بناء مُساهِمة في النهضة الوطنية الشاملة. لهذا نجِد أنَّ كثير من الدول تضع القوانين والأنظمة الصارمة لضمان انخراط الأطفال، ذكورًا وإناثًا، في مسيرة التعليم، ومتابعة ذلك بحرص وحوكمة عالية، ومتابعة حالات التسرُّب من التعليم، ناهيك عن العمل بكُل الوسائل على التخلُّص من الأُمِّية الكاملة (عدم القُدرة على القراءة والكتابة بشكل كامل)، والذهاب أبعد من ذلك، من خلال مواجهة الأُمِّية الجزئية، مثل كيفية التعامل مع التقنيات الحديثة، وعلى رأسها الحاسب الآلي.
منذ عدَّة سنوات وأنا أتابع حالة الأُمِّية الكاملة في دول المنطقة، خاصَّةً الدول المُطِلَّة على الخليج العربي، ولقد لاحظت أنَّ دول الخليج العربية الست، التي كانت قبل رُبّما 60 عامًا أو أقلّ تعاني من انتشار الأُمِّية، أصبحت رائدة ومتقدِّمة جدًّا في تقديم الخدمات التعليمية بكُل المستويات، وصمَّمت برامجًا واسعة ومنتشِرة في أرجاء كل دولة؛ لمحاربة الأُمِّية والقضاء عليها. فعلى سبيل المثال، نجِد أنَّ نسبة الأُمِّية في السعودية كانت عام 1972م تصِل إلى 60%، بينما تؤكد آخر الإحصائيات انخفاضها إلى 3.7% في نهاية عام 2021م، وكانت قد بلغت عام2013 م ما نسبته 6.81% لجميع الفئات العُمرية للذكور والإناث. وهذا يعني أنَّها انخفضت خلال ثمان سنوات بنسبة 50% تقريبًا. وتهدُف السعودية وفق الرؤية الوطنية، إلى خفْض نسبة الأُمِّية إلى 0% بحلول 2030م، من خلال عدَّة برامج تطويرية تستهدف النسبة الأكبر من الأُمِّيين، وهُم كبار السن، إضافة إلى تقديم كافَّة سُبُل المساعدة؛ لتسهيل العملية التعليمية لهم، وتقديم مكافآت تشجيعية للمتفِّوقين منهم. الجدير بالذكر أنَّه بلغ الالتحاق بالمدارس ما تقارب نسبته 99%، وهناك أنظمة وعقوبات رادعة لمن يحول دون حصول الطفل على حقِّه في التعليم والانضباطية في الحضور لمقاعد الدراسة. هذه الإنجازات تقدِّم دلالة واضحة على توجُّه الدولة السعودية في مسار الاهتمام بالتعليم والتعلُّم، على كافَّة الأصعِدة، الأمر الذي يتماشى مع تقدُّم المملكة في كافَّة المؤشِّرات الدولية المختلفة.
في المقابل، نجِد أنَّ الأُمِّية في إيران تتزايد بشكل مستمِرّ ومتصاعِد، وهو مسار رُبّما معاكس لمعظم توجُّهات دول العالم. مؤخَّرًا، تحدَّث الوزير الأسبق للتربية والتعليم في إيران رئيسي يوسف نوري، عن وجود 9 ملايين شخصا أُمَّيًا بالكامل في البلاد، وقال إنَّه في الوقت الراهن وصل عدد الأطفال المتخلِّفين عن الدراسة في المراحل الدراسية الثلاثة حوالي 970 ألف طفلٍ، مضيفًا أنَّ الأُمِّية المُطلَقة في إيران تشمِل أكثر من 10% من تعداد السُكّان، ويعني وجود أكثر من 9 ملايين أُمَّي في البلاد، وهو رقم ضخم للغاية للأُمِّية في إيران. وقال نوري خلال مشاركته في برنامج تلفزيوني على القناة التعليمية، وفقا لإذاعة «فردا» الناطقة بالفارسية: «هذه الإحصائية لعدد الأُمِّيين، وفقًا لتصريحات للأفراد فوق الـ 6 سنوات وهُم أُمِّيين بصورة مُطلَقة، ولا يعرفون القراءة والكتابة، وتقديري لإحصائيات الأُمِّية المُطلَقة للعام الحالي في إيران أنَّها لم تتغيَّر».
وفي جزء من تصريحاته، أشار إلى الاختلاف في استهداف التعليم في إيران والدول الأخرى، وقال: «في الوقت الراهن، الاستهداف في إيران للتعليم من سن 6 أعوام إلى 49 عامًا، هذا في حين أنَّ الاستهداف في العالم للتعليم حتى آخر العمر. هذا يعني أنَّه على الرغم من وجود الأُمِّية وتصاعُدها في إيران، إلّا أنَّ النظام الإيراني توقَّف تمامًا عن محاربة الأُمِّية، لِمَن وصلت أعمارهم الخمسين عامًا فما فوق».
وسابقًا، أعلن مركز أبحاث البرلمان في العام 2019م، عبر تقرير له، أنَّ عدد الأُمِّيين بشكل مُطلَق في إيران يناهز الـ 9 مليون شخصًا، لكن في نفس العام، قدَّر البنك الدولي نسبة الأُمِّيين في ايران بنحو 11 مليون و600 ألف نسمة، بما نسبته حوالي 15% من عدد السُكّان. ووفقًا لتقرير «اليونسكو» الإحصائي لعام 2016م، فإنَّ حوالي 2% من شباب إيران بين سن 15-24 عامًا كانوا «أُمِّيين تمامًا»، بينما 63% ممَّن هُم فوق سن الـ 65 عامًا يعانون أيضًا من الأُمِّية.
ولكي نقدِّم مثالًا على تواضُع الجهود الإيرانية في مجال محاربة الأُمِّية، كانت نسبة التعليم بين الشعب الإيراني في عام 1996م، 79.5%. وبعد عشرین عامًا، أيّ في عام 2021م، بلغت نسبة التعلُّم literacy في إيران 88.74%. وإذا أخذنا بهذه النِسَب، فإنَّ التقدُّم في محاربة الأُمِّية خلال فترة تجاوزت الـ 25 عامًا بطيء للغاية، وهناك سنوات مثل عام 2006م، تراجعت فيها نسبة التعلُّم عن العام السابق، وهي رُبّما حالة نادرة على المستوى العالم، خاصَّةً في الدول، التي لا تعاني من الحروب والكوارث الطبيعية. وتصِل نسبة الأُمِّية في العاصمة طهران 6%، وفقًا لتصريحات رسمية نشرتها وكالة أنباء «موج» الإيرانية، بينما تنتشِر الأُمِّية بشكل أكبر في محافظات سيستان وبلوشستان، والأحواز (خوزستان)، وأذربيجان الغربية، ولرستان، وهرمزجان.
إلى جانب ظاهرة انتشار الأُمِّية هذه، هناك ظاهرة مرتبِطة بها، وهي تسرُّب الأطفال من مقاعد الدراسة، حيث تُشير الإحصائيات الرسمية الإيرانية، التي نشرها مركز أبحاث البرلمان الإيراني، إلى أنَّ العدد الكُلِّي للمتخلِّفين عن مقاعد الدراسة للعام الدراسي 2021/2022م، بلغ 911 ألف و272 شخصًا، بزيادة قدرها 26%، مقارنةً بالعام الدراسي السابق. ويقول التقرير إنَّ منحنى عدد تلاميذ المرحلة الإعدادية، الذين تركوا مقاعد الدراسة من عام 2015م حتى عام 2022م، كان تصاعُديًا، حيث وصل من 60 ألف تلميذ إلى 154 ألف تلميذ.
يقابل هذا الواقع من انتشار الأُمِّية وترْك المدارس، ارتفاع في أعداد الأطفال العاملين في إيران، حيث تُشير التقارير الرسمية الصادرة من إيران، إلى تحديد أكثر من 120 ألف طفل عامل في البلاد، 70 ألف منهم يتواجدون في العاصمة طهران، وهناك أكثر من 14 ألف و500 طفل مشرَّدين في الشوارع، أو ما يُعرَف في إيران باسم «أطفال الكراتين»، وفقًا لتقرير نشرته منظَّمة الرعاية الاجتماعية الإيرانية (State Welfare Organization of Iran)، في مارس الماضي. لهذا، صنَّف مركز الإحصاء التابع لـ«اليونسيف» في عام 2021م إيران، من أسوأ الدول للأطفال العاملين، وأنَّ الدول التي جاءت في الترتيب بعد إيران، هي اليمن وأفغانستان فقط، بينما تقدَّمت دولًا مثل العراق وسوريا وفلسطين على إيران، في هذا التصنيف الدولي.
ختامًا، إذا أرادت إيران التحوُّل الإستراتيجي من الثورة إلى الدولة، والتوجُّه نحو التنمية والاهتمام بالإنسان، وعلى رأس القائمة الأطفال وتعليمهم؛ فسوف تلحق ايران بركْب دول المنطقة تنمويًا، وتعزِّز من مراكزها في المؤشِّرات الدولية المختلفة. وفيما عدا ذلك، فقد نعود مجدَّدًا لذات الموضوع بعد عدَّة سنوات، ونجِد الأرقام السلبية تتفاقم، دون أن يحرِّك النظام ساكنًا.
المصدر: Arab News
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد